بقلم حاتم السروي
الزجل فن معجون بتراب الشعب فهو منهم وإليهم في واقع الأمر، وهو يعبر باللغة العامية عن أسلوبهم في الحياة وطرق تفكيرهم وما تجيش به صدورهم من أحلام ومشاعر وفلسفة خاصة أملتها البيئة والظروف، وللكلمة الزجلية وقعٌ خاص على الوجدان الشعبي ومن اليسير على الناس عندنا أن يقبلوا على الزجل وأن يميزوا فيه بين الغث والثمين وهم بشكل تلقائي يعرفون الفرق بين الزجال الأصيل وبين من يقوم بـ (توليف) الكلمات صانعاً منها نصاً عشوائياً يثير فينا السخرية والازدراء.
والزجل كما يرد معناه في قواميس اللغة هو: اللعب والجلبة والتطريب، وفي (مختار الصِّحَاح): “الزجل هو الصوت”، ويغلب على الظن أن تسمية الزجل بهذا الاسم مردها طرب الناس لسماعه لتمكنه من لفت أنظارهم والتأثير عليهم ليصل بهم إلى التفاعل معه والاعجاب بناظمه.
فالزجل إذن تطريبٌ يوازي الشعر من جهة الوزن والقافية؛ وان كانت قواعد العروض لا تسري عليه لأن الوزن فيه يضبط سماعياً لا بقواعد الخليل بن أحمد، وناظم الزجل يضع وزنه بناءً على طريقة نطق العامة للكلمات، ونحن إذا نحَّينا من الاعتبار هذه الحقيقة ألفينا الزجل عبثاً لا طائل منه، غير أن معيار الزجل هو أذن المتلقي العامي؛ فالزجل فنٌ شعبي سماعي ليس أكثر ولا أقل.
والزجال الأستاذ (محمد الشرنوبي شاهين) يخبرنا في كتابه الشيِّق (الزجل في القليوبية) -الصادر سنة 1986م عن جمعية رواد قصر وبيوت الثقافة بالقليوبية-صـ11″ أن معظم آراء الباحثين تتفق على كون الزجل قد نشأ بدايةً في الأندلس وفي عهد دولة الملثمين -ولعله يقصد (المرابطين)- وأن أول زجال انتهت إليه مقاليد رئاسة فن الزجل في عصره هو (أبو بكر محمد بن عبد الملك بن قزمان) الذي أبدع في ذلك الفن وسارت أزجاله في الحضر والبادية وتناقلها الرواة.
وحين خرج الزجل من الأندلس إلى سائر البلاد العربية ومنها #مصر تلقفه المصريون وأعجبوا به ثم كتبوه وصارت له عندهم حظوة، وكانت #مصر أقرب لنشره وإذاعته من غيرها، وفي أواخر القرن الميلادي الثامن عشر كان للمصريين فيه صولةٌ وجولة.
ونحن نجد الزجل ذي مكانة في عصر المماليك؛ فقد ظهر في عهد (الناصر بن قلاوون) الزجال/عبد الله خلف بن محمد الغباري، وإلى ذلك احتشد العصر بالزجالين أمثال (ناصر الغيطي) الذي قيل أنه أول من عُرِف من ناظمي الزجل لكن قصب السبق كان للغباري حتى ظهر الشاعر والفيلسوف والحكيم الشعبي(ابن عروس).
وفي أوائل حكم (محمد علي باشا) ظهر الزجال/ أبو محمد عبد الله بن ابراهيم الفحام، وكان يطلب العلم في #الأزهر الشريف، وقد أبدع في نظمه حتى لفت إليه الأنظار وبفضله أقبل الناس على الزجل أكثر فأكثر.
ثم في عهد (الخديوي اسماعيل) ظهر (السيد/عبد الله النديم) الثائر والمناضل والصحافي والزجال، وبدأت نهضة زجلية كبرى ساهم فيها معه آخرون كان منهم (الشيخ/حسن الآلاتي)، و(الشيخ/رمضان حلاوة).
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهر العالم الأزهري/ محمد النجار، وكان يُعَد في ذاته مدرسة تلقى فيها كبار الزجالين أصول هذا الفن، وقد آزره في تلك النهضة الزجلية جماعةٌ كثيرون كان منهم (إمام العبد).
وألفينا من كبار شعراء الفصحى من ضرب في الزجل بسهمٍ وافر مثل: (أحمد شوقي)، و(حفني ناصف)، و(اسماعيل صبري).
ثم ظهر الزجالون العظام في القرن العشرين الذين لم نزل نقتات على تراثهم ونرتل قصائدهم أمثال: (بديع خيري)، (بيرم التونسي)، والمرحوم(أبو بثينه).
ومن الزجالين الكبار الذين لم ينالوا حظهم من الشهرة والكسب المادي وأعتبرهم من جنود الفن المجهولين (المرحوم/ مصطفى عثمان الطوربيد) الذي كتب الزجل، والأغنية، والمونولوج، ونشرت له بعض الصحف والمجلات كما أذيعت بعض مؤلفاته الغنائية في الراديو.
وكان المرحوم مصطفى عثمان جريئاً لاذعاً لا يقر الباطل ولا يسكت عليه؛ ولذا كتب قصيدة يهاجم فيها (اسماعيل صدقي باشا) رئيس الوزراء في حقبة الثلاثينات والمعروف باستبداده وبشاعته، وتسبب ذلك في فصله من عمله الحكومي في تفتيش الري بمدينة (بنها)، وظل بلا عمل غير أنه انقطع لكتابة الزجل وتأليف الأغاني، ولكن ما إن اقترب من عالم الشهرة الإذاعية حتى وافاه الأجل وتوفي الرائع مصطفى عثمان الطوربيد وهو بين سندان الفقر ومطرقة الأحزان وكانت سيرته إضافة جديدة لعالم الفنانين الأصلاء المتخم بالتراجيديا المؤلمة والباعثة على كره الدنيا وأهلها لولا بقيةٌ من أمل.
وقد استوقفني له نصٌ جميل يتحدث فيه عن أحوال الشباب التي تطورت في أيامنا هذه لكن إلى ما هو أسوأ! فبدلاً من (الحانة) التي ذكرها في قصيدته هناك الآن (الغرزة) وعوضاً عن الخمر بشتى مسمياته هناك(البرشام) و(الماكس) و(البانجو)، أما الفتيات فلا زلن يضعن المساحيق والمكياج الفاقع ويعانين من التفاهة واللامنطق والجهالة المفرطة مع فارقٍ طفيف هو قطعة قماش توضع على الرؤوس يقولون أنها الحجاب الذي أمر الله به!.
يقول الراحل/ مصطفى عثمان الطوربيد:
مين يعذر الشاب التلفان......غاوي الدواره وغاوي النط
هايص في وسط بنات الحان......وبعدها يبلط في الخط
لو تنصحه يعمل زعلان......وتلقى بوزه قوام اتمط
يفضل في بحر عماه غرقان......مش فاكر الداير يتلط
وبعدها يصبح عدمان......في صحته وشغله ينحط
والشابه رخره بعقل تخين......وحاطه ستين لون في الوش
ماعندهاش مله ولا دين......ودايره في الدنيا بتغش
دول ناس كلاب أندال ملاعين......خلوها خل وزفت ومش
وقلبي م الأحوال دي حزين......معلول ووارم مش بيفش
يا ما نفسي تبقى فيه قوانين......في كل دول تنزل وتحِش
**************
هل حقا خرج الزجل كليا عن عروض الخليل ؟
هل الضبط السماعي الشعبي خرج بالكامل عن قواعد الخليل ؟
استعمال ( كليا و بالكامل ) إقرار بعدم تقيد الزجل بحرفية تفاعيل الخليل. لكني أجده كما في النص المرفق ملتزما إلى حد بعيد بالتخاب بعد الأوثق، متفقا في ذلك من حيث المبدإ مع عروض الخليل وإن اختلف معه في الكم. وقد سبق استعراض ذلك في الفصيح مرارا
التخاب يعني أن يتكون البيت ( وربما الشطر أحيانا) من جزئين أولهما بحري قبل الوتد قطعي الثبوت ( الأوثق) وثانيهما خببي بعده .
وكمثال على ذلك من الرابط::
https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/wama-allamnaho
إذا اعتصمنا بالأحدِ -- بكل قطر أو بلدِ
نمشي على درب هُدىً -- ضعوا أياديكم بيدي
وإن تولّوا هم هُبلاً -- إنا استعذنا بالصّمدِ
فالنص هنا يجري على الوزن :
2 2 3 2 2 1 3 ......3 3 2 2 1 3
ولو تأملته لوجدته مقلوب الجزء الأول من الدوبيت.
وكما يبقى الدوبيت صحيحا - بمقياس الدوبيت طبعا - لو حلت 1 3 1 3 محل 2 2 1 3 في بعض النص، فكذلك يبقى هذا الوزن صحيحا لو جرى نفس التغيير وذلك بمقياس التخاب في الموزون.
إذا اعتصمنا بالأحدِ -- بكل منتشر البلدِ
2 2 3 2 2 1 3 .....3 3 1 3 1 3
4 3 2 2 (2) 2 ......3 3 (2) 2 (2) 2
4 3 2 2 (2) 2 ......3 3 2 2 (2) 2
نمشي على منتَهَجِ هدىً -- ضعوا أياديكم بيدي
وإن تولّوا هم هُبلاً -- إنا استعذنا بالصّمدِ
الأبيات الواردة في الزجل يسير معظمها على هذا النحو
مين يعذر الشاب التلفان......غاوي الدواره وغاوي النط
هايص في وسط بنات الحان......وبعدها يبلط في الخط
ها يص فوسْ (طب) نا تل حا نْ .....وبع دهيْ بل لط فب خطْ
2 2 3 (2) 2 2 2 ه ......3 3 2 2 2 2
لو تنصحه يعمل زعلان......وتلقى بوزه قوام اتمط
يفضل في بحر عماه غرقان......مش فاكر الداير يتلط
4 3 (2) 2 2 2 ه .....4 3 2 2 2 2
وبعدها يصبح عدمان......في صحته وشغله ينحط
والشابه رخره بعقل تخين......وحاطه ستين لون في الوش
ماعندهاش مله ولا دين......ودايره في الدنيا بتغش
دول ناس كلاب أندال ملاعين......خلوها خل وزفت ومش
وقلبي م الأحوال دي حزين......معلول ووارم مش بيفش
يا ما نفسي تبقى فيه قوانين......في كل دول تنزل وتحِش
***
فلنجرب وقع ذلك في الفصيح
من يعذر الشخص القَلِقا .....إن في غدٍ سرَقَ وأَبِقا
4 3 2 2 1 3 ....4 3 1 1 1 1 1 3
4 3 2 2 (2) 2 ....4 3 (2) (2) (2) 2
يبقى يحاول في عبثٍ .....مما يعاني ، ما سبَقا
4 3 (2) 2 (2) 2 ....4 3 2 2 (2) 2
***
كم يسرني أن أجد في خصائص الأذن العربية حتى في عاميتها ما يتفق وتنظير الرقمي في التخاب ومستساغ الموزون.
لمن أراد أن يدرس التخاب :
https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/jalt-4
https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/rewayah
يحسن أن يطلع القارئ على موضوع الدوبيت في الدورة السابعة
https://sites.google.com/site/alarood/d6/d7
المفضلات