البديع البلاغي ـــ محمد رضوان الداية
مقدمة: هذا فن بلاغي يقدمه الدكتور محمد رضوان الداية في واحد من مقالاته القصيرة المفيدة التي ينشرها في الصحف السورية.
وكالعادة لم تخل الأبيات من أخطاء تكسر الوزن، وبالذات بيت المتنبي "أقل أنل.." يصلح لاختبار المهارة العروضية فمجرد قراءته بشكل صحيح تدلك على أن القارئ على معرفة ممتازة بالوزن. ولذلك أترك الأبيات في المقال دون تصحيح اختباراً لطلاب العروض الأعزاء.
في إحدى قصائد المتنبيّ، في آخرها، وفي موضع الطّلب منها قال مخاطباً سَيْف الدَّولة الحَمْداني:
أَقِلْ أَنِلْ أقْطِعْ احْمِلْ عَلِّ سَلِّ أَعِدْ
زِدْ هَشَّ بَشَّ تَفَضَّلْ أَدْنِ سرّ وصلِ
والبيت في حاجة إلى شرح وإيضاح، وإن لم يكن صَعْباً، ولكنّ توالي الأفعال على هذه الصورة العَجْلى جعل الشعر في حاجةٍ إلى بَيان.
وقد رَتَّب البلاغيون على هذا النّمط من النظم فَرْعاً من فروع "البديع" سَمُّوهُ التفويف.
وهذا النوع البديعي المسمّى بالتفويف أُخِذَ من "الثوب المُفَوّف" وهو الثوب الذي فيه خطوط بِيْضٌ، والمراد: تلوينُه ونَقْشُه.
ومن وصف أحد الشعراء كلامَ فتاة حلوة الحديث قوله:
بعيشي أَلَمْ أُخبركما أنّه بدا
على لَفْظِها بُرْدُ الكلام المُفَوَّفِ
(2)
التَّفْويف في التعريف البلاغي: إتيان المتكلّم بِمَعَانٍ مُتَعدّدة من المدح والغزل وغير ذلك من الفنون والأغراض، كل فنّ في جملةٍ من الكلام منفصلةٍ عن أُختها مع تَساوي الجُملة في الوزن.
ويكونُ التّفويف بالعبارة الطّويلة، والعبارة المتوسطة، والعبارة القصيرة، وفي رأي ابن حجّة الحموي: أحسنُ ألوان التّفويف وأبلغها وأَصْعَبُها مَسْلكاً: القِصار.
ـ مثال العبارة الطويلة قول النابغة الذّبياني:
وأعْظَمُ أحلاماً، وأكبرُ سيّداً
وأفْضَلُ مشفوعاً، وأَكْرَمُ شافعٍ
ـ ومثال العبارة المتوسّطة قول أبي الوليد بن زيدون:
تِهْ أحْتَمِلْ، واحتكم أصْبِرْ، وعزّ أهن
وذلّ أخضع، وقُلْ أسمعْ، ومُرْ أُطِعِ
فـ (تِهْ) من تاه بمعنى تكبّر، و(عزّ) من العزّ، و(أهن) من الهوان (في الحبّ)، و (مُرْ) من الأَمْر...
ـ وبيت ابن زيدون من قصيدة غزلية، والمخاطبة فيها المحبوبة والمرجح أنّها ولاّدة.
ومثال العبارة القصيرة قول أبي الطيّب:
أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِعْ احْمِلْ سَلِّ أَعِدْ
زِدْ هَشَّ بَشّ تَفَضّلْ أَدْنِ سُرَّ وصِل
وهو من قصيدة اعتذر فيها الشاعر لسيف الدولة عن قصيدة عتاب سابقة.
(3)
فقوله: أَقِلْ: من إقالة العَثْرة، وأَنِلْ: من الإنالة (العطاء) وأقْطِعْ: من هبة الأَرْض والعقار. واحْمِلْ: أي إعطاء فرس تحمله، وعَلّ من إعلاء مكانته (ترقيته) وسَلّ من إذهاب الغمّ، وأَعِدْ: يقول أرجعني إلى مكانتي الرفيعة لديك، وهَشّ من قولهم هشّ لفلان وبَشّ: لقيه بقبول حسن، وأَدْنِ: من الإدناء: التقريب. وسُرّ من السّرور، وصِل: فعل أمر (رجاء) للوَصْل وهو هنا الإثابة عن رضا.
ويقال إن سيف الدولة وقّع تحت كل عبارة أوردها المتنبي في هذا البيت بما يناسبها، فكتب تحت "أقِلْ" قد أقلناك، وتحت "أَنِلْ" يُحْمَلُ إليه من الدراهم كذا وكذا، وتحت "أقْطِعْ" قد أقطعناك الضّيعة الفلانية (ضيعة معيّنة بباب حلب) وتحت "عَلّ" قد فَعَلْنا، وتحت: "أَعِدْ": قد أعدناك إلى حُسن رأينا (أي عفونا عنك) وتحت "زِدْ" يُزادُ كذا وكذا... الخ...
هذا النوع البديعي (التّفويف) قديمٌ، وقد ذكرنا بيت النابغة الذبياني (من العصر الجاهلي) ومثله قول امرئ القيس وهو أقْدَمُ:
أفادَ وجادَ وسادَ وزادَ
وذادَ وقادَ وعادَ وأفْضَلْ!
ومن طريف الشعر في هذا الباب قول أحدهم في المدح:
يا مَنْ يؤمّلُ أن تكون خصالُه
كخصال عبد الله أنصِتْ واسْمَعِ!
اصْدُقْ وعَفّ وبِرَّ واصْبِرْ واحتملْ
واحلمْ ودارِ وكافِ وابذُلْ واشْجَعِ!...
