المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عصر المصادرة الثقافية



08-08-2004, 10:31 AM
تمهيد:

منظروا الحداثة يقولون إن عصرها هو عصر المساءلة، عصر وضعت فيه كل المؤسسات القديمة المادية والمعنوية، كل الأشكال الفكرية والفنية التي بناها الإنسان في تجربته الطويلة مع الحياة قيد المساءلة وأمام امتحان إثبات الجدارة بالوجود والأغلب أن لا تنجح هذه المؤسسات والأشكال في هذا الامتحان الحداثي ويعمل "المناضلون" الحداثيون على إزالتها من الوجود بلا رحمة لأنها على رأيهم عائق أمام الحرية والتقدم لا بد من تحطيمه.
لا فرق أكان الحديث عن المؤسسات الاجتماعية القديمة أم السياسية أم كان عن المنظومات الدينية أم عن الأشكال الأدبية والفنية. كلها ينظر إليها بمنظار التعالي والاستكبار كما ينظر الابن المتعلم الحديث إلى أبيه الأمي الغارق في أفكاره التقليدية وخرافاته وأوهامه.
يتكلمون كثيراً عن سمة المساءلة في عصر الحداثة ولكنهم فيما أرى لا يذكرون سمة أخرى لهذا العصر أراها أنا جديرة بالذكر وهي سمة المصادرة.
الحداثة هي منطقياً استمرار للعصر الذي سبقها، ومؤسساتها لم تنبثق بلا خبرة سابقة وتطور طبيعي على طريقة منيرفا التي خرجت دفعة واحدة من رأس جوبيتر كما قال قدماء اليونان ولكن منظري الحداثة عندهم ميل غريب للجحود وإنكار أي دور للماضي في بناء مفاهيم وممارسة مؤسساتهم المادية والمعنوية التي هي موضع فخرهم. وليتهم اقتصروا على الجحود فهم زادوا عليه ميلاً فاقعاً إلى مصادرة المفاهيم لحسابهم فحتى لو أكد لنا التاريخ مثلاً أن "الشعر" اختراع قديم تجدهم ينكرون أن يكون الأقدمون قد فهموا "حقيقة الشعر" وأن "الشعر الحقيقي" لم يظهر إلا على أيامهم ولو دققت في تنظيراتهم فستجد أن هذا هو حقاً معنى ما يقولون وإن اختلفت صيغ التعبير.
ونزعة المصادرة في الحداثة التي أنا بصدد الكلام عنها تنبثق من هذا الميل فحيث أن الحداثة في الواقع ورثت المؤسسات القديمة وفي النظرية أنكرت هذه الوراثة فقد كان لا بد من بروز نزعة المصادرة التي تتلخص في اغتصاب المفاهيم القديمة والادعاء أنها لم توجد على حقيقتها إلا مع الحداثة وفي هذا المقال سأذكر مثالي "الشعر" و"العلم" كمفاهيم صودرت ملكيتها من مخترعيها الأصليين ونسبتها الحداثة إلى نفسها معلنة أنها مفاهيم "لم توجد على حقيقتها" إلا بفضل الحداثة.
خطر على بالي الحديث عن هذه السمة بمناسبة قراءتي لمقال وسجال. المقال كان في استنكار أن يطلق علماء الدين الإسلامي على أنفسهم اسم "العلماء" وبدا لي أن التعليق عليه قد ينير جانباً من جوانب نزعة المصادرة الحداثية في مثال مفهوم "العلم" والسجال تمثل في مجموعة من المقالات نشرتها للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي جريدة السفير تباعاً بالتعاون مع وكالة الأهرام للصحافة وساجل فيها حجازي دعاة قصيدة النثر وقد دخل في النقاش عدد من الشعراء والمهتمين الذين نشروا في جريدة "أخبار الأدب " المصرية ردودهم وبدا لي أن التعليق على هذا السجال قد يعينني في توضيح ما عنيته بنزعة المصادرة عند الحداثة في مفهوم "الشعر" وفي التعليق على هذا السجال سأبدأ أولاً علما أنني لم أقتصر في المناقشة كما سيرى القارئ على ما قيل في هذا السجل بل عدت أيضاً إلى تنظيرات أقدم للشعر العربي منها تنظيرات أدونيس.






1-مصادرة مفهوم "الشعر"

- هاجس الشرعية
في هذه المقالات تكلم حجازي عن مكان قصيدة النثر في الشعر ويرى القارئ للمقالات أن هاجس "الشرعية" يهيمن عليها وأعني بهذا الهاجس السؤال عن "الممثل الشرعي للشعر الحقيقي" وقد رد عليه في السفير أيضاً عباس بيضون وكان الرد مسكوناً أيضاً بهذا الهاجس وإن كانا كلاهما قد أخذا في الحقيقة موقفاً معتدلاً لا يماثل الموقف الحداثي الجذري المصادر الذي يريد أن يقول إن ما عرفته البشرية لحد الآن باسم الشعر لم يكن "شعراً حقيقياً" وإن "الشعر" بالتعريف هو هذا الذي اخترعوه هم على أنقاض "الشعر الزائف" الذي هو كل "ما توهمت البشرية أنه شعر" بل وجدنا من يصل في المغالاة إلى حد إنكار صفة "قصيدة النثر" على ما ينشر في المنابر الأدبية العربية على أنه كذلك.(1)
حجازي يقول: "من حق قصيدة النثر أن توجد، وأن تولد عل مهل بصرف النظر عن رأيي أو رأي غيري ممن يعتقدون بأن علاقتها بالشعر علاقة ضعيفة، لأن لغة الشعر تعتمد على الإيقاع الذي يتحقق بالوزن قبل أي عنصر آخر. والجميع الآن يسلمون لقصيدة النثر بحقها في أن تجرب نفسها وأن توجد. والمشكلة أن أصحابها لا يكتفون بهذا الحق، ولا يريدون أن يعتبروا مجرد محاولين أو مجربين، بل يريدون أن ينتزعوا من الجميع اعترافاً مسبقاً أو توقيعاً على بياض الورقة التي لم يكتبوا فيها قصيدتهم بعد بأنهم شعراء. وأكثر من هذا يريدون أن يعتبروا هم الشعراء، وأن يمثلوا وحدهم الشعر العربي في المحافل القومية و الدولية. وهذا هو الطغيان الذي دعوت إلى مواجهته ولقد كنا ننكر على الشعراء والنقاد المحافظين طغيانهم، مع أنهم أقرب من غيرهم لتراث الشعر، وأولى بادعاء تمثيله. لكننا لا نقبل هذا الطغيان لأننا نعتقد أن كل طغيان شر، وأن كل استبداد فساد مهما كانت مغرياته وتبريراته.فكيف نقبل الطغيان من تجربة لم تكتمل ولم تنضج، ولم تقنع أحداً بأنها صارت جديرة بالوجود إلى جانب غيرها، بله أن تقنعه بأن توجد وحدها وان تحل محل أي شعر آخر"(2).
وخاتمة هذا الاستشهاد طريفة كما يرى القارئ فقد بدأ حجازي بالإقرار لقصيدة النثر بحق الوجود ثم انتهى إلى القول إنها لم تقنع أحداً بحقها في الوجود!
أما عباس بيضون فرد عليه بالقول "وجدت قصيدة النثر، وجدت بحضورها واستمرارها وحدها ولا يحتاج الشعر وزناً أو نثراً لأكثر من ذلك ليوجد" (3)
و بيضون يقول في هذا المقال: "قصيدة النثر تختلف عن قصيدة الوزن بحيث تستوي إزاءها نوعاً آخر لا بديلاً".
بهذا القول يكون بيضون "عدّاه العيب" كما يقول إخواننا المصريون فلم يصادر حق الأنواع الأخرى من الشعر في الوجود مثبتاً بهذا أنه أعقل من زملائه في التيار "المفرط في الحداثة" الذي ينكر صفة الشعر على ما سبقه معطياً بهذا الغلو الحق لأنصار ذلك الشعر السابق أن يردوا له التحية بأحسن منها فيعدونه مدعياً نصاباً.
وما يهمني هنا هو لفت انتباه القارئ إلى هم إثبات الحق في الوجود الذي يحرك المتساجلين حجازي و بيضون وآخرين شاركوا في السجال في أسبوعية "أخبار الأدب" المصرية.
- شرعية مكونات الشعر
حجازي يواجه مسألة جدوى وجود الوزن في الشعر( فمن بديهيات كتاب الشعر المنثور أن الوزن مجرد حلية شكلية لا داعي لها ولا تفعل أكثر من تقييد الشاعر وأن "الشعر الحقيقي" يكمن في عناصر لفظية ومعنوية أخرى) فيقول إن الشعر ليس مجرد معنى يمكن أن يستقل والمعنى ليس دلالة فقط بل هو دلالة وصوت ويقول إن الشعر تجربة عقلية انفعالية تتحقق بلغة خاصة وعمل الشاعر منصب على تزويدها بأقصى ما تستطيع من طاقة لتتمكن من أن تنسلخ من وظيفتها العادية لتؤدي وظيفتها الشعرية وإيقاعات الألفاظ تتشارك مع العلاقات المعنوية لهذه الألفاظ في صنع اللغة المجازية التي هي مادة الشعر وقوامه فالوزن طاقة تساعد الكلام على أداء الوظيفة الشعرية مثله مثل اتصال الدلالات وتداخلها وتقاطعها.إن الوزن هو الجناح الآخر للمجاز إلى جانب الصورة الشعرية.
لنلاحظ هنا أن "المساءلة" في الحداثة تنتهي دوماً بالمصادرة! فقد بدأ الحداثي مثلاً في "مساءلة" مؤسسة الوزن والقافية عن مبررات وجودها وانتهى إلى مصادرة هذه المؤسسة لصالحه "فالوزن الحقيقي" هو "الإيقاع الداخلي" أما ما كان لحد الآن معدوداً إيقاعاً فهو مجرد قعقعة خارجية –"دربكة" كما عبر عنها مشارك في المساجلة التي نحن بصددها.
في بداية هذا القرن ظهرت الفكرة القائلة أن الوزن والقافية قيدان يقيدان الشاعر فخليل مطران يقول: "إن الفن ينضج في جو من الحرية وهذه القيود الثقيلة، قيود القافية الواحدة والوزن الواحد تتعارض مع حرية الفن" (4)
وكان الزهاوي قبل ذلك قال عن القافية إنها "عضو أثري قد بقي من كلمات كان يكررها في آخر كل بيت النادب في المناحات والمتحمس في الحرب والصدام يوم تولد الشعر في عصور الجاهلية الأولى، ولا بد من زواله بالتمام لعدم فائدته اليوم ولتقييده الشعر فلا يتقدم حراً كبقية الفنون. فإذا حرر الشعر من قيود القافية، انصرف الشعراء إلى المعاني التي يريدونها لا إلى الألفاظ، وإلى الشعور الحقيقي الذي تجيش به نفوسهم لا إلى الشعور الكاذب الذي تضطرهم إلى تصنعه ضرورة القافية وضرورة كونها على صورة خاصة من صور الإعراب في آخر كل بيت".
جدوى الوزن والقافية أصبح مشكوكاً بها إذاً وقد كان هذان العنصران يعدان عنصرين مميزين للشعر عن النثر فيما مضى وإن كنا نرى كثيراً من مفكري تراثنا يؤكدون إن الوزن والقافية لوحدهما ليسا هما ما يميز الشعر.
وحيث أن الوزن والقافية على كل حال مكونان من مكونات الشعر منذ أن نشأ فإن الشك في ضرورتهما هو شك في أحقية جزء مكون من الشعر القديم في الوجود على الأقل.
- الوضوح والشرعية
ولكي يصل التشكيك إلى أحقية الشعر نفسه في الوجود كان لا بد لنا من نظريات لاحقة تتعلق بالبعد الميتافيزيقي للشعر إن جاز التعبير وقد تكفل بإنشاء هذه النظريات أو نقل بعضها عن الفرنسية المنظر الأساسي للحداثة الشعرية العربية أدونيس.
هذا البعد الميتافيزيقي الحدسي الذي لا يمكن البرهان عليه ولا تحديده منطقياً رفع سلاحاً في وجه الشعر العربي كما عرفناه إلى الآن وقد كان أدونيس أذكى من متعصبي الحداثة الآخرين فلم يلجأ إلى شطب الشعر العربي الذي وجد إلى الآن بجرة قلم بل لجأ إلى قراءة حدسية صوفية على طريقته للشعر القديم فاعدم وجوده فعلياً لا عن طريق الإعلان أنه غير جدير بالوجود بل عن طريق إعادة تأويله تأويلاً باطنياً على طريقة المتصوفة في تأويل القرآن بحيث أصبحنا حيال نصوص جديدة وإن كانت الألفاظ لم تزل على حالها!
لقد اجتث أدونيس شرعية الشعر القديم باجتثاثه لشرعية تأويله الظاهر لأنه عدو الوضوح في الشعر ويرى أن الشعر الواضح ليس شعراً حقيقياً.
يقول في كتابه الذي نشره في مطلع السبعينات "مقدمة للشعر العربي": "ولئن كان الوضوح طبيعياً في الشعر الوصفي أو القصصي أو العاطفي الخالص، لأنه يهدف إلى التعبير عن فكرة محددة أو وضع محدد، فإن هذا الهدف لا مكان له في الشعر الحق" (5).
كما نلاحظ أسقط أدونيس بجرة قلم الشعر الوصفي والقصصي والعاطفي الخالص من ملكوت "الشعر الحق" وليس العرب فيما أظن هم أول من سيحتج على هذا القول إن سمعه بل ربما من سيحتج أولاً هم اليونان الذين كان شاعرهم الأكبر هوميروس أول من سيسقطه أدونيس من سجلات أهل "الشعر الحق".
- الشرعية والعصرية
إذا كان حضور واستمرار قصيدة النثر عند بيضون يكفي للقول إن هذه القصيدة موجودة فإن هذا البرهان البديهي غير كاف عند أدونيس فقد يكون الشعر موجوداً وشائعاً عند الناس ولكنه ليس "عصرياً" وقد يكون نوع آخر من الشعر معزولاً لا يقرؤه أحد ولكنه يكون هو "العصري" أي هو الممثل الشرعي الوحيد للعصر! وهذا ما يقوله أدونيس بمناسبة حديثه عن قصيدة مطران "المساء": "إذا قسنا عصرية القصيدة بمدى انتشارها بين الناس، كانت هذه القصيدة اقل عصرية من أية قصيدة لشوقي، مثلاً. فشعر خليل مطران ما يزال حتى الآن قليل الانتشار. لكن في حين يتقلص شوقي، يأخذ مطران بالامتداد شيئاً فشيئاً، لكن بصعوبة. يمكن، بناء على ذلك، أن نستنتج أن القصيدة لا تكتسب عصريتها من كونها منتشرة جداً في مرحلتها الزمنية، بين الناس" (6)
هكذا نرى أن مبدأ بيضون في كفاية الحضور والاستمرار لا يكفي أدونيس للحكم على شرعية الشعر ومن المفهوم طبعاً أن الشعر غير العصري هو مثل المعلبات التي انتهت مدة صلاحيتها غير صالح للاستهلاك الآدمي فهو ليس شعراً حقيقياً لأنه بكل بساطة زائف فهو بالبداهة لا يعبر عن عصره وبالتالي فهو اصطناع كامل: "في حين تبدو قصيدة مطران نبتة صغيرة لكن في تربة طبيعية ومناخ طبيعي، تبدو قصائد شوقي نباتات طويلة لكن في تربة اصطناعية ومناخ اصطناعي. الأولى أكثر اتصالاً بالحاضر، والثانية أكثر اتصالاً بالماضي. الأولى تختار الحياة والإنسان قبل التقليد، والثانية تختار التقليد قبل الحياة والإنسان"(7)
قول أدونيس هذا يستحق بالفعل تحليلاً مطولاً جداً لمفهوم الحداثية العربية عن الإنسان والحياة ومصادراتها ولكنني هنا أكتفي بالإشارة إلى نقطة أحسب القارئ قد انتبه إليها وهي أن أدونيس يخرج ما يدعوه بالتقليد من ملكوت "الإنسان والحياة" ولكنه للأسف لم يبين لنا النقطة التي يغادر فيها الشاعر إذا تجاوزها عالم "الإنسان والحياة" ليدخل عالم "التقليد".
إن الزمن في الواقع متصل ولكن الحداثي يصادر على انقطاعيته فهو يرى أن ما كان في الماضي لا علاقة له بما هو موجود في الحاضر ومن هنا يكون مقلداً خارجاً عن عصره كل من يتابع سيره على خطى من سبقه ويكون عصرياً كل من قطع مع الماضي وبدأ في سلوك جديد غريب عما يعهده مجتمعه وإلا فكيف تكون القصيدة غير عصرية رغم انتشارها وعصرية رغم عزلتها؟
- عصران متزامنان
لا بد لفهم ذلك من الخروج من الإطار الحدسي– الصوفي (أو الصوفي المزعوم بالأحرى فقد فعل أدونيس بالصوفية الحقيقية التاريخية ما فعله بالشعر العربي: أبقى عليها لفظياً وأعاد تأويلها على طريقته ومزاجه) الذي صاغ به أدونيس حكمه الصارم وإعادة القضية إلى بعدها الواقعي: إن عصرنا الثقافي هو بالفعل عصران متغايران: عصرنا الطبيعي وعصر الغرب وحين نكون امتداداً لعصرنا الخاص فإننا نكون في قطيعة مع عصر الثقافة الأخرى والحال أن هذا بالضبط ما يدعوه الحداثي بالتخلف عن "العصر" إذ أن الممثل الشرعي الوحيد للعصر عند الحداثية العربية هو الغرب والعصرية هي الثقافة الغربية والتقليدية هي الثقافة المحلية أو سمات الثقافة المحلية التي لم تتغرب بعد.
- مرجعية الغرب في تحديد الشعرية والنثرية
وقد يهدينا هذا التحليل إلى تفسير لا يخطر على البال لظواهر من نوع نشوء الشعر النثري فقد نسأل: إذا كان الأقدمون كما يقول الأستاذ حجازي و أدونيس أيضاً في بعض المواضع كانوا رواداً للنثر الشعري (في مقال حجازي الذي ذكرته قبل قليل يذكر من أمثلة هذه الريادة لغة القرآن والتوراة ولغة التصوف وإشارات أبي حيان التوحيدي) فلماذا لم يخطر على بالهم أن يسموا هذه الكتابات شعرا؟ً وأعني طبعاً الأمثلة جميعها باستثناء القرآن الكريم الذي لا نجادل نحن المسلمين لا قديماً ولا حديثاً في أنه ليس شعراً ولا نثراً بل هو كلام الله وحسب.
ولنعكس السؤال لنصل إلى بيت القصيد: لماذا يصر المحدثون على تسمية هذا النوع من الكتابات شعراً مع أن اللغة لم تضق بأنواع التسميات الممكنة؟
وأنا أعرف أن هذا السؤال سيبدو لإخواننا هؤلاء غريباً جداً ذلك أن الحداثة العربية لم تبدأ إلى الآن بنقد نفسها ومراجعة مسلماتها ومن أسباب ذلك أن هذه المسلمات قد أتت من مرجع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ألا وهو الغرب.
وجوابي أنا على هذا السؤال هو أن أصحابنا سموا هذه الكتابة شعراً لأن مثل هذه الكتابة تسمى في الغرب كذلك!
ولأجل الاقتناع بذلك ما علينا إلا أن نمارس تمريناً عقلياً يسمونه "سيناريو تخيلياً" فنقول: لنفرض أن هذه الكتابة لا تسمى في الغرب شعراً وإنما تسمى مثلاً باسم ثالث فيكون في الغرب ثلاثة أشكال هي النثر والشعر وهذا الشيء الثالث. ألن يلجأ أصحابنا عند ذلك إلى ترجمة هذا الاسم الثالث بكلمة أخرى غير "النثر" و "الشعر" ويعدوا تميز هذا الكائن الأدبي عن النثر وتميزه- وهنا بيت القصيد- عن الشعر مسلمة بديهية كما يعدون انتسابها إلى الشعر الآن مسلمة بديهية؟
- تضييق هوامش الإبداع
النزعة الحداثية للمصادرة هي بآن واحد نزعة لتضييق هوامش الإبداع ولاستبعاد أشكال الإبداع التي لا تتناسب مع الدوغما الحداثية أو لا تتناسب مع تفضيلاتها الجمالية ذات الأصل الاستلابي غالباً كما ذكرت في مقالات كثيرة سابقة.
وبالمقارنة مع هذه النزعة الحداثية الاستبعادية الاستبدادية كانت الثقافة العربية قبل الحداثة أوسع أفقاً وأكثر قبولاً للتنوع الإبداعي فأجدادنا تقبلوا الشعر الفلسفي كما تقبلوا شعر المجون وتقبلوا الشعر الفصيح كما تقبلوا الزجل وتقبلوا بحور الخليل كما تقبلوا الموشحات والدوبيت وتقبلوا أبا تمام كما تقبلوا والبة وأبا نواس ولم يحاولوا أن يصدروا فرماناً يحدد شروطاً صارمة لمن يريد أن يدخل البلاط الشعري ومن العجب حقاً أن تعبر الحداثة العربية عن كل هذه النزعة للاستبداد ثم تظل تؤكد أنها هي ولا أحد غيرها المبشرة بعصر حرية الإنسان وتحرره من القيود!


2-مصادرة مفهوم "العلم"

- من هو العالم" ما هو "العلم"؟
ولإيضاح نزعة المصادرة الحداثية في التعامل مع مفهوم آخر هو مفهوم "العلم" سآخذ مثالاً مقالاً نشره "صقر أبو فخر" في النهار(8) ينكر فيه على علماء الدين المسلمين تسميتهم بالعلماء لأن "العلم" ما هو إلا العلم الطبيعي الحديث و "العالم" هو صاحب هذا العلم الممثل الشرعي الوحيد لمفهوم "العلم".
وحين قرأت ما كتب أبو فخر خطر على بالي (وأعترف أن ما خطر على بالي كان مبالغاً فيه كثيراً!) ادعاء الصهيونية أن فلسطين كانت يهودية دوماً حتى لو أنها لمدة عشرين قرناً ما كان فيها أي يهودي!
"كيف يسمون رجل الدين عالماً؟"يتساءل السيد صقر أبو فخر بحرقة وحيرة واستنكار فعلماء الشريعة على رأيه "تسلبطوا"على هذا اللقب"عالم" بغير حق وهو يعد هذا الاغتصاب الذي قام به "رجال الدين"جزءاً من جرائم ومخاز كثيرة فعلوها يعددها في مقاله.
يقول معيد الألقاب إلى أهلها السيد أبو فخر:"ما علاقة رجال الدين بالعلم؟وكيف يسمون رجل الدين عالماً؟إن أمثال هذه العبارات من عيار "علماء الدين" أو من طراز "علماء الفقه والحديث"ما هي إلا مصطلحات زائفة ومضادة للعلم من الألف إلى الياء، واعتداء على العقل والعلم والمعرفة وحقائق الأمور معاً.فرجل الدين ليس رجل علم البتة، إنما هو رجل دين وكفى فهو اختصاصي في المسائل التي يتقنها مثل الزواج والطلاق والحلال والحرام والحدود والمواريث والأحاديث والمناسك وتلاوة الآيات وتجويدها فإن علا صار فقيهاً يجيد الفتوى ويعرف القياس والمقابلة والجرح والتعديل واستحلاب النتيجة من النص وإن هبط صار مجرد رجل للتفكهة يعتمر العمة ويلبس الجبة ويطلق اللحية ويحمل السبحة.فوق هامته يلتف ثعبان هندي راكد وفي نخاع رأسه يقعي بدوي راقد"
السيد أبو فخر كما يرى القارئ هو لحد الآن مجرد هجّاء-بتشديد الجيم-ولكنه سرعان ما ينقلب إلى فيلسوف أبيستمولوجي كما يقال :"إن كلمة علم لها معنيان يفترقان صقعاً (؟) ويشتركان لفظاً فالعلم النافع هو المعرفة بالأشياء وإدراك الحقائق واكتشاف ما وراء الصورة والنفاذ إلى الجوهر كالانتقال من الفيزياء إلى الكيمياء، أي العلم التجريبي أو الرياضي أو البرهاني أو الاستنباطي أو حتى النظري. والعالم هنا هو العالم بالطبيعة والأشياء والآلة والإنسان.أما العلوم الأخرى فهي "العلوم المدونة" مثل "العلوم" الدينية أي معرفة الأحكام الاعتقادية والشرعية"
صاحبنا يخبط خبط عشواء ويناقض لاحقاً ما جاء به سابقاً فقد كنا علمنا منه أن علوم الشريعة ليست بعلوم ثم نراها هنا "علوماً مدونة" ونراه يتكلم عن معنيين لكلمة علم واحد منهما يتعلق بالعلم النافع فينسف بهذا "أطروحته"التي تقول إن كلمة "علم" و"عالم" لها معنى واحد هو الذي في رأسه ويرى القارئ بسهولة أن نخاع رأس عالم الشريعة أحسن حالاً على كل حال من نخاع رأس أخينا ففيه "يقعي" شيء واحد على الأقل بلا تناقض وهو البدوي الراقد.
ليتخيل السيد أبو فخر أن شخصاً آخر غير اسمه وسمى نفسه "صقر أبو فخر" ثم لم يكتف بذلك بل جاء يقاضي صقر أبو فخر كاتب هذا المقال في النهار لأن أبو فخر قد سمى نفسه باسمه زوراً لأنه هو –أي هذا المغتصب النصاب للاسم- هو صقر أبو فخر الحقيقي.
حال علماء الشريعة مع السيد صقر مثل حاله الذي سيكون مع هذا المستعير المغتصب لاسمه فاسم "العلم" هو أساساً ابتكر لوصف علم الشريعة الإسلامية منتقلاً من معناه الأصلي المقابل للجهل.
والعالم هو الخبير بهذه الشريعة أو بقسم من أقسامها الكبرى-فهناك عالم حديث وعالم أصول فقه وعالم فقه وأطلق لقب عالم أيضاً على عالم اللغة والمختص بالأدب أيضا. كما نرى مثلاً في رثاء أبي نواس لخلف الأحمر وهو عالم بالشعر:
"أودى جميع العلم مذ أودى خلف من لا يعد العلم إلا ما عرف"
ثم جاء المترجمون الحديثون فشاؤوا أن يستعيروا لفظ"العلم" ليصبح ترجمة عربية لكلمة science وتعني كما نقرأ مثلاُ في قاموس أكسفورد للطلاب:"معرفة منظمة خصوصاً المعرفة المستحصلة بملاحظة واختبار الحقائق"
واستعاروا أيضاً اسم "عالم" بالذات من هؤلاء المساكين الذين ينكر عليهم السيد أبو فخر تسميتهم أنفسهم باسم هو أصلاً اسمهم- أليس هذا اغتصاباً فريداً في وقاحته:أن لا تتنازل عن اسمك للآخرين الذين أعرتهم إياه؟!!
اسم "عالم" استعاروه لترجمة كلمة scientist ومعناه في قاموس أكسفورد المذكور:"شخص خبير في واحد أو أكثر من العلوم الطبيعية أو الفيزيائية"
لا يصعب على القارئ أن يلاحظ أن السيد صقر أبو فخر لا يستند فيما كتب إلا إلى مفهوم سطحي عن ما ندعوه الآن بالعلم الطبيعي و"العلم" عموماً وعن "العلم" كما عرفه أجدادنا وهو العلوم النقلية وعلوم اللغة والأدب كما قلنا-بالمناسبة لم يدخل بهذا المفهوم لا الفلسفة ولا العلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء والطب ولا الرياضيات أيضاَ فالمختصون بهذه الأخيرة كانوا يدعونهم "الحكماء" والواحد منهم"حكيم".
وقد حصل توارد خواطر غريب حقاً بيني وبين الأستاذ أبو فخر ولكنه توارد خواطر متناقضة فما خطر على بال الأستاذ أبو فخر كان خاطراً على بالي منذ أيام قبل أن أقرأ مقالته ولكن بالعكس:هو خطر على باله أن يحتج على تسمية علماء الشريعة أنفسهم باسم"العلماء" وأنا خطر على بالي أن أحتج على تسمية الباحثين المختصين في الفنون الطبيعية باسم العلماء وإذا كان السيد أبو فخر لا يستند في احتجاجه إلى أكثر من الجهل بتاريخ مصطلح"العالم" و"العلم" علاوة على انعدام الروح النقدية التي تجعله لا ينتقد المفهوم الساذج الذي يجعل من الفنون النظرية والعملية التي يسمونها"العلم الطبيعي" المسيح المخلص وآخر الأنبياء والمصدر الوحيد للمعرفة والأخلاق وهو مفهوم هجره الأوروبيون أنفسهم في عصر ثقب الأوزون وجنون البقر وانهيار العائلة وجنون التسلح وتحول الغالبية السكانية إلى عاطلين عن العمل فإنني في احتجاجي أستند أولاً إلى معرفتي الطويلة بالتراث التشريعي والأدبي واللغوي العربي وأستند ثانياً إلى خبرتي بالفكر الأوروبي وتعودي على النظر إليه بلا انبهار كما هي حال المثقفين عندنا أمثال السيد أبو فخر وكما كانت حالي أنا أيضاَ كذلك قبل عهد المنفى وإلى خبرتي بالمجتمع الغربي الذي أعيش فيه منذ أعوام طويلة.
احتجاجي على استعارة مصطلح "عالم" من أهله الذين هم أحق به خلافاً للسيد أبو فخر ليطلق على الخبراء في الفنون المتعلقة بالطبيعة نظراً وعملاً ناتج عن كون هذا المصطلح يعني في الأصل الذي يعرفه كل من يعرف دلالات الصيغ الصرفية العربية المعرفة الناجزة،النهائية وهذا يناسب بصورة نموذجية ما ندعوه"العلوم النقلية" فالمعلومات موجودة والعالم عليه حفظها وجمعها من مصادرها حتى إذا عرفها قلنا عنه "عالم" وهو تعبير يدلنا على أنه وصل تقريباً إلى نهاية الشوط وليس كذلك الباحث الطبيعي فهو لا يصل إلى نهاية الشوط حتى نقول عنه بضمير مرتاح "إنه عالم".
أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام منتهية فمن عرفها صح أن نقول عنه "لقد علم" بمعنى أن لديه كل المعلومات في هذا الباب ومن الناحية النظرية كلمات اللغة محدودة فمن عرفها قلنا عنه أيضاً "إنه عالم بكلمات اللغة" وليس كذلك كما قلنا الذي يبحث في أسرار الطبيعة ومن هنا أرى أن الذين ترجموا science بكلمة "علم" و Scientist بكلمة"عالم" لم يحالفهم التوفيق.
وأقترح ترجمة الكلمة الأولى "البحث الطبيعي" وترجمة الكلمة الثانية "الباحث الطبيعي".
المشكلة أن الظلال القديمة لكلمة"عالم" ترافقها في استعمالها الحديث فنجد العرب يعتقدون أن "عالم الفيزياء" هو الشخص الذي أحاط بكل المعلومات عن الفيزياء فلم تفلت منه شاردة ولا واردة وحتى"عالم الاجتماع" هو في تخيلنا "من يعرف كل شيء" عن المجتمع وفي هذا تشويه لهذه القطاعات البحثية وعدم تركيز على الشيء الأساسي في هذه الفنون الذي نحتاجه وهو البحث وروح البحث الدائم.
- الأصل التقنوي الوضعي لفهم الحداثة العربية للعلم
هناك نزعة تقنوية علموية مبتذلة هي التي تختفي وراء أفكار الحداثين العرب عن "العلم" وهذه النزعة مستوردة بلا شك من الطابع المركز على الأشياء والمتجاهل أو المحتقر للبعد غير المادي الصرف في الإنسان في الحضارة الغربية المعاصرة فهؤلاء لا يخطر على بالهم أن التنظيم الاجتماعي الذي ينسجم فيه البعد الروحي مع البعد المادي وتنسجم فيه المنظومة الأخلاقية مع المنظومة التشريعية يحتاج حقاً إلى اختصاصيين دورهم بلا شك أهم من دور الباحثين الفنيين في الطبيعة وهؤلاء هم "علماء الشريعة" وهم الذين لا يخطر على بال أمثال أبي فخر أن الانحطاط الشامل للعرب بل ربما للبشر بدأ منذ أن تراجع دورهم وانسحبوا من حيز التأثير – ولا أعني طبعاً هنا المشايخ الذين كانوا السبب المباشر في مقالة أبي فخر الساخطة وهم "جبهة علماء الأزهر".
وأخيراً ليس عجباً أن تفوح روائح العنصرية البغيضة المستوردة مباشرة من الاستشراق في كلمات أبو فخر(وهي من المستشرقين مفهومة أما من بني جلدتنا فكيف نفهمها؟ أنقول إنها فصام مازوشي؟) فالبدوي يا أبو فخر كان يستحق أن تفخر به فهو الذي بنى أعظم حضارة بشرية وشريعته التي تفتري عليها هي التي قال عنها المنصفون في الغرب إنها أرحم شريعة حملها فاتح في تاريخ العالم وإن أحببت أن تقارن فقارن بشرائع الغاب التي يحملها فاتحوا بلاد"العلم الحقيقي" الذي يعجبك وما أطفال الانتفاضة والعراق عنك ببعيدين.

خاتمة:

وأختم هذه الملاحظات بالقول إن النزعة الحداثية للاستبعاد والمصادرة تعود في رأيي إلى جذر عقلي هو الغرور الذي ظهر مع "عصر النهضة" الأوروبي والذي نتج عن الاقتناع بأن العقل قادر على أن يعرف كل شيء وقادر بالتالي على تصحيح "أخطاء" كل المنظومات التي ظهرت قبل صحوته الميمونة في عصر النهضة سواء كانت هذه المنظومات طبيعية أم اجتماعية أم فكرية وفي الحقيقة كان أبو نواس عند العرب على الأقل وفيما أعلم أول شاعر وجه سهماً صائباً إلى قلب هذا التفكير المغرور عندما قال:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء!
الواقع الاجتماعي مثله مثل الطبيعة أغنى بكثير جداً وأعقد من أن نحاول حصره في صيغ عقلية ونظريات تدعي الشمولية وبقدر ما يكون التواضع العقلي الذي يقوم على مبدأ جزئية المعرفة وقابليتها للخطأ وعدم التعجل في تغيير منظومات الطبيعة والمجتمع منبعاً للحرية والتسامح يكون الغرور العقلي الذي يقوم على مبدأ أن الإنسان قد علم بما فيه الكفاية ليبدأ في قولبة الطبيعة والمجتمع على مزاجه منبعاً للنزعة الشمولية الاستبدادية التي تذكرنا بالمفكر المعتزلي أبي موسى المردار الذي يقولون إنه ظل يتشدد في شروط العقيدة الصحيحة ويخرج من عداد المؤمنين من لا يحقق شروطه حتى قال له والي الكوفة: هل ترى أن جنة عرضها السموات والأرض لا تتسع إلا لك ولثلاثة وافقوك الرأي؟
باب الإبداع مفتوح والشعر هو كل ما دعي إلى الآن بهذا الاسم. هذا ما يجب أن نعتقده إن كنا حقاً نحترم تجربة البشر ونترك المجال لغنى الروح اللانهائي أن يتجلى وأتمنى على أمثال حجازي و بيضون أن يلتزموا على طول الخط بما أعلنوه من قبول بالتنوع ولا يناقضوا أنفسهم في أماكن أخرى ولا يكون ذلك بغير النقد الصارم لمسلمات الحداثة العربية المختفية في اللاشعور المعرفي للمثقف العربي.
وفي مثال مفهوم "العلم" يمكن لنا أن نرى أن المثقف العربي يجب أن يخرج من القفص الوضعي الساذج الذي لم تزل الحداثة العربية محبوسة بين قضبانه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي هذا القفص الوضعي الذي يجعل العلم الطبيعي هو العلم الوحيد ذو القيمة والذي يرى بالتالي أن عالم الأشياء هو وحده العالم الواقعي.
هذا التشييء لو تأملنا في المثالين اللذين ذكرتهما في هذا المقال لوجدناهما مشتركين فيه فحين أنكرت قيمة الوزن والقافية تم ذلك لأن "الشيء العملي" في الشعر خارجهما وهذا "الشيء العملي" هو وحده المهم وفقاً لمنطق الحضارة التشييئية المعاصرة وكذلك حين أنكر دور العلم الشرعي فقد اعتمد المنكرون على أن هذا العلم غير مفيد فهو لا يتعلق بالأشياء بل يتعلق بالبعد الغيبي و الأخلاق والعلاقات الاجتماعية وهذه الأمور ليست في أهمية موضوع السيطرة على الطبيعة وامتلاكها!
هناك توازن بين العقل والواقع (الطبيعة والمجتمع في أنظمته الثابتة كالنظام الديني و الأخلاقي) يجب أن نعيد النظر فيه إن أردنا أن نضع حداً لحماقات عصر الحداثة (وأحياناً جرائمه). الحداثة ترى أن العقل يجب أن لا يترك شيئاً يسير دون أن يتدخل هو فيه ويحكم عليه ويضبطه والنظرة المتواضعة الناقدة للحداثة يجب أن تسير على مبدأ أن الواقع وجد قبل العقل وأن الأصل أن نظام الواقع يعمل تلقائياً ولنترك للواقع أن يبدي تعقيده وغناه بكل حرية.
هذا الدرس بدأ الغرب يعيه فالتسيير القسري المخطط للمجتمع وللطبيعة قاد العالم بأسره إلى كوارث اجتماعية وطبيعية ما عاد في الإمكان السكوت عليها ويبقى أن تعيه الحداثة العربية.



هوامش
(1) الذي أنكر على أدونيس أنه يفهم الحداثة على حقيقتها واعتبر مصطلح "الشعر الحر" خطأً وأنكر أن تكون قصيدة النثر الحقيقية هي ما ينشر عندنا على أنه كذلك هو الشاعر العراقي فاضل العزاوي و قد يكون السيد عزاوي شاعراً جيداً ولكنه منظر بعيد عن المنهج المنطقي في الكتابة بشكل غريب لا يهتم بالدقة في مصطلحاته ويستعملها بصورة متناقضة رغم أنه من جهة أخرى يناقش المصطلحات ويأخذ على مستعمليها أنهم يخالفون مفهومها الغربي ويعد ذلك مأخذاً لا يغتفر غير منتبه إلى حقيقة بسيطة هي أنه لا مشاحة في الاصطلاح ولا مشكلة في الكلمات! وآراؤه هذه وردت في مقال له "الذهب والتراب" بمجلة "الناقد" عدد68 فبراير 1994 .
(2) حجازي- مقال "قصيدة النثر شعر ناقص"- السفير- 9/ 5/ 2001.
(3) بيضون- مقال "دروس حجازي ضد قصيدة النثر.. المعلم في تقاعده الشعري"- السفير- 18/5/2001.
(4) مقال في مجلة الهلال عدد تشرين الثاني 1933. موجود في:
أدونيس- "مقدمة للشعر العربي"- دار العودة- بيروت- ط1- 1971-ص 90وفي الصفحة نفسها قول الزهاوي الذي سنذكره بعد قليل.
(5) أدونيس- "مقدمة للشعر.."- ص125.
(6) أدونيس- "الثابت والمتحول"- الجزء الثالث "صدمة الحداثة"- دار العودة- بيروت- الطبعة الثانية- 1979- ص 96.
(7) أدونيس- م.ن- ص 97.
(8) الملحق الثقافي لجريدة النهار 2/4/2001.

08-10-2004, 04:45 PM
أخي وأستاذي محمد ب.
لا خلاف على ما تفضلت به
وأعرف أن طبيعة المنتدى جعلتك تستفيض في شرح الأبعاد اللغوية للموضوع.
وقد سألني أحدهم مرة هل الشعر مقدس فأجبت كلا بل القرآن مقدس
ذلك أن الحداثة نظرة في أساسها تقوم على هدم الدين لا مجرد إقصائه، وصرح أتباعها بأن التفعيلة أو البحر هي عرض من أعراض الثوابت العقدية والفكرية لدى الأمة التي يجب هدمها.
وكثير منهم لا يجد إبداعه إلا في التعرض للذات الإلهية تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
هذه في رأيي الساحة التي يجب أن يركز عليها الحوار.
إن ما أسموه قصيدة النثر ليست إلا الذراع الأدبية للحداثة.
سؤال : هل قرأ أحدكم أيّا مما يسمى قصائد النثر تشيد بأية إيجابية من إيجابيات الأمة.
مجلة حوار وتمويلها أمر ليس بخاف.
إذا كان بعضهم يعوم الحديث فأجدى أن نعود بالأمر إلى مبدئه وأن لا نستهلك الجهد في مظهره وتطبيقانه .

---------------

أعجبني هذا القول:

" الحداثة مذهب فكري غربي، يضرب بجذوره إلى ما يسمى بعصر التنوير في التاريخ الأوربي. فالاكتشافات العلمية التي قام بها غاليليو ونيوتن في القرن الثامن عشر أقنعت العقل الأوربي أن يرفض نظرة العصور الوسطى في الغرب للطبيعة. فعندما تعارضت الاكتشافات العلمية مع مقررات الكنيسة تخلى الناس عن الكنيسة، فلم يعودوا ـ مثلا ـ يقبلون القول بأن الأرض هي مركز الكون، كما كانت تقرر الكنيسة، فأصبح الناس حداثيون، أو مستنيرين.
وبإيحاء من قوانين نيوتن الميكانيكية، صار الحداثيون ينظرون إلى الطبيعة على أنها آلة ضخمة لا تفهم حركتها إلا بفهم القوانين الطبيعية. وفتن الناس بالعلم! فاكتشفوا شيئا من القوانين التي تسير الكثير من الظواهر الطبيعية. وهي ما كان المتدينون ينسبونها إلى قدرة الله. فظهر بذلك صراع بين التيارين، التيار الديني والتيار الحداثي. وبالرغم من أن كثيرا أولئك العلماء الطبيعيين كانوا نصارى ففد بدأ يتكون لديهم شيء من القناعة أنه لم يعد هناك حاجة لـ (الإله)! أو ربما يكون قد خلق الخلق وأوكل أمر تسييره إلى تلك القوانين. وكانت هذه بداية التحول من الاعتقاد بالإله في العصور الوسطى الأوربية إلى الحداثة الملحدة، التي تنكر وجود الإله.

حكم مذهب ما بعد الحداثة
من المعلوم من الدين بالضرورة أن وجود الله وملائكته وكتبه ورسله حقائق مطلقة قائمة خارج الأذهان، ولو كفر بها الناس أجمعون. وأيضا من المعلوم بالضرورة أن دين الإسلام هو الدين الحق وأن ما سواه باطل، ولا يصح إيمان شخص إلا بهذا.
وهذه أمور أجمع المسلمون عليها وأجمعوا على كفر من أنكرها. فعليه يكون مذهب ما بعد الحداثة بإنكاره أن تكون هناك حقائق مطلقة، أو أن يكون دين الإسلام هو الدين الحق، كفر واضح وصريح.
على أنه يجب التنبه إلى أن بعض الناس قد يتبنى بعض أطروحات هذا المذهب أو أفكاره الفرعية في الفن أو الأدب أو التربية، والتي لا تصل إلى حد الكفر بذاتها، دون ربط لها بأصولها وخلفياتها الفكرية الكفرية، فلا يدخل بذلك في حكم المذهب العام."

http://www.khayma.com/ishraf/Postmodern.htm

---------------------------
وأما العلم فهو لدى المسلمين المعرفة اليقينية القائمة على البرهان وأوثق مصادرها الوحي الذي يصدق به المسلمون لاقتناعهم العقلي بصدق رسالة محمد عليه السلام. وقصر مدلول العلم على المادة أمر غير علمي ابتداءً.
قال تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الأحقاف – 5)

"لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ 22 لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ 23 أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ" ( الأنبياء - 23-24)
صدق الله العظيم


و منكم نستفيد.