المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عودة البدوي



08-20-2005, 10:30 AM
السلام عليكم

هذه قصيدة ألقيت البارحة 19 / 8 / 2005 م في المهرجان المقام لتكريم الشاعر بدوي الجبل

عودة البدوي
دمشق
السبت 20 آب 2005
شعر فاروق شوشة

من سَابحٌ في قضاءِ الشعرِ تيَاهُ؟ يَرفُ في الملأِ الأعلى جَناحاهُ
مُحلّقٌ وحدهُ، في سِربهَ، أبداً المفردُ الجمعُ، ربُّ الشعرِ سوّاهُ ‏
يَطوي العصورَ، ويمضي في دياجرها تُضيءُ رائعة الأشعارِ عيناهُ ‏
عرشٌ قوائمهُ الفُصحى، ومملكة صاغت فراديسَها الغنّاءَ سيماهُ ‏
جبينهُ الشمسُ إلا أنه ذهبٌ غَالى بقيمتهِ، والشعرُ مجلاهُ ‏
وقلبهُ الكونُ، أكوانٌْ تدورُ به كأنها جَلواتٌ في حناياهُ ‏
تفجّرتْ فهي إعصارٌ وعاصفة ورقرقت فهي سلسالٌ وأمواهُ ‏
وعربدتْ فهي ترنيمٌ وزمزمةٌ وطامَنتْ فهي في النجوى قُصاراهُ ‏
وأنْتَ في كِبْركَ العاتي، وفي دَعةٍ سبيكة كلُ ما فيها افتقدناهُ ‏
دعّني أُطلُ بعينيكَ اللتين هما ياقوتتان، هُما للشعر ضَوءاهُ ‏
مازالتا رغم بُعدِ الدار، فيضَ سنا ما كان أروعهُ فينا وأسْناهُ ‏
يا عائداً لبساط الشام، تغمرُهُ عطراً وشعراً، أَهلاّ في زواياهُ ‏
مُضمّخاً بالهوى القْدسيِّ، مشتعلاً كأنك الجمرُ للمقرور يصلاهُ ‏
تسيرُ ملءَ زواياها، وقد رَجفَتْ منك العروقُ، وضاع العزّ والجاهُ ‏
إن أنكروك زماناً، لن يُضامَ فتىً ما إن لهم في عُروش الشعر إلاهُ ‏
أو غيّبوكَ طويلاً، لم يغبْ ألَقٌ اللهُ والحب: دنياه وصوْتاهُ ‏
وإن نفْوك، فهل ينفون واحدهم؟ والكلُّ من بعده في القول أشباهُ ‏
أو باعدوا شعرك المجلوَّ عن عمهٍ نَمّتْ عليهِ من الفردوس ريّاهُ ‏
العنفوان وصوت الوحي في دمه وصولة الشعر معناه ومبناهُ ‏
جفَّت شرايننا، وانفضّ سامرُنا فليس من غايةٍ في الشعر لولاهُ ‏
وراح زهوُ ليالينا، فلا وترُ يشدُّ كِبْرَ المنى، إلا قطعناهُ ‏
وأنت معراجنا الشعريُّ، ترفعنا إلى دُراكَ، فنستجلى خفاياهُ ‏
يسائل النجمُ في خفقٍ وفي دَهشٍ: مَنْ ذلك الكوكبُ العالي ومسراهُ؟ ‏
ما للنهايات سدٌّ عند غايته فسِدْرةُ الشعر مأواه وَمرْقاهُ ‏
يهيم بالجلوة الأسنى، فيتبعها ويستبيه المدى القاصي فيغشاهُ ‏
مسافرٌْ وحدهُ في إثرِ فاتنةٍ من القصيد اصطفاها في حظاياهُ ‏
لا وحشة الليل تُقصيه، ولا كَللٌ ينال منه، ولا زيفٌ تصباهُ ‏
حتى يعود وفي كفيه لؤلؤةٌ يتيمةٌ، لم تُضىء إلا بيمناهُ ‏
هذا هو الشعر، يجري فوق ريشته كأنه السُّكْرُ، أصبحنا نشاواهُ ‏
من أيِّ أفق بعيدٍ هاطلٌ أبداً كالسيلِ يجرف قحْطاً حان مثواهُ ‏
ينساب في نَفَس صافٍ، وجلجلةٍ وفي اصطفاقٍ كموج البحر نخشاهُ ‏
هذا هو النَسَق الأعلى، فلا عجبٌ أنَّ العروبة تهواه وتحياهُ ‏
لبنان والشام لوحٌ في مزامره ورملُ سيناء أوّابٌ وأوّاهُ ‏
وقلب بغداد جمرٌ في حُشاشته والقِبْلتان نجاوى في حناياهُ ‏
ها أنت بعد زمان الصمت مؤتلقٌ ما كان أوحشه فينا وأقساهُ ‏
قد عاد للأيكةِ المعطار بلبلها فالمنشدون جميعاً من نَداماهُ ‏
ظنّوا بأنك للنسيان، قد وهموا من ذاق كَرْمكَ يوماً، كيف ينساهُ؟ ‏
وَأنَّ مثلك يُطوى في صحائفهم وأنت أنبلُ ما فيها وأغلاهُ ‏
كم من دعيِّ أهان الشعر في صلفٍ وجاء شعرُكَ مجلُوّاً فعرّاهُ ‏
خَلتْ له الساحُ، فاستشرى بعجمته وبئْسَ حنظُلهُ لمّا قطفناهُ؟ ‏
من مِصْرَ جئتُ وأشواقي تُدافعني: عجَّل، فركْبُ الهوى زُمّتْ مطاياهُ ‏
قد مّسني الوترُ العذري فاضطربت خُطاَي، لمَا سعى قيسٌ لليلاهُ ‏
وهزّني الوتر الصوفيُّ، حين جلا أشواقَ نفسي فصارت من رعاياهُ ‏
لبيّتُ شِعْركَ يدعونا لمشهدِه فكم جلسْنا إليهِ وارتشفناهُ ‏
وكم همى في ليالينا ـ على ظمأٍ ولم نزل نرتوي حتى عشقناهُ ‏
نعشو إليك، فتُنسينا روائعه فقْرَ الزمان الذي عمّت رزاياهُ ‏
نحن العِطاشُ وهذا الورد يجمعنا نهفو إليه وتُصْبينا سجاياهُ ‏
نتيهُ مالألأتْ فينا جواهرُهُ وكلّما غاصَ في القلب استعدناهُ ‏
يا أيُّها البدوي الحقُّ في زمنٍ الغافلون به عن دربه تاهوا ‏
يا أيُّها البدوي الحقُّ في زمنٍ سحرُ البداوة فيه ضياع معناهُ ‏
جدّدت فيها شباباً ناضراً، وصِباً وصُغت منها جديداً قد حفظناه ‏
وطرت بالشعر ملء الكون، هامية فينا سحائبُه الحبلى وسقياهُ ‏
هذا القديم المُجلّى في تجدده قد زاده العِتْقُ إحساناً وأصفاهُ ‏
هذا الرحيق الذي ذقنا خلاصته وكلما طاب للروح اعتصرناهُ ‏
مَنْ للبداوةِ يُعلي من مكارمها وللحداثةِ يزجيها عطاياهُ ‏
وَمَن لموقِفِ كلِّ الُعرْبِ، حين هوى نجم العروبة، صاروا من شظاياهُ ‏
قد كان شعرك يجلوها ويحفظها وكان ينفُخ فيها من حُميّاهُ ‏
فَمَنْ لها وذئاب الأرض تنهشُها ويكشف الغدُ دوْماً عن خباياهُ ‏
وَمَنْ لها وصلاح الدين ليس لها ولا أميةٌ ممدودٌ ذراعاهُ ‏
ولا النبيون يرعى شَرعَهم أحدٌ يعْنو إلى الله يوماً في مُصلاّهُ ‏
الكافرون بنا صاروا جبابرةً ومجدُنا بقيت منهُ صحاراهُ ‏
هل يستقيمُ زمانٌ فيه يسحقنا طاغٍ، وقد عنتِ الدنيا لطَغْواهُ ‏
يظنُّ أن مصيرَ الكون في يده وأنّهُ ـ ومعاذَ اللهِ ـ اللهُ ‏
ماذا جرى؟ وظهور القوم خانعةٌ ماذا جرى، وشعابُ الأرض تخشاهُ؟ ‏
نفتنُّ في صُورِ التبجيل واجفة قلوبُنا، والولاءُ المَحْضُ سُقناهُ ‏
والراكعون أما هانتْ رجولتُهم ليسوا رجالاً ولكن ثمَّ أشباهُ! ‏
الفاتكون بنا عاثوا وما شبعوا وطائر العرْبِ مقصوصٌ جناحاهُ ‏
والساقطون بنو صهيونَ، ما فتئوا يُراهنونَ على مُلكٍ أضعناهُ ‏
والأرضُ من تحتنا تُطوّى، وقد بقيت لنا التباريحُ والأذكارُ والآهُ ‏
هل وقفةٌ نرتجيها غيَر هازلةٍ كي يستعيد بها التاريخ أقصاهُ ‏
وهبة تملأ الأيام مزلزلة بُركَانُها تصعقُ الباغي مناياهُ ‏
وَطّلةٌ في حِمى بغدادَ آمنةٌ يعودُ للشعرِ فيها ما تغنّاهُ ‏
بوركتَ يا جبلاً للشعرِ، نقصده إذا استعدْنا زماناً أنتَ طُغْراهُ ‏
يا شاعراً صاغ من أشعاره وطناً حماه أروعنا عشْقاً وفدّاهُ؟ ‏
ومنجماً لكنوزٍ، سِحْرُ جدّتها تبلى العصورُ ويبقى ـ الدهْرَ ـ معناهُ

08-20-2005, 03:17 PM
بدوي الجبل ومعاصره عمر أبو ريشة صقران محلقان في سماء الشعر العربي واثنان من رموزه الكبار.
ودائماًًً أتمنى لو أن المهتمين الشباب بالشعر العربي يقرؤون لهما وينصرفون قليلاً عن قضاء الوقت كله في القراءة لبعضهم وتبادل المدائح على صفحات منتديات الإنترنيت.
وعساي أعود لقصيدة شوشة المطولة هذه ومن الممكن لاحقاً أن نضيف بعضاً من بدائع قصائد بدوي الجبل هنا.
مع كل التقدير للأستاذة رغداء على هذا "النقل الحي والمباشر" لآخر ما قيل في البدوي.

08-20-2005, 09:29 PM
السلام عليكم

يسرني أن ألبي طلبك أستاذ محمد وها هي قصيدة من قصائد بدوي الجبل الشاعر الفذ :

من وحي الهزيمة :


رمل سينـاء قبرنـا المحفور = وعلـى القبر منكر ونكـير
كبرياء الصحراء مرغها الذل = فغاب الضحى وغار الزئـير
لاشهيد يرضي الصحارى، = وجلى هارب في رمالها وأسير
أيهـا المستعـيـر ألف عتاد = لأَعاديـك كل ما تستعير
هدك الذعر لا الحديد ولا النار = وعبء على الوغى المذعور
أغرور على الفـرار؟! لقد ذاب = حياء من الغرور الغرور
القلاع المحصنات ـ إذا الجبن = حماها ـ خورنق وسدير!
لم يعـان الوغى (لواء) ولا عانى = (فريق) أهوالها و (مشير)
رتب صنعة الدواوين.. ما شارك = فيهـا قرُّ الوغى والهجير
وتطير النسور في زحمة النجم، = وفي عشـه البغاث يطير
جَبُنَ القـادة الكبار وفروا = وبكـى للفرار جيش جسور
تركوه فوضى إلى الدور، فيحاء، = لقد ضمت النساء الخدورُ!
هُزِم الحاكمون، والشعب في = الأصفاد، فالحُكْمُ وحده المكسور
هُزِم الحاكمون، لم يحزن الشعب = عليهم، ولا انتخى الجمهور
يستجيرون! والكريم لدى الغمرة = يلقى الردى ولا يستجير!
لا تسل عن نميرها غـوطةَ الشام = ألح الصدى وغـاض النمير
وانـس عطر الشآم،حيث يقيم = الظلم تنأى..ولا تقيم العطور
أطبـقوا.. لا ترى الضياء جفوني = فجفوني عن الضياء ستور
بعض حريتي السماوات والأنجم = والشمس و الضحى و البدور
بعض حريتـي الملائك والجنـة = والراح و الشذا و الحبور
بعض حريتـي الجمـال الإلهي= ومنه المكشـوف و المستور
بعض حريتـي ويكتحل العقـل = بنور الإلهـام، و التفكير
بعض حريتـي، ونحن القرابـين = لمحرابهــا، ونحـن النذور
بعض حريتي، من الصبح أطـياب = ومن رقـة النسيـم حرير
ثم أملى الطغاة أن يبغض الـنور= علينـا ويعشـق الديجور
نحن أسرى، ولو شَمَسْنا على القيد = لما نـالنا العـدو المغـير
لاقتحمنـا علـى الغـزاة لهيباً = وعبرنا وما استحال العبور
سألوني عـن الغـزاة فجاوبت: = ريـاح هبـت ونحـن ثبير
سألوني عـن الغـزاة فجاوبت: = رمال تسفى ونحن الصخور
سألوني عن الغـزاة فجاوبـت:= ليال تمضي ونحن الدهور!
هل درت عدن أن مسجدها الأقصى = مكان من أهله مهجور
أين مسرى البراق، والقدس والمهد = وبيـت مـقدس معمور؟
لـم يرتـل قـرآن أحمد فيـه = ويزار المبكى ويتلى الزبور
طوي المصحف الكريم، وراحـت= تتشاكى آياتـه والسطور
تستبى المدن والقـرى هاتفـات = أين...أين الرشيد والمنصور!
يـا لـذل الإسـلام. إرث أبي = حفص بديد مضيع مغمور
يا لذل الإسلام: لا الجمعة الزهراء = نعمى، ولا الأذان جهير
كل دنيـا للمسلمين مناحـات = وويل لأهـلـها وثـبور
لبسـت مكـة السواد، وابكت = مشهد المرتضى ودك الطور
هل درى جعفر؟ فرف جناحاه = إلى المسجـد الحزيـن يطير
ناجت المسجد الطهور وحنت = سدرة المنتهى وظـل طهور
أين قبر الحسين ؟(1) قبر غريب! = من يضم الغريب أو من يزور
أين آي القرآن تتلى على الجمـع = وأين التهليـل والتكبير ؟
أين آي الإنجيل ؟ فاح من الإنجيل = عطر وضوأ الكـون نور

08-21-2005, 05:56 AM
السلام عليكم

البلبل الغريب


سلي الجمر هل غالى وجنّ و عذّبا = كفرت به حتّى يشوق و يعذبا
و لا تحرميني جذوة بعد جذوة = فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا
و ما نال معنى القلب إلاّ لأنّه = تمرّغ في سكب اللّظى و تقلّبا
هبيني حزنا لم يمرّ بمهجة = فما كنت أرضى منك حزنا مجرّبا
و صوغيه لي وحدي فريدا و أشفقي = على سرّه المكنون أن يتسرّبا
مصونا كأغلى الدرّ عزّ يتيمه = فأودع في أخفى الكنوز و غيّبا
و صوغيه مشبوب اللّظى و تخيّري = لآلامه ما كان أقسى و أغربا
و صوغيه كالفنّان يبدع تحفه = و يرمقها نشوان هيمان معجبا
فما الحزن إلاّ كالجمال ، أحبّه = و أترفه ، ما كان أنأى و أصعبا
خيالك يا سمراء ، مرّ بغربتي = فحيّا و رحّبنا طويلا و رحّبا
جلاك لعيني مقلتين و ناهدا = و ثغرا كمطول الرياحين أشنبا
فصانك حبّي في الخيال كرامة = و همّ بما يهواه لكن تهيّبا
و بعض الهوى كالغيث إن فاض ألّقا= و بعض الهوى كالغيث إن فاض خرّبا
أرى طيفك المعسول في كلّ ما أرى = وحدت و لكن لم أجد منه مهربا
سقاني الهوى كأسين : يأسا و نعمة = فيالك من طيف أراح و أتعبا
و خالط أجفاني على السّهد و الكرى = فكان إلى عيني من الجفن أقربا
شكونا له السّمراء حتّى رثى لنا = و جرّأنا حتّى عتبنا فأعتبنا
و ناولني من أرز لبنان نفحة = فعطّر أحزاني و ندّى و خضّبا
و ثنّى بريّا الغوطتين يذيعها = فهدهد أحلامي وأغلى و طيّبا
و هل دلّلت لي الغوطتان لبانة = أحبّ من النعمى و أحلى و أعذبا
وسيم من الأطفال لولاه لم أخف = على الشيب أن أنأى و أن أتغرّبا
تودّ النّجوم الزهر لو أنّها دمى = ليختار منها المترفات و يلعبا
و عندي كنوز من حنان و رحمة = نعيمي بأن يغرى بهنّ و ينهبا
يجور و بعض الجور حلو محبّب = و لم أر قبل الطفل ظلما محبّبا
و يغضب أحيانا و يرضى و حسبنا = من الصفو أن يرضى علينا و يغضبا
و إن ناله سقم تمنّيت أنّني = فداء له كنت السقيم المعذّبا
و يوجز فيما يشتهي و كأنّه = بإيجازه دلاّ أعاد و أسهبا
يزفّ لنا الأعياد عيدا إذا خطا = و عيدا إذا ناغى و عيدا إذا حبا
كزغب القطا لو أنّه راح صاديا = سكبت له عيني و قلبي ليشربا
و أوثر أن يروى و يشبع ناعما = و أظمأ في النعمى عليه و أسغبا
و ألثم في داج من الخطب ثغره = فأقطف منه كوكبا ثمّ كوكبا
ينام على أشواف قلبي بمهده = حريرا من الوشي اليمانيّ مذهبا
و أسدل أجفاني غطاء يظلّه = و ياليتها كانت أحنّ و أحدبا
و حمّلني أن أقبل الضيم صابرا = و أرغب تحنانا عليه و أرهبا
فأعطيت أهواء الخطوب أعنّتي = كما اقتدت فحلا معرق الزّهو مصعبا
تأبّى طويلا أن يقاد .. و راضه = زمان فراخى من جماح و أصحبا
تدلّهت بالإيثار كهلا و يافعا = فدلّلته جدّا و أرضيته أبا
و تخفق في قلبي قلوب عديدة = لقد كان شعبا واحدا فتشعّبا
***

و يا ربّ من أجل الطفولة وحدها = أفض بركات السلم شرقا و مغربا
و ردّ الأذى عن كلّ شعب و إن يكن = كفورا و أحببه و إن كان مذنبا
و صن ضحكة الأطفال يا ربّ إنّها = إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا
ملائك لا الجنّات أنجبن مثلهم = و لا خلدها _ أستغفر الله _ أنجبا
و يا ربّ حبّب كلّ طفل فلا يرى = و إن لجّ في الإعنات وجها مقطّبا
و هيّئ له في كلّ قلب صبابة = و في كلّ لقيا مرحبا ثمّ مرحبا
و يا ربّ : إنّ القلب ملكك إن تشأ = رددت محيل القلب ريّان مخصبا
***

و يا ربّ في ضيق الزّمان و عسره = أرى الصّبر آفاقا أعزّ و أرحبا
صليب على غمز الخطوب و عسفها = و لولا زغاليل القطا كنت أصلبا
و لي صاحب أعقيته من موّدتي = و ما كان مجنون الغرور ليصحبا
غريبان لكنّي وفي و ما وفى = و نازع حبل الودّ حتّى تقضّبا
و با ربّ هذي مهجتي و جراحها = سيبقين إلاّ عنك سرّا محجّبا
فما عرفت إلاّ قبور أحبّتي = و إلاّ لداتي في دجى الموت غيّبا
و ما لمت في سكب الدّموع فلم تكن = خلقت دموع العين إلاّ لتسكبا
و لكنّ لي في صون دمعي مذهبا = فمن شاء عاناه و من شاء نكّبا
***

و يا ربّ لأحزاني وضاء كأنّني = سكبت عليهنّ الأصيل المذهّبا
ترصّد نجم الصبح منهنّ نظرة = و أشرف من عليائه و ترقّبا
فأرخيت آلاف الستور كأنّني = أمدّ على حال من النّور غيهبا
فغوّر نجم الصّبح يأسا و ما أرى = على طهره حتّى بنانا مخضّبا
و قد تبهر الأحزان و هي سوافر = و لكنّ أحلاهنّ حزن تنقّبا
***

و يا ربّ : درب للحياة سلكته = و ما حدت عنه لو عرفت المغيّبا
و لي وطن أكبرته عن ملامة = و أغليه أن يدعى _ على الذّنب مذنبا
و أغليه حتّى قذ فتحت جوانحي = أدلّل فيهنّ الرّجاء المخيّبا
تنكّر لي عند المشيب _ و لا قلى _ = فمن بعض نعماه الكهولة و الصبا
و من حقّه أن أحمل الجرح راضيا = و من حقّه أن لا ألوم و أعتبا
و ما ضقت ذرعا بالمشيب فإنّني = رأيت الضحى كالسّيف عريان أشيبا
يمزّق قلبي البعد عمّن أحبّهم = و لكن رأيت الذلّ أخشن مركبا
و أستعطف التاريخ ضنّا بأمّتي = ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا
و يا ربّ : عزّ من أميّة لا انطوى = و يا ربّ : نور وهّج الشرق لا خبا
و أعشق برق الشام إن كان ممطرا = حنونا بسقياه و إن كان خلّبا
و أهوى الأديم السّمح ريّان مخصبا = سنابله نشوى و أهواه مجدبا
مآرب لي في الرّبوتين و دمّر = فمن شمّ عطرا شمّ لي فيه مأربا
***

سقى الله عند اللاذقيّة شاطئا = مراحا لأحلامي و مغنى و ملعبا
و أرضى ذرى الطّود الأشمّ فطالما = تحدّى و سامى كلّ نجم و أتعبا
و جاد ثرى الشهباء عطرا كأنّه = على القبر من قلبي أريق و ذوّبا
و حيّا فلم يخطئ حماة غمامه = وزفّ لحمص العيش ريّان طيّبا
و نضّر في حوران سهلا و شاهقا = و باكر بالنّعمى غنّيا و متربا
و جلجل في أرض الجزيرة صيّب = يزاحم في السّقيا و في الحسن صيّبا
سحائب من شرق و غرب يلمّها = من الريح راع أهوج العنف مفضبا
له البرق سوط لا تندّ غمامة = لتشرد إلاّ حزّ فيها و ألهبا
يؤلفها حينا و تطفر جفّلا = و حاول لم يقنط إلى أن تغلّبا
أنخن على طول السماء و عرضها = يزاحم منها المنكب الضخم منكبا
فلم أدر هل أمّ السماء قطيعه = من الغيم أو أمّ الخباء المطنّبا
تبرّج للصحراء قبل انسكابه = فلو كان للصحراء ريق تحلّبا
و تعذر طلّ الفجر لم يرو صاديا = و لكنّه بلّ الرّمال و رطّبا
و يسكرها أن تشهد الغيم مقبلا = و أن تتملاّه و أن تترقّبا
كأنّ طباع الغيد فيه فإن دنا = قليلا . نأى حتّى لقد عزّ مطلبا
و يطمعها حتّى إذا جنّ شوقها = إليه انثنى عن دربها و تجنّبا
تعدّ ليالي هجره و سجيّة = بكلّ مشوق أن يعدّ و يحسبا
و يبده بالسقيا على غير موعد = فما هي إلاّ لمحة وتصبّبا
كذلك لطف الله في كلّ محنة = و إن حشد الدّهر القنوط و ألّبا
إلى أن جلاها كالكعاب تزيّنت = لتحسد من أترابها أو لتخطبا
***

و مرّت على سمر الخيام غمامة = تجرّ على صاد من الرّمل هيدبا
نطاف عذاب رشّها الغيم لؤلؤا = وتبرا فما أغنى و أزهى و أعجبا
حبت كلّ ذي روح كريم عطائها = فلم تنس آراما و لم تنس أذؤبا
و جنّت مهاة الرّمل حتّى لغازلت = و جنّ حمام الأيك حتّى لشبّبا
و طاف الحمام السمح في البيد ناسكا = إلى الله في سقيا الظماء تقرّبا
عواطل مرّ المزن فيهنّ صائغا = ففضّض في تلك السّهول و ذهّبا
و ردّ الرّمال السمر خضرا و حاكها = سماء و أغناها و رشّ و كوكبا
و ردّ ضروع الشاء بالدرّ حفّلا = لترضع حملانا جياعا و تحلبا
و حرّك في البيد الحياة و سرّها = فما هامد في البيد إلا توثّبا
و لا عب في حال من الرّمل ربربا = و ضاحك في غال من الوشي ربربا
و جمّع ألوان الضياء و رشّها = فأحمر ورديّا و أشقر أصهبا
و أخضر بين الأيك و البحر حائرا = و أبيض بالوهج السماوي مشربا
و لونا من السّمراء صيغت فتونه = بياضا نعم لكن بياضا تعرّبا
أتدري الرّبى أنّ السماوات سافرت = لتشهد دنيانا فأغفلت على الربى
ألمّ بكفيّ النجوم و أنتقي = مزرّرها في باقتي و المعصّبا
دياري و أهلي بارك الله فيهما = و ردّ الرّياح الهوج أحنى من الصبا
و أقسم أنّي ما سألت بحبّها = جزاء و لا أغليت جاها و منصبا
و لا كان قلبي منزل الحقد و الأذى = فإنّي رأيت الحقد خزيان متعبا
***

تغرّب عن مخضلّة الدوح بلبل = فشرّق في الدنيا وحيدا و غرّبا
و غمّس في العطر الإلهيّ جانحا = و زفّ من النّور الإلهيّ موكبا
تحمّل جرحا داميا في فؤاده = و غنّى على نأي فأشجى و أطربا

08-24-2005, 05:40 AM
لا الغوطتان و لا الشباب أدعو هواي فلا أجاب

أين الشام من البحيرة و المآذن و القباب

و قبور إخواني و ما أبقى من السيف الضراب

الصامتات و للطيور على مشارفها اصطخاب

الغافيات فلم ترع منها الزماجر و الوثاب

أشتاق أحضنها و ألثمها و للدمع انسكاب

تحنو الدموع على القبور فتورق الصمّ الصلاب

و لها إلينا لهفة و لطول غربتنا انتحاب

يا شام : يا لدة الخلود و ضمّ مجدكما انتساب

من لي بنزر من ثراك و قد ألحّ بي اغتراب

فأشمّه و كأنّه لعس النواهد و الملاب

و أضمّه فترى الجواهر كيف يكتنز التراب

هذا الأديم شمائل غرّ و أحلام عذاب

و أمومة و طفولة و رؤى كما عبر الشهاب

و تحيّة مسكيّة من سالفين هووا و غابوا

و من الأبوّة و الجدود لأهل ودّهم خطاب

هذا الأديم أبي و أمّي و البداية و المآب

و وسائدي و قلائدي و دمى الطّفولة و السخاب

ودد يباع له الوقار و لا ندامة و الصواب

أغلى عليّ من النجوم و لا ألام و لا أعاب

الروح من غيب السماء و منك قد نسج الإهاب

أشتاق شمسك و الضحى أنا و البحيرة و الضباب

و مضفّرات بالثلوج كأنّما نصل الخضاب

تعوي الرّياح فما القساور في الفلاة و ما الذئاب

و الثلج جنّ فلم تبن سبل و لم تعرف شعاب

أخفى المعالم لا السفوح هي السفوح و لا الهضاب

يا شمس غبت فكيف تمّ – و لا طلوع لك – الغياب

إن كنت مسلمة الهوى فتألّقي رفع الحجاب

ملّ السحاب من السماء وقرّ في الأرض السحاب

و كأنّ ملء الأرض ملء الأفق آلهة غضاب

حسن يهاب و ما سما حسن يحبّ و لا يهاب

***

دوح البحيرة أين سامرك المعطّر و الشراب

و الراقصون ونوا فحين دعاهم النغم ، استجابوا

و القاطفون شفاههم كورودهم حمر رطاب

ثغر على ثغر . تسرّب فيه ، فاختلط الرضاب

قبل ، أغاريد الشفاه فتستعاد و تستطاب

و تكاد تقطف كالرّياحين المجانة و الدعاب

أهي العقود على الرّقاب بل المعاصم و الرقاب

بيني و بين الدوح في أحزانه النسب القراب

من كلّ موحشة فأين الطيب و الوهج المذاب

و غدا يعود لك الشباب و لن يعود لي الشباب

ألدّهر ملك بيمينه و الشمس من يسراه قاب

طابت سلافته تدار على سكارها و طابوا

لهفي عليه فطالما أشقاه لوم و اغتياب

نعم الملائك بالشباب فما لنعمته استلاب

و يزورنا لمع البروق فما للامعه اصطحاب

و العمر أيام قد اختصرت و آمال رحاب

ليت الملائك يشفقون على الألى عبثوا و خابوا

قدر تعجّل أن نعاقب مؤمنين و أن يثابوا

عد يا شباب و لن أطامن من جماحك يا شباب

***

في غربة أنا و الإباء المرّ و الأدب اللباب

كالسيف حلّته الفتوح و ربّما بلي القراب

طود أشمّ فكيف ترشقني السّهام و لا أصاب

يخفي البغاث فلا تلمّ به و لا يخفى العقاب

الكبر عندي للعظيم إذ تكبّر لا العتاب

عندي له زهد يدلّ على الكواكب و اجتناب

يزهو الكريم و قلبه قطع تمزّقها الحراب

أغلى المروءة شيمة طبعت و أرخصها اكتساب

***

أنا ما عتبت على الصحاب فليس في الدنيا صحاب

خرس و لكن قد تفاصحت الخواتم و الثياب

عقمت مروءتهم و تطمع أن يدغدغها احتلاب

و اعفّ عن سبّ اللئيم و ربّما نبل السباب

حيّا فبشر سلامه نزر و بسمته اغتصاب

يا من يمنّ بودّه و الشهد . حين يمنّ – صاب

أنا كالمسافر لاح لي أيك و أغرتني قباب

و تفتّحت حولي الرياض الخضر و اصطفق العباب

و وثقت أنّ النهر ملك يدي ففاجأني السراب

***

أنا لا أرجّي غير جبّار السماء و لا أهاب

بيني و بين الله من ثقتي بلطف الله باب

أبدا ألوذ به و تعرفني الأرائك و الرّحاب

لي عنده من أدمعي كنز تضيق به العياب

***

يا ربّ : بابك لا يردّ اللائذين به حجاب

مفتاحه بيديّ يقين لا يلمّ به ارتياب

و محبّة لك لا تكدّر بالرّياء و لا تشاب

و عبادة لا الحشر أملاها عليّ و لا الحساب

, إذا سألت عن الذنوب فإن ّ أدمعي الجواب

هي في يميني حين أبسطها لرحمتك الكتاب

إنّي لأغبط عاكفين على الذنوب و ما أنابوا

لو لم يكونوا واثقين بعفوك الهاني لتابوا

منهم غدا لكنوز رحمتك اختطاف و انتهاب

و لهم غدا بيقينهم من فيء سدرتك اقتراب

و سقيت جنّتك الدموع فروّت النطف العذاب

و سكبت في نيرانك العبرات فابترد العذاب

تنهل في عدن فنوّر كوكب و نمت كعاب

قرّبتها زلفى هواك فلا الثواب و لا العقاب

أنت المرجّى لا تناخ بغير ساحتك الركاب

الأفق كأسك و النجوم الطافيات به حباب

أنا من بحارك قطرة ممّا تحمّلته الرباب

ألقى بها بعد السّفار فضمّها قفر يباب

ألبحر غايتها فلا واد يصدّ و لا عقاب

يا دمعة المزن اغتربت و شطّ أهلك و الجناب

حثّي خطاك فللفروع إلى أرومتها انجذاب

حثّي خطاك فشاهق يرقى و موحشة تجاب

ألبحر معدنك الأصيل و شوق روحك و الحباب

و غدا للجّته و إن بعدت يتمّ لك انسياب

***

أنا لا أطيل إذا ابتهلت و قد تحدّتني الصّعاب

لا أشتكي و بمهجتي ظفر يمزّقها و ناب

مسح الحياء على الدموع و أكرم الشكوى اقتضاب

تكفي ببابك وقفة و أسى تجمّل و اكتئاب

***

يا شام عطر سريرتي حبّ لجمرته التهاب

أنت اللبانة في الجوانح لا النوار و لا الرباب

لك مهجتي و قبولها منك الهديّة و الثواب

و النور في عيني و لا منّ عليك و لا كذاب

أنا من عرفت : تجلّد النوائب و احتساب

و لئن عثرت فربّما عثرت مجليّة عراب

يعيا بحقّك من يسوّفه و لا يعيا الطلاب

غالبت أشواقي إليك و يضرم الشوق الغلاب

و وددت لو عمرت رباك و ألف عامرة خراب

أنا طيرك الشادي و للأنغام من كبدي انسراب

سكبت أغاريدي و للأمواج زأر و احتراب

فصغت تسمعها الريّاح و قرّ في الموج اضطراب

أنا و الربيع مشرّدان و للشذا معنا ذهاب

لا الأيك بعد غيابنا غرد الطيوب و لا الرباب

و النور يسأل و الخمائل و الجمال متى الإياب ؟

سامي البكر
08-24-2005, 02:20 PM
أوه أوه يالها من روعة ما بعدها روعة
شكر الله لك أستاذة رغداء على هذه الاختيارات العذبة
من شعر هذا الفحل الذي لو كان في عصر عكاظ لكان من أصحاب المعلقات بلا نزاع

سمعت كثيرا عن بدوي الجبل ورعة شعره وما كنت حقيقة أقرأ له
ولكن حين قرأت هذه المختارات خاصة قصيدته العصماء (الـبـلــبــل الــغــريــب)
شعرت بجسدي يرتعش ويلتهب من هذه الروعة وهذه الفريدة التي تكفي عن كثير من الدواوين

لقد كانت وصية الأستاذ محمد في محلها وقد قرأت لأبي ريشة فأعجبني جدا إبداعه وعذوبة لفظه

فليتك - أيتها القديرة- تنتقين لنا أكثر من أطايب هذا الشاعر بدوي الجبل أعذب القصائد في هذه الصفحة

لتكون روائع بدوي الجبل بين أيدينا في صفحة واحدة

وفي انتظار مختارات الأستاذ محمد

أكرر شكري وتقديري

08-25-2005, 06:18 PM
السلام عليكم

الشكر لك أستاذ سامي , وهذه قصيدة أخرى من روائع البدوي :

أتسألين عن الخمسين ؟


أتسألين عن الخمسين ما فعلت = يبلى الشباب ولا تبلى سجاياه
في القلب كنز شباب لا نفاد له = يعطي ويزداد ما ازدادت عطاياه
فما انطوى واحد من زهو صبوته = إلا تفجّر ألف في حناياه
هل في زواياه من راح الصبا عبق = كل الرحيق المندّي في زواياه
يبقى الشباب نديّاً في شمائله = فلم يشب قلبه إن شاب فوداه
تزيّن الورد ألواناً ليفتننا = أيحلف الورد أنّا ما فتناه
صادي الجوانح في مطلول أيكته = فما ارتوى بالندى حتى قطفناه
هذا السلاف أدام الله سكرته = من الشفاه البخيلات اعتصرناه
جلّ الذي خلق الدنيا وزيّنها = بالشعر أصفى المصفّى من مزاياه
نحن الذين اصطفانا من أحبّته = فلو تدار الطلى كنا نداماه
وشرّف الشعر لمّا صاغه ترفاً = فكنتِ نغمته النشوى ومعناه
وراح ينشدنا عصماءه شفة = ومقلة وجُنِنَّا فاستعدناه
إن كان يذكر أو ينسى فلا سلمت = عيني ولا كبدي إن كنت أنساه
يا من سقانا كؤوس الهجر مترعة = بكى بساط الهوى لمّا طويناه