مقدمة:
هذا أيضاً مقال قديم للفقير.
وهو يتناول موضوعاً انشغلت به زمناً وسميته اسماً مؤقتاً: "نظرية التفاهم"!
كنت قديماً ولا زلت أعتقد أن التفاهم بين الناس ليس معطى بديهياً، بل هو ظاهرة إشكالية تستحق البحث في شروط نجاحها وإخفاقها.
ومفهوم أساسي في البحث عندي هو مفهوم "الالتباس" وهو قريب من مفهوم "المشترك اللغوي" وهو عائق معرفي، لغوي أمام التفاهم.
وإن كان سوء التفاهم وارداً بين أبناء ثقافة واحدة فهو وارد كثر في الثقافات المختلفة.
التشكيلات الدلالية وتحليل الالتباس
يتكون التشكيل الدلالي من إشارة ومعنى، أي من "دال" و"مدلول"، وقد تقترن مجموعة من الدوال في تشكيل هو التشكيل الدال، ومجموعة من المدلولات في تشكيل هو التشكيل المدلول.
تحليل عام للالتباس:
لنأخذ البيت العربي القديم المشهور:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
بالنسبة للعربي المعاصر لا يوجد ما هو غريب في كلمات هذا البيت فهي كلها كلمات مستعملة في عربية زماننا، غير أنني أزعم مع ذلك أن البيت غير مفهوم لأغلب العرب. لماذا؟ مع أن الكلمات كلها "مفهومة"؟ السبب هو وجود تركيبات "غير معقولة" من الألفاظ: "يدنس"، "اللؤم"، "العرض" فحين قال الشاعر إن "العرض يدنس من اللؤم" بدا الأمر للعربي المعاصر تجميعا لكلمات متنافرة لا يمكن أن تعطي معا معنى معقولا كما لو أن أحدا قال مثلا"الماء يشرب الطاولة" ووضعت بين أقواس الكلمات لأنني سأقول فورا إن العربي غير المتمرس في اللغة يظن أنه يعرف هذه الكلمات على حين أنه لا يعرفها. لماذا؟ لأن معناها تغير منذ زمن الشاعر، حصل تغير دلالي كما نقول. فلكلمة "اللؤم" معنى قديم ومعنى جديد مختلف وكذلك كلمة "العرض".
فالتركيب "العرض يدنس من اللؤم" كان معقولا حين كانت المعاني الخاصة بالكلمات الأساسية "العرض"، "اللؤم" مختلفة (على الهامش أقول إن "اللؤم" كان يتضمن معنى "دناءة النسب" وفق مفاهيم ذلك العصر، ولها امتداد حتى عصرنا، وكان ينعكس عن هذا المعنى صفات مرتبطة من الأخلاق الدونية كالبخل وغيره، و "العرض" كان يتضمن معنى السمعة والاحترام الاجتماعي، ومن المفيد أن نلاحظ أن المعنى بأسره قد يختفي مع التغير الاجتماعي فلا يقتصر التغيير على بقاء المعنى وتغير التركيب اللفظي المعبر عنه وقد يبقى اللفظ ويأخذ معنى جديدا مسببا مشكلة في الفهم مثل هذه التي نناقشها الآن).
ولنعد إلى موضوعنا: لقد حصل "التباس" عند القارئ المعاصر ناتج عن اختلاف "المدلول" فالدال الواحد (الكلمة) لها مدلولان واحد قديم وواحد جديد والالتباس يحصل حين يظن المتلقي أنه يعرف المدلول وهو في الحقيقة لا يعرفه.
و "سوء الفهم" أسوأ من "عدم الفهم" من ناحية عملية و نعني بعدم الفهم عدم وجود مدلولات في الذهن لدال معين و أما سوء الفهم فنعني به وجود مدلول خاطئ للدال، و عدم الفهم أحسن لأنه يدفع السامع لمحاولة الفهم بينما سوء الفهم يخدع صاحبه و يجعله مطمئنا لفهمه الخاطئ . و ما ينطبق على التشكيل اللغوي كحالة خاصة من التشكيلات الدلالية ينطبق على جميع هذه التشكيلات و سأضرب لهذا مثلا توضيحيا: إشارات المرور الموجودة عندنا تتضمن تشكيلا دالا: أخضر –أصفر- أحمر و تشكيلا – مدلولا: مر- استعد- قف. لنفرض الآن أننا سافرنا إلى بلد فيه التشكيل الدال (إشارات المرور) يتألف من علامات أخرى غير الألوان عندها سنكون في واحد من وضعين رئيسيين أو "موقفين رئيسيين تجاه الدال" كما يمكن أن نقول: الوضع الأول :عدم الانتباه إلى وجود دال. عندها أما أن نبحث عن إشارات المرور و نكتشف وجودها في هذا التشكيل الدال الغريب، الوضع الثاني: الانتباه إلى وجود تشكيل دال غريب لا نفهمه و بهذه الحالة نحاول أن نفهمه، و نحن إذا في حالة "عدم الفهم"، و هذه الحالة أقل سوءا من الحالة التي يكون فيها التشكيل الدال "إشارات المرور" يتألف من نفس إشارات المرور التي نعرفها و لكن الأحمر مدلوله "مر" و الأخضر مدلوله "قف" فحين نرى هذه الإشارات دون أن تكون لنا فكرة مسبقة عن اختلاف معناها عما نعرفه نكون معرضين إلى سلوك خطأ خطير العاقبة ناتج عن سوء الفهم: اعتقادنا أننا نفهم! .
إن التشكيلات الدلالية في الوعي لها دور عملي أكثر بكثير مما يخطر على البال للوهلة الأولى و لذلك فإن الالتباس (سوء الفهم) الرفيق الملازم لهذه التشكيلات، هو أيضا أكثر تواترا في تجربة الفرد و الجماعة مما يخطر لنا.
و إزالة الالتباس تتضمن بالضرورة خطوتين لا بد منهما: الأولى إعادة "سوء الفهم" إلى وضع "عدم الفهم" (أي تجريد الدالات من مدلولاتها الخاطئة) و الثانية "الفهم" (أي ربط الدالات بالمدلولات الصائبة).
و نقول إذا في تحليلنا العام للالتباس إن الدالات عموما نوعان (بالنسبة إلى شخص مدرك معين "م"): دالات مرتبطة بمدلول و دالات غير مرتبطة بمدلول. موضوع سوء الفهم هو الدالات من النوع الأول. و نلاحظ أن كلا من "عدم الفهم " و "سوء الفهم" يتعلقان بحالة وجود دالات مؤكدة الصفة (أنها دالة) في "سوء الفهم" تكون الدالة موجودة و لكننا نربطها بمدلول خطأ و في "عدم الفهم" تكون الدالة موجودة و لكننا لا نعرف مدلولها فلا نربطها بأي مدلول لا خاطئ و لا صحيح و في الحالتين نحن منتبهون إلى وجود الدال و الدال موجود حقا و لا نتوهمه . ثمة حالتان أخريان الأولى هي وجود الدال مع عدم الانتباه إلى صفته كدال مثلا بعض النجوم دوال لفصل المطر عند الأعراب المتمرسين و يسمونها "الأنواء" بينما هذه الدوال غير معروفة الصفة عند غير المتمرس.الحالة الثانية و نعبر عنها بالقول إنها "حالة توهم وجود الدال" و هو ربط مدلولات بدالات خطأ (أي أن هذه المواضيع اعتبرت دوالا للمدلولات المعنية دون أن تكون كذلك) مثلا النظريات التي تربط صفات نفسية خطأ بصفات جسدية، الاعتقاد مثلا أن العيون الزرق تدل على الخبث.
و نشير فقط هنا إلى أن العلاقة بين الدال و المدلول قد تكون طبيعية يكتشفها الإنسان و لا يد له في صنعها و قد تكون صنعية .و المزيد حول هذه النقطة يحتاج إلى توسع لسنا الآن في صدده .
و لنعد إلى موضوع "سوء الفهم" و لنسمه من الآن فصاعدا حتى نهاية المقال "الالتباس" و لنسأل عن أسبابه المتواترة.
خذ مثلا: الالتباس اللغوي: ثمة أسباب لتغير مدلولات الألفاظ في الزمان (و في المكان أيضا فثمة كلمات عربية تعني في المشرق شيئا و في المغرب شيئا آخر، أي قد تختلف مدلولات الكلمة بين مدينتين متجاورتين) يدرسها المختصون في هذا الفرع من علم اللغة، و الموضوع هنا يتعلق باستمرار الدال و تغير المدلول لأسباب خاصة بسنة التغير الدلالي.
استمرار الدال و تغير المدلول سبب للالتباس اللغوي.
ثمة سبب آخر لهذا الالتباس ناتج عن كون الأصوات في اللغة محدودة العدد مما يجعل احتمال تكرار تشكيل صوتي معين كبيرا لحد كاف مع مدلولات مختلفة (قد تكون الكلمة الواحدة موجودة في لغتين مختلفتين بمدلولين مختلفين إما بالمصادفة التي ذكرنا للتو سببها و إما لأسباب أخرى كاستعارة الكلمات من لغة إلى لغة). و سنتكلم بعد قليل عن السبب المتعلق بمحدودية "الأحجار الأولية" التي ينبني منها الدال (أو العلامة).
حالات الالتباس في درجتي تعقيد مختلفتين:
أبسط حالات الالتباس هي الحالة التي يكون فيها الدال واحدا و يحصل الاختلاف في المدلول، و هذه درجة التعقيد الأدنى و فيها يمكن للمدرك أن يصحح الالتباس باستبدال المدلول – يضع المدلول الصحيح مكان المدلول الخاطئ.
درجة التعقيد الأعلى هي حين يسلك المدلول المفترض أنه صحيح سلوكا غريبا نعبر عنه أنه خارج السيطرة في علاقته بالدال.
خذ مثلا على هذه الحالة العربي الذي يضع كلمة Survive مرادفا لكلمة "نجا" العربية.
لكن العربي يلاحظ أن العلاقة بين الدال و المدلول المفترض لهذه الكلمة "يسلك سلوكا غريبا":
حين يرى العربي أن كلمتي "بيت" و "منزل" لهما نفس المدلول فهذا يعني أنهما يسلكان نفس السلوك اللغوي مقابلان تماما للتبادل ففي الجملة "س" يسكن في البيت يمكن أن نضع "المنزل"بدلا من البيت فلا يختلف شيء في سلوك الدال الجديد اللغوي في علاقاته مع الدوال (الكلمات) الأخرى فنحن نقول "س" يسكن في المنزل.
العلاقة بين Survive و "نجا" لا تسلك نفس السلوك المعتاد للكلمات المتحدة في المدلول لأن "نجا" ترتبط ارتباطا لازما بحرف الجر من بينما تتعدى Survive مباشرة.
نقول: "نجا من الحادث" و He survived the accident و بوجه عام نقول إن الالتباس من الدرجة الثانية من التعقيد حين لا نفلح في وضع المدلول المفروض أنه ملائم للدال في سياق مقبول لنا ينسجم مع القواعد المحددة للعلاقات الداخلية بين التشكيل الدال و التشكيل المدلول.
و نحن نفترض أن الالتباس من الدرجة الثانية من التعقيد يكثر ظهوره حين يتعلق الأمر بمحاولة "ترجمة" ظواهر ثقافية معقدة تميز حضارة معينة إلى مفاهيم حضارة ثانية. مثلا قول الطيار المصري بالعربية "توكلت على الله" قبل سقوط طائرة "مصر للطيران" في هذا العام 1999 و التخيلات الأمريكية عن معنى هذه العبارة.
إذا أطلقنا على العملية التي يقوم بها الوعي بالربط بين الدالات و المدلولات الاسم العام الاصطلاحي "الترجمة"، فسوف نرى أن الوعي في حالة "ترجمة مستمرة" و هذه الترجمة لها هدفان هما بعدا الترجمة: الفهم و إزالة الالتباس.
و الالتباس متواتر أكثر مما نتوقع، فكثير جدا مما نظنه فهما هو في حقيقته التباس، و كثير جدا من مسلماتنا عن الواقع أخطاء لا تطلق إشارات حمراء لأنها لم تتناقض بعد مع التجربة تناقضا جادا.
و حين يقرأ أناس من ثقافة معينة نصا من ثقافة ثانية فإنهم يصادرون على أنهم "فهموا". لقد ترجم الأمريكان ما قال الطيار المصري و فهموه "فهما أمريكيا".
لا غرابة في ذلك إذ أن مصلحتهم تتناسب مع هذا الفهم الغرابة هي في عدم انتباه المصريين إلى أنهم هم لا الأمريكان المؤهلون لفهم هذا القول و عدم اعتراضهم عائد لأسباب عديدة واحد منها فقط مفهومهم السطحي المبالغ فيه عن إمكانيات الترجمة الدقيقة الأسباب الأخرى تتعلق بحسن الظن العربي المعتاد عموما و حسن الظن "بالأصدقاء الأمريكان" خصوصا تماما كما أن الخطأ الأمريكي لا يعود فقط إلى الأسباب العامة للالتباس التي نحن بصدد مناقشتها فعلاوة على المصلحة و الإسقاط النفسي للعدوانية على الآخرين هناك سوء النية إزاء كل تعبير ديني ينطق به مسلم فثمة تصور أنه يعني بالضرورة الشروع في عمل عنيف و هو في حالة الطيار انتحار و قتل جماعي في الوقت نفسه.
و حين صار الموضوع: الترجمة يتعلق بالسمعة التجارية لشركة الطيران المصرية و بخسارة مئات الملايين من الدولارات "أطلق الخطأ الإشارات الحمراء" إذ بالصدمة نكتشف الالتباس و الصدمات هي أحسن مصحح للترجمات!
من الأحسن و الأدق علميا و الأسلم أيضا اعتبار الترجمات باعثا على سوء الفهم كما هي باعث على الفهم و هذا الحكم العام مفيد جدا للذين يخوضون غمار "الحوار بين الحضارات" الذي هو بحق شعار عصرنا.
الالتباس في التشكيلات الدالة بين الحضارات:
إن العناصر الأولية للتشكيل الدال، "أحجار البناء" للدال محدودة، فهذا الكون واحد للجميع، و الجسم البشري واحد في تفاصيله الهامة، و ثمة عناصر مادية كثيرة مشتركة بين الحضارات المختلفة. كل هذا يسبب ظاهرة التداخل في الدوال، و بالتالي يسبب بصورة حتمية ظاهرة الالتباس الذي نعرفه بأنه ربط الدال بمدلول خاطئ أخذ من مجموعة مدلولات موجودة للدال. هز الرأس إلى أسفل و أعلى يعادل في بلغاريا قولك: لا و عندنا يعادل: نعم، و هز الرأس جانبيا إلى اليمين واليسار يعني عندهم: نعم و عندنا:لا و كما يرى القارئ اللبيب الدال الواحد له مدلولان مختلفان مما يسبب الالتباس بصورة حتمية لكل فرد من الشعبين يتعامل مع هذه العلامة التي ينفذها واحد من الشعب الآخر لأول مرة.
سبب وحدة الدال هنا هو الاشتراك في ظاهرة وجود رأس عندنا و عندهم! و الإنسان عموما يميل لاستعمال أعضاء جسمه للإشارة و "أحجار بناء الإشارة" هذه محدودة العدد، و التشكيلات الناتجة عن تكرارها بنظام معين محدودة العدد أيضا بينما المعاني المطلوب التعبير عنها كثيرة عند كل الشعوب و حيث أن الارتباط بين الدال و المدلول اعتباطي عموما فإن نفس التشكيل الإشاري يمكن أن يرتبط بمدلولات مختلفة عند شعوب مختلفة.
و هذا هو الحال في النظام الأهم للدلالات، التشكيل الدلالي الأساسي للإنسان الذي هو اللغة. فالدالات (التي هي الألفاظ) تتكون من عدد محدود من الأصوات هو كل ما يسمح به التركيب الفيزيولوجي للفم و اللسان و الحنجرة، و من هنا كانت ظاهرة الاشتراك اللغوي (لفظ واحد لمعاني مختلفة) ظاهرة لا بد منها.
و إذا عرفنا "الدال" بأنه شيء يدل على شيء آخر، فما أكثر الدوال! إن السلوك نفسه يكون تشكيلا دالا، فهذا السلوك يدل هنا على شيء و يدل هناك على شيء آخر، و ظاهرة الاشتراك هذه، المعتادة هنا كما هي معتادة في كافة التشكيلات الدلالية الأخرى تسبب هنا مثلما تسبب هناك ظاهرة الالتباس (يبدو أن اللجوء إلى الله عند الأمريكان سلوك يدل على نية الانتحار أو القتل أما عند المصريين فلا! و إلا فليتقدم لنا المحققون الأمريكان بتفسير آخر لسوء فهمهم للجوء الطيار المصري إلى الله).
و أمثلة محدودية "أحجار بناء الدال" كسبب "للاشتراك" الذي هو بدوره سبب للالتباس كثيرة: و يمكن أن نعد منها إلى ما لانهاية مثلا: الألوان محدودة و بالتالي فلابد أن اللون الفلاني في المكان الفلاني له معنى آخر في مكان آخر (و لو كانت الألوان لانهائية العدد أو أكثر مما هي عليه بكثير لقل احتمال الالتباس، و إذا أعطينا الشعوب اللونين الأبيض و الأسود و قلنا لهم اعملوا من هذين اللونيين مع الحزن و الفرح تشكيلا دلاليا فسنجد لا محالة أن من الشعوب من يعد الأبيض علامة فرح و الأسود علامة حزن و منها من يعد الأبيض علامة حزن و الأسود علامة فرح).
و كما يرى القارئ فإن إفهام الاختصاصيين الأمريكان ما تعنيه "توكلت على الله "المصرية يحتاج إلى جهد خارق قد لا ترى البراغماتية الأمريكية ضرورة لبذله فهو غير مربح و لا يمتلك "جدوى اقتصادية".
إن النظام الدلالي لشعب ما يهم الشعوب الأخرى بقدر أهمية هذا الشعب، و لو كنا مهمين لاضطر الأمريكان إلى تعلم إشاراتنا و معاني أقوالنا.
المفضلات