النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: من أدب العروض

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,954

    من أدب العروض

    نقلا عن الرابط:

    http://www.awu-dam.org/mokifadaby/373/mokf373-005.htm

    من أدب العَروض ـــ محمود فاخوري
    العروض واحد من "علوم العربية" القديمة، وهي عندهم اثنا عشر علماً، حفظناها أيام الطلب مجموعة في قول الشاعر:

    نحو، وصرف، عروض، بعده لغةٌ = ثم اشتقاق، وقرضُ الشّعر، إنشاءُ
    كذا المعاني بيانُ الخطّ، قافيةٌ = تاريخ هذا لعلْم العُرب إحصاء

    ومعروف أن واضع هذا العلم، ومقرر ضوابطه وقواعده هو اللغوي العبقري الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170هـ (786م). وهو من أئمة اللغة والأدب والنحو والموسيقا في تراثنا العربي والإسلامي.

    ولسنا هنا بصدد الكلام على علم العروض وواضع أوزانه وإيقاعاته، ولكنْ تكفي الإشارة إلى ما بذل هذا العالم العظيم من جهود كبيرة في سبيل تثبيت أركان علمَيْ العروض والقوافي وتحديد معالمهما، وبذلك يسّر تعلمهما وممارستهما، للشعراء والأدباء على السواء، ولم يأت بشيء من عنده، وإنما تقرى أشعار العرب القدماء، وحصر إيقاعاتها والأوزان الموسيقية التي نُظمت عليها، مستخدماً ما يحتاج إليه من مصطلحاتٍ ورموز وضوابط حتى استطاع أن يقيم صرح هذا العلم وتوابعه، على أكمل ما تكون.

    ومن العجيب أن يهاجم بعضُ "المعاصرين" الخليل بن أحمد ويتّهموه بالجمود والتخلف، لأنه في رأيهم جمَّد الشعر العربي، و"حجَّر" قواعده، وضيَّق على الشعراء منافذ القول. والرجل براء من ذلك كله، إذ أنه لم يأمر أحداً بشيء، ولا نهاهم عن آخر، وكل ما فعله هو أنه استنبط- بعبقريته الموسيقية- أوزان الشعر العربي وتفعيلاته وجوازاته، مما نظمه الشعراء القدماء، الذين يُحتج بأشعارهم في النحو واللغة والتفسير والأوزان، وما إلى ذلك، فعل الخليل هذا- كما فعل النحاة واللغويون عندما بدأ اللحن يسري على ألسنة الناس- وبذلك توضع الأمور في نصابها، ويبقى كلام العرب صحيحاً نقياً من الشوائب، وأشعارهم ذات إيقاع موسيقي سليم، وحدود واضحة، لتبدأ بعد ذلك خطوات التجديد والتحديث.

    على أن علم العروض رسخت دعائمه وتقررت قواعده على مر العصور، وأصبح مقتصراً على معرفة أوزان الشعر العربي، وما يعتريها من تغييرات. أما علم القوافي- الذي تفرع من "علم العروض" فيما بعد، فهو يتناول أحوال القافية، جملةً وتفصيلاً. وهو وإن اتصل بعلم العروض، وكان منه كالجزء، لكنه أدق منه وألطف، لاحتياج الناظر فيه إلى مهارة في علم التصريف، والاشتقاق، والإعراب، واللغة. وربما أُطلق تعبير "العروض" وأريد به العلمان معاً: علم العروض، وعلم القوافي. وهو ما نجري عليه في هذا البحث مجازاً، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل.

    ومن هنا يتبين لنا أن الحصول على لقب "شاعر" ليس بالأمر الهين وإلا أصبح كل من يتعاطى كتابة- ذات طابع فني- شاعراً، وقد يأتي يوم يصبح الناس فيه جميعاً شعراء، خلافاً لطبيعة الفنون- ومنها الشعر- إذ لا بد فيها من الجهد والإتقان والصعوبة- كما يقول توفيق الحكيم في كتابه "فن الأدب"- حتى يدعى المرء "فناناً" حقاً.

    وعلى توالي العصور أصاب الكتب المؤلفة في علم العروض شيء من الجفاف الذي يعتري علوماً أخرى تبتعد عن النداوة والطراوة، وأصبح هذا العلم في حاجة إلى شيء من النضارة والرونق، والامتزاج بحلاوة الأدب، الذي ينأى به عن جفاف العلم، ويجعله ندياً، بتقريبه إلى النفوس، وتحليته بالآراء النقدية، والأحكام الذوقية، والأخبار المستملحة، والطرائف المستجادة، مما يمكن أن يسمى بأدب العروض.

    ومثل هذا الجانب يحتاج تناوله إلى دراسات كثيرة، لا مجال للإفاضة فيها الآن، ولكني خلال عملي في هذا الميدان تأليفاً وتدريساً، على مدى ثلاثة عقودٍ ونيّف من السنين، استطعت أن أقع على جملة من الأخبار والنصوص، ومن الآراء والأحكام، ومن الطرائف والتجليات، مما يمكن أن يُسلك فيما سميته "أدب العروض".

    من ذلك ما حاوله بعضهم من جمع أسماء البحور الشعرية الستة عشر في بيتين اثنين، على الترتيب الذي يأخذ به العروضيون القدامى، تسهيلاً لحفظ تلك الأسماء وحصرها، حيث قال:

    طويل، يمدّ البَسْط بالوفر كاملٌ = ويَهْزَجُ في رجْزٍ، ويَرْمُل مُسرعا
    فسرِّح خفيفاً ضارعاً تقتضبْ لنا = من اجتُثّ من قُربٍ لتُدرك مَطْمَعا(1)

    وواضح أن الشاعر لا يستطيع أن يأتي باسم البحر صحيحاً كما هو، لأن الوزن لا يطاوعه، ومن ثم كان قوله مثلاً "يمد" إشارة إلى البحر المديد، وقوله: "من قُربٍ" إشارة إلى البحر المتقارب، وهكذا..

    ودفع الفضول بعضَهم إلى معرفة السبب الذي دعا الخليل الفراهيدي إلى وضع تلك الأسماء للبحور، فرووا أن الخليل نفسه سئل عن ذلك: "لمَ سميت الطويل طويلاً؟ قال: لأنه تمّت أجزاؤه. قيل: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط على مدى الطويل.. قيل: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره..
    قيل: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان.. الخ"(2).

    وانتقل هذا الاهتمام بالبحور وأسمائها إلى ضبط أوزانها نظماً في أبيات من الشعر، على طريقة "المتون" التي شاعت كثيراً في العصرين المملوكي والعثماني، لتسهيل التعلم والحفظ لدى الطلاب، كألْفية ابن مالك في النحو، وغيرها من أراجيز "الشعر التعليمي" ومتونه المختلطة في البلاغة والحديث والمنطق وغيرها.

    وقد سبق إلى ذلك- في ميدان العروض- الشاعر صفي الدين الحلي (-750هـ)، الذي نظم أوزان البحور الستة عشر، بأسمائها وتفعيلاتها فقال في "البحر البسيط" مثلاً:

    إن "البسيط" لديه يُبسط الأملُ = مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلُ

    وفي "البحر المُحْدَث" أو المتدارك:

    حركات "المُحدث" تنتقِلُ = فَعِلن فَعلن فَعلن فَعِلُ(3)

    واستعان بعضهم بآياتٍ قرآنية موزونة، على طريقة "الاقتباس" قرنها بتفعيلات كل بحر، وخص كل بحر ببيتين اثنين، كما فعل أحد شعراء القرن الحادي عشر الهجري، فقال في ضبط وزن البحر الطويل:

    طويل من الهجْران من كنتُ أهواه = أذاب فؤادي، والتصبُّر أفناه
    فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = "ولا تقتلوا النفس التي حرَّم اللهُ"

    وقال في وزن البحر البسيط (وهنا قد يعتري الزحاف بعض التفعيلات):

    بسطتُ من أملي أني أراهِنُهم = خوفاً من الهَجْر لما أن أُعايِنُهم
    مستفعلن فاعلن مستفعلن فعِلن = "فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنُهم"(4)

    واكتفى آخرون ببيت واحد من الشعر، خصوا به كل بحر، ويحتوي على اسم البحر في أول البيت، الذي يأتي موزوناً على البحر نفسه، حتى استوفوا البحور جميعاً. وهذا ما فعله أحد الشعراء الأندلسيين، ومن ذلك قوله في البحر الكامل: (متفاعلن، ست مرات)

    يا "كاملاً" في عقله تأدّبا = إني أتيتُك واصلاً متحبّبا

    وقال في بحر الرجز (مستفعلن، ست مرات):

    الرّجْزُ المنْظوم فيا لمليحِ = من جُلّ ما يُنشد في المديح(5)

    وتراثنا العربي حافل بالمصنفات المؤلفة في علمي العروض والقوافي، وكان بعض أولئك المؤلفين من المتأخرين يستعينون بأصحابهم من الشعراء كي يقرّظوا لهم كتبهم، ويشيدوا بها في أبيات مكينة يزينون بها أغلفة كتبهم، وهذه الأبيات مفيدة في إلقاء بعض الأضواء على هذين العلمين، وإغراء القراء بمطالعة الكتاب المقرَّظ، والشواهد على ذلك كثيرة، منها ما قاله ناصيف اليازجي (-1871م) "في تقريظ كتاب في العروض والقافية لبعض الفضلاء":

    كتابٌ مثلُ مصباحٍ، صغيرُ = يُضيء بنوره البيتُ الكبيرُ
    حوى في طيّه لفظاً قليلاً = ولكنْ تحته معنىً كثيرُ
    لقد جمع العروض مع القوافي = على وجهٍ، تناوُلـه يسيرُ
    يحقُّ لكل تلميذٍ ثناءٌ = عليه، يسوقُه قلبٌ شكورُ(6)

    وكتب شاعر آخر في هذا السياق أيضاً قائلاً:

    يا
    صاحِ هاكَ كتاباً في العروض بدا = وفي القوافي يُحاكي الكوثرَ الوافي
    اعذِبْ به منْهلاً، قد راق مورِدُه = يَروي الظّميّ، ويكفي الوارد العافي(7)
    وعلى كثرة ما ألف من كتب في العروض، وما ساد من طرائق مختلفة عملت على تذليل العقبات، وتيسير السبل إلى قطف أينع الثمار، فقد ظل كثير من الأدباء والعلماء والشعراء ينفرون من هذا العلم، ولا سيما رموزه ومصطلحاته، وما يجدون من عُسرةٍ في استيعابها وإتقانها، ويرون أن الموهبة الشعرية هي الأساس، قبل كل شيء، وأن العناية بتعلم التفعيلات والجوازات الشعرية إضاعة للوقت، ولا تجعل المرء شاعراً.

    ومما يُروى في ذلك قول ابن حجاج البغدادي (-391هـ) رافضاً علم العروض، ومنكراً على الخليل الفراهيدي جهده:

    مستفعلن فاعلن فعولُ = مسائلٌ كلُّها فضولُ
    قد كان شعر الورى صحيحاً = من قبل أن يُخلق الخليلُ(8)

    والطّبع عند أمثال ابن حجاج أنفع للأديب، في وزن الشعر، من علم العروض، الذي يُحيج طالبه أو ممارسه إلى كدّ الذهن وعرق الجبين، كما قال أبو فراس الحمداني:

    تناهض الناس للمعالي = لما رأوا نحوها نهوضي
    تكلّفوا المكرمات كدّاً = تكلُّفَ النظم بالعروض(9)

    ومن هؤلاء الشعراء أيضاً أبو الحسين الجزار (-679هـ) الذي يعترف بأنه يشارك في اللغة والنحو ونظم الشعر، على السليقة والموهبة، من دون إجهاد النفس في تعلّم القواعد والضوابط والموازين، فيقول:

    وقد شاركتُ في لغةٍ ونحو = بلا علمٍ، وشاع بذاك ذكري
    وفي علْم العروض دخلتُ جهلاً = وعُمْتُ بخفّتي في كلّ بحر
    مفاعلتن مفاعلتن فعولن = حديث خرافةٍ يا أمَّ عمروِ
    وعَيْشِكَ لستُ أدري ما طحاها؟ = وقد أقررتُ أني لست أدري
    كأني مثلُ بعض الناس لما = تعلَّم آيتَيْن فصار مُقْري(10)

    وهذا لا ينفي أن أبا الحسين الجزار كان- مع ذلك- يتقن الكتابة بلسانٍ عربي مبين، ولغة فصيحة بليغة، ويُجيد حبك القوافي ونظم الأشعار التي جعلته من متقدمي الشعراء في العصر المملوكي.

    فلا غرابة- والحالة هذه- أن يستعصي تعلم العروض على عدد من العلماء والأدباء ورواة الأخبار، على الرغم من سعة اطلاعهم على الشعر العربي، وحفظهم لمختارات كثيرة من روائعه، كأبي عبيدة، معمر بن المثنى
    (-209هـ) الذي كان- مع سعة علمه- ربما أنشد البيت فلا يُقيم وزنه(11).

    ومثله الأصمعي، أحد رواة الشعر العربي، وأخبار العرب، فقد تردّد في شبابه إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي زمناً، ليتلقى عليه العروض، فشرع الخليل يشرحه له، والأصمعي لا يفهم ما يقول، حتى استعصى الفهم عليه، ويئس الخليل، ولكن عزّ عليه أن يُبعده عنه لئلا يتألم الأصمعي منه، ولم يعدم طريقَه إلى ذلك، وهو العبقري الفذ، فطلب من الأصمعي أن يقطّع قول الشاعر؛ عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
    إذا لم تستطع شيئاً فدعه = وجاوِزْه إلى ما تستطيعُ

    فأنشأ الأصمعي يقطع هذا البيت دون جدوى، وما لبث أن استأذن وخرج، ولم يعد بعدها إلى العروض. فما ألطف هذه الإشارة وأرقَّها، وما أسرع فهم الأصمعي بالإشارات، وأثقله بالعروض(12).

    فمن ثمّ تحاشى بعضهم خَوْض بحار العروض، لئلا يكون الغرق نصيبهم، من أمثال ذلك الشاعر الذي يقول:

    إن
    العروض لبحرٌ = تعومُ فيه الخواطرْ
    وكلُّ من عامَ فيه = دارت عليه الدوائر(13)


    وفي قوله: "دارت عليه الدوائر" تورية لطيفة تعتمد على الإيهام، لأنها تذكّر بدوائر البحور الشعرية في علم العروض. واستخدام التورية بالمصطلحات العروضية أمر شائع في شعرنا العربي القديم، ومثله استخدام مصطلحات العلوم الأخرى: كالنحو، والصرف، والبلاغة وغيرها، وبذلك يُظهر الشعراء براعتهم في الاتكاء على المعنيَيْن معاً: المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي.

    وللمعري- على سبيل المثال- جولات كثيرة في هذا الميدان، حيث تناثرت أيباته في ديوانه "اللزوميات" خاصة، فمن ذلك قوله:

    وآمالُ النفوسِ مُعلّلاتٌ = ولكنّ الحوادث يَعتَرِضْنَهْ
    وأسبابُ المنى أسبابُ شعرٍ = كُفِفْنَ بعلْم ربّك، أو قُبِضْنَهْ(14)

    فالأسباب، والكف، والقبض هي مصطلحات عروضية، والكف والقبض زحافان يصيبان السبب (/ O) في آخر التفعيلة.

    ويشعر قارئ اللزوميات أن الأبحر الشعرية، وزحافاتها ودوائرها، وعللها، قد أصبحت كائنات حية في شعر المعري وأركاناً أساسية في الصور والتشبيهات، وعلاقاتٍ متواشجة الأواصر في الطبيعة والحياة والناس، وأداة تثقيف وتعليم للقارئ.

    فإذا أراد المعري أن يظهر للإنسان أن امتداد عمره حتى الثامنة والأربعين كافٍ، ولا قيمة للحياة بعد ذلك، قال له (2/237):

    عش يابْنَ آدم عِدّة الوزن الذي = يُدعى الطويل، ولا تُجاوِزْ ذلكا

    فوزن الطويل مؤلف في الأصل من (فعولن مفاعيلن) معاً، أربع مرات، وعدد حروف كل مرة اثنا عشر، وعلى هذا يكون عدد أحرف التفعيلات التامة في هذا البحر 48 حرفاً.

    ويرى أبو العلاء أن الإنسان إذا زاد نقص، وأنه إذا تجاوز قَدْرَهُ شيئاً قليلاً بان عيبُه وسقطُه، فشأنه شأن قصيدة صحيحة الأوزان: إذا زيد فيها حرف تبين السامع عيبها، وما دُهيت به. وهذا ما أراده المعري وعبّر عنه بقوله:

    وإذا النفوس تجوزت أقدارَها = حذْوَ البعوض، تغيّرت سُجَراؤها
    كصحيحة الأوزان زادتْها القُوى = حرفاً، فبان لسامعٍ نَكْراؤها(15)

    ويقول في لزومة أخرى:

    خَبَر الحياة، شرورَها وسُرورَها = من عاش عدة أوّل المتقارب(16)

    يعني أن من عاش أربعين سنة فقد عرف الحياة معرفة تامة، واختبرها اختباراً كافياً. وعبر عن تلك السنوات الأربعين بالإشارة إلى "أول المتقارب" أي الضرب الأول الصحيح مع العروض الصحيحة، وبذلك تكون تفعيلات البيت الواحد من المتقارب ثمانياً، وكل منها خمسة أحرف، فمجموع حروفها جميعاً أربعون.

    ويتحدث المعري في إحدى لزومياته عن الناس في هذه الحياة وقد أحاط بهم الأذى، وخالطهم التغير والفساد، واختلط بعضهم ببعض، حتى انعدم فيهم الجوهر الصافي واللباب الخالص، فيقول:

    غدا الناس كلُّهمُ في أذىً = فَزُجَّ حياتَك فيمن يُزَجّْ
    ولا تطلُبَنَّ اللبابَ الصريحَ = فَقدْ سيط عالَمُنا وامتزَجْ
    ألم ترَ أن طويل القَريض = من متقاربه والهزَجْ؟(17)

    والمعري يشبّه الناس في حالتهم هذه، واختلاط بعضهم ببعض- باختلاط بحرَيْ (الهزَج) و(المتقارب) حتى حدث منهما الطويل. فهناك أربع تفعيلات من المتقارب "فعولن"، وأربع أخرى من الهزج "مفاعيلن"، ومنها يتركب البحر الطويل "فعولن مفاعيلن" معاً، أربع مرات.

    ويبدو أن هذا الجانب، من العانية بالعروض وصناعة الشعر، وإيلاء القوافي اهتماماً أكثر.. قد نما وتعدّد، شكلاً ومضموناً، ولم يقف عند أمور أدبية قليلة، أو إجراءات فنيّة محدودة في هذا النطاق الذي نحن في صدده، ولم يتخذ ذلك منهجاً متطوراً، أو مذهباً متواصل الأسس والأركان، بل كان أقرب إلى الحرص على الإتيان بألوان جديدة مبتكرة في هذا السياق.

    وهذا باب واسع نلج منه إلى منافذ شتى، وجهات لا يتسع المجال لها في هذا المقام.

    من ذلك- على سبيل المثال- ظهور جانب الإلغاز والتعمية في عرض المعاني والأفكار، واختبار مدى ثقافة السامع أو القارئ، في مجال العروض والقافية والتقطيع الشعري كقول شمس الدين بن الصائغ:

    يا
    عروضياً لـه فِطَنٌ = بحرُها كالموج يضطربُ
    أيُّما اسْمٍ وَضْعُه وتدٌ = وهو إنْ صحّفْتَه سببُ
    ويُرى في الوزن فاصلةً = ساكناً تحريكُه عجَبُ(18)

    وهذا لغزٌ ظاهر الإشكال؛ لأن الوتد (//ه ) = [3] غير السبب (/ ه) = [2] ، والسبب غير الفاصلة
    ( الأرقام من إضافتي )
    (// / ه) = [1 3 ] = (2) 2 = 2 2 عند العروضيين. وتوضيح ذلك أن هذا اللغز يعتمد على التورية والإيهام، فالشاعر لا يريد الاصطلاحات العروضية- وهو المعنى القريب الذي يخطر على البال أول وهلة- بل يريد المعنىا لبعيد، وهو (الجبل)، وأراد بالوتد ما ورد في قوله تعالى: ]والجبال أوتاداً[. فـ"جبل" هو في تصحيفه "حَبْل" والحبْل في اللغة هو السبب، ومنه آية التنزيل: ]وتقطّعت بهم الأسباب[، على المجاز. ووزن "جبَلٍ" فاصلة صغرى، قبل التصحيف (/// o).

    وهذا لغز عروضي آخر في قول بعضهم:

    يا أيها الحَبْرُ الذي = عِلمُ العروض به امتزجْ
    أبِنْ لنا دائرةً = فيها بسيطٌ وهزَجْ(19)

    ففي قولـه "دائرة" تورية، معناها القريب غير امراد هو "الدائرة العروضية" ولكن المعنى البعيد المقصود، والذي سيق اللغز من أجله، هو (الناعورة) أو ما يسمى في مصر بالساقية، لأنه ليس في دوائر العروض ما يجمع البحرين معاً: البسيط والهزج، فالبسيط من "دائرة المختلف"، والهزج من "دائرة المجتلَب"(20)، وقد ورّى الشاعر عن الماء بالبسيط لأنه أحد البسائط الممتدة، كما ورّى بالهزج عن الصوت الذي يُسمع من الناعورة حال دورانها. والهزج في اللغة هو تردد الصوت وترجيعه، عند الغناء والحداء، ويكون فيه خفة وإطراب. ومن هنا جاءت تسمية "بحر الهزج" في علم العروض. ويروى أن بعض الشيوخ ألقى على أحد طلابه هذا اللغز "يا أيها الحبْر.. الخ" في حلقته العلمية وطلب منه حله. ففكر الطالب فيه ساعةً طويلة، حتى قال أخيراً لشيخه: هذا لغز في الناعورة (أو الساقية). فقال له الشيخ: إلا أنك دُرت فيها زماناً طويلاً حتى ظفرت بالمراد. وهذا من الشيخ- كما قيل- أحسن من الحل، لأنه كان ظريفاً في تعريضه وكنايته.

    ومما قد يذكر في هذا الباب أيضاً- باب الإلغاز والمعاياة والتعمية- ما شاع في عصور متأخرة، أو درج عليه بعض الشعراء، من نظم أبياتٍ لا قوافي لها، تنوب الإشارات أو الحركات في آخرها محل القوافي، أو صنع أبيات لا معنى لها، أو تتضمن ألفاظاً بلا معنى، ولا مدلول، بل تجري مجرى الهذيان، وينسبونها إلى شاعر قديم كالشنفرى، أو تأبط شراً، أو غيرهما، وهم منها براء، وربما تنطلي تلك الأبيات المصنوعة والزائفة على بعض الناس، فيبحثون عنها أو يسألون عن قائليها، في جهدٍ ضائع، ووقتٍ مُهْدَر، وليس هذا من الأدب السائغ في شيء، وإنما يدخل في باب المباسطات والمداعبات التي لا طائل تحتها.

    _________________________________________

    الإحالات والمصادر
    (1)-موسيقا الشعر العربي: محمود فاخوري- حلب 1987م، ص 19.

    (2)-ينظر النص كاملاً في كتاب "العمدة" لابن رشيق- تح. محمد محيي الدين عبد الحميد- القاهرة 19م، ج1/ 136.

    (3)-انظرها جميعاً في ديوانه، ط. صادر- بيروت 1962م، ص 621-623 تحت عنوان: "بحور العروض".

    (4)-عن مخطوط قديم، مجهول المؤلف والعنوان، يعود إلى سنة 1041هـ.

    (5)-انظر "نزهة الجليس" للموسوي، ط. مصر 1293هـ، ج1/81-82.

    (6)-ديوان ناصيف اليازجي- المطبعة الأدبية- بيروت 1903م، ج3/ 103.

    (7)-الأبيات لأرسانيوس الفاخوري اللبناني (-1883م) في تقريظ كتاب عنوانه: "الجدول الصافي في علم العروض والقوافي".

    (8)-مع الشعراء أصحاب الحرف، عبد العليم القباني- القاهرة 1967م، ص 72.

    (9)-ديوان أبي فراس الحمداني- ". صادر، بيروت 1959م.

    (10)-مع الشعراء أصحاب الحرف، ص 38.

    (11)-الأعلام: خير الدين الزركلي- ط3، القاهرة 1959م 8/191.

    (12)-قصة عبقري: يوسف العش- القاهرة 1946م، ص 56-57.

    (13)-خلاصة الأثر: للمحبي- بيروت (د.ت)- ج3/ 398.

    (14)-اللزوميات: أبو العلاء المعري- ط. صادر، بيروت 1961م، ج2/ 522.

    (15)-المصدر نفسه 1/54-55. الحذو: المقدار. والسُّجَراء: الأخلاء الأصْفياء.

    (16)-المصدر نفسه 1/280. زجَّ الشيء: دفعه دفعاً خفيفاً، سيط: اختلط بعضه ببعض.

    (18)-نزهة الجليس، ج1/ 78.

    (19)-المصدر نفسه ج1/ 78.

    (20)-انظر "موسيقا الشعر العربي": محمود فاخوري، ص 187-188

  2. #2
    زائر
    موضوع رااائع

    أعجبني المعري وفكره وخاصة في لزومياته

    غدا الناس كلُّهمُ فـي أذىً
    فَزُجَّ حياتَك فيمـن يُـزَجّْ

    ولا تطلُبَنَّ اللبابَ الصريحَ
    فَقدْ سيط عالَمُنا وامتـزَجْ

    ألم ترَ أن طويل القَريض
    من متقاربه والهزَجْ؟
    بعد أن انتهيت من قراءة الموضوع ذهبت للبحث عن المعري في محركات البحث ...نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    لله درك أستاذي على الاختيار الموفق
    موضوع ممتع ويستحق الدراسة لا القراءة فقط.
    التعديل الأخير تم بواسطة شكرا1963 ; 10-27-2006 الساعة 09:26 PM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط