المجون في شعر بشار بن برد دوافعه وأبعاده ـــ د.أحمد علي محمّد(*)

هذا مقال عن موضوع سبق لأهل منتدى العروض التطرق إليه، وهو موضوع الشعر المتحلل من القيم في بعض تاريخنا الأدبي.
وقد أحسست بأن الكاتب يناقض نفسه قليلاً، غير أنه في بعض ما قال يستحق أن يناقش بدقة أتوقعها من رواد منتدانا الكرام.
وعلى هذا الأساس نسخت لكم هذا المقال
http://www.awu-dam.org/trath/98/turath98-010.htm
من موقع مجلة "التراث العربي" الدمشقية:-محمد
المقدمة:
دواعي البحث ومشكلته ومنهجه:
كانت دوافع أغلب الدراسات الأدبية التي تناولت موضوع المجون في الشّعر العباسي خاصة تتركز حول أثر الظروف التاريخية التي أسهمت في نشوء تلك الظاهرة، فكانت النتيجة التي خلص إليها معظم تلك الدراسات لا تخرج عن حدود الأحكام العامة والتقييدات المنهجية التي يظهر بموجبها الشعراء وكأنّهم انتظموا في مدارس وهيئات منظمة وحملوا أفكاراً محددة ثم أشاعوها بصورة مقصودة، ومن هنا تسنى لكثير منهم الكلام على تيارات ومذاهب واتجاهات لها خصائصها الفكرية والفنية المميزة، والواقع أنّ هذا النهج المدرسي في دراسة الفن قائم على مغالطة واضحة، ذلك لأنّ الفن خارج عن التقييد، وبعيد عن التصنيف، لأنّه محكوم بالخصوصية، من أجل ذلك كان تلمس الحقائق الموضوعية في دراسة ظواهر الفن لا يأتي بما هو موصولٌ بطبيعته.
إنّ التصنيفات المنهجية لا تكترث في النتاجات الأدبية إلا بما هو متكرر أو ما يشكّل خطوطَ ظاهرةٍ عامة، لتكون هنالك نتائج وخصائص ومقومات مشتركة لهذه الفئة من الشعراء أو تلك، وهنا تكمن الخطورة التي يخضع بموجبها الشّعر إلى أفكار مصممة مسبقاً، فإصرار الباحثين على استخلاص القيم العامة والخصائص المشتركة يلغي مفهوم الخصوصية لكلّ شاعر بل لكلّ نصٍّ، لأنّ الشّعراء مختلفون فيما بينهم، واستجابتهم للأفكار متباينة. هذا أمر، وأمرٌ آخر أنّ الشعر العربي في كلّ تفصيلات تاريخه لم يكن منبعثاً عن اتجاهات فكرية، ولم يكن ملتزماً بالتعبير عنها بصورة قسرية إلا ما كان من شعر الفِرَقِ، وهذا ليس اتجاهاً عاماً في الشعر العربي على أية حال، أو أنّ شعر الفِرق لم يشكّل لدى القارئ العربي حضوراً دائماً في الذاكرة، وإنّما هو شعر تستدعيه الحوادث التاريخية والصراعات المختلفة التي كانت قائمة بين المذاهب والأحزاب، وقد أكد الزمّان أنّ الشّعر الجيد الذي عبر عن صموده الأزلي هو الشّعر الذي قيل بمعزل عن الظروف التي كانت تحيط به، وخارج إطار الأفكار التي كانت سائدة في حقبة من الحقب أيضاً، بدليل أننا نقرأ شعر المتنبي والبحتري وابن الرومي اليوم لما يمثله ذلك الشّعر من خصوصية، ومن هنا أصبح يلبي عندنا حاجة جمالية تشبع رغبتنا للتميز والإبداع.
لقد آثر أغلب من درس الشعر وَفْق تيارات فكرية اعتباره دليلاً على وجود تلك الأفكار وشيوعها وبيان آثارها في الواقع، بمعنى أنّ هذا النمط من الدراسات لم يُعْنَ بالظاهرة الأدبية، لأنّ المجون على سبيل المثال شكّل لديهم موضوعاً فكرياً، فكان الشعر حاملاً لذلك الموضوع، والأصل أن يُدرس المجون على اعتباره موضوعاً فنياً غير تابع للأفكار أو الأحداث، لأنّ الشّعر في الحقيقة لا يستطيع التعبير عن الأفكار الدقيقة كما يعبر عنها النثر، وإذا ما حدث مثل ذلك خرج الشّعر على طبيعته، بدليل أنّ الذين حاولوا تضمين الشّعر الأفكار والمعارف العلمية حولوه إلى قوالب جامدة دخلت في إطار الشعر التعليمي الذي يخلو من روح الفنّ، والحقّ أنّ الشّعر هو الذي يخلق الأفكار ويبتكر المعاني ويثير الانفعالات ومن ثَمَّ يحمل الناس على التأثر والتواصل والتمثل، يقول أبو تمام:
ولولا خلالٌ سنّها الشّعرُ ما دَرَى بُغَاةُ المعالي أين تُؤتى المكارمُ
ومن الدراسات التي بالغت في تصنيف الأسباب الموضوعية لظاهرة المجون دراسة هدارة الموسومة بـ "اتجاهات الشعر في القرن الهجري الثاني" حيث وضع الباحث يده على جملة من الأسباب التي جعلت من المجون تياراً فنياً جارفاً، وقد حدد أولاً الإطار الزّمني لهذه الظاهرة بالقرن الهجري الثاني ملغياً المحاولات الفنية السابقة في هذا الموضوع لأنّها لم تشكّل عنده تياراً فنياً له خصائصه ومقوماته المميزة، ثم حدد مفهوم المجون بقوله: "هو ارتكاب المآثم والدعوة إلى التحلل الأخلاقي، ومجانبة الآداب بدعوى الحرية الفكرية"([2])، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الشعر عبر فواصل تاريخه كان ينطق بما يوافق الأخلاق والفضائل؟ ثم متى كان الجانب الأخلاقي أو حتى الموضوع الشعري معياراً لجودة الفنّ عامة والشّعر خاصةً؟ وهل موضوع الهجاء ـ وهو من أوسع أبواب الشعر العربي ـ بعيدٌ عن ارتكاب المآثم والتحلل الأخلاقي، وخصوصاً ذلك الهجاء الذي يعمد فيه الشعراء إلى القذف والفحش؟ ثم هل كان الغزل العربي أو حتّى المديح خالصاً لوجه الأخلاق؟
إذا كان المجون عند هدارة ما هو إلا التصريح بالمآثم والتحلل الأخلاقي ومجانبة الآداب، فإنّ باباً واسعاً في الشّعر العربي دخل في المجون، وعليه فإنّ الباحث لم يوفق فيما أرى بتحديد هذا المفهوم تحديداً موضوعياً، أو أنّه لم يستطع ضبطه بما يوافق مجالات استخدامه الحقيقة، فما اصطلح عليه بشعر المجون وإن كان متسعاً إلا أنه لا يخرج عن حدود العبث مع ما ينطوي عليه ذلك المفهوم من عوالق وملابسات، وتحت هذا الإطار يمكن أن ندرج مجون بشار ومجون أبي نواس. والعبث لم يكن منقطعاً عن الأسباب والدوافع الشخصية، من أجل ذلك كان مجون بشار يختلف عن مجون أبي نواس، لأنّ هنالك من الأسباب النفسية والاجتماعية والثقافية والطباع ما يجعل المجون نزوعاً فردياً يدل على سمات خاصة، إذ الناس في هذه الأمور مختلفون، فهم وإن تقاسموا صفة العبث إلا أنّ لكلّ فرد دوافعه، ثم إن مؤدى العبث بين الشعراء متباين، فعبث بشار لم يصل إلى درجة تعابث أبي نواس مثلاً، كما أنّ عبث أبي دلامة لم يصل إلى درجة عبث بشار، فهؤلاء جميعاً كانوا من المجان ولكن لكلّ نفر منهم أسبابه ودوافعه.
لقد وقف كلّ من د. طه حسين وفلهوزن وعبد الرحمن بدوي كما يصور هدارة([3])، عند أسباب المجون، فزعم د. طه حسين أنّ التماجن في الشعر قد بدأ بتحول السلطة من الأمويين إلى العباسيين، ويرمي من وراء ذلك إلى أنّ العنصر الفارسي كان له الأثر البارز في نشوء هذه الظاهرة، ثم تبنّى هدارة هذا الرأي عندما لاحظ أنّ أغلب الشعراء المُجّان كانوا من الموالي، وهذا مؤداه إلى أمرين: الأول يشي بأنّ عهد بني أمية كأنّه عهد لم يُعَبّر فيه الشّعراء إلا عن الفضائل، وهذا غير صحيح على الإطلاق فصور النقائض التي شارك فيها كبار شعراء بني أمية كلّها في الهجاء القائم على التهتك وتتبع سوءات الشعراء والطعن في أنسابهم وتحقيرهم إلى الحدّ الذي تنتفي فيه إنسانيتهم، ثم إنّ شعر الفرزدق وما فيه من فحش هل يُصَنّف خارج دائرة المجون؟
وإذا أعدنا النظر في غزل الأمويين كغزل عمر بن أبي ربيعة ووضاح اليمن وغيرهما، فهل نجد في ذلك الغزل ما يخالف غزل بشار وأبي نواس؟ والأهم من ذلك هل كان الشعر الجاهلي بمنأى عن التعابث والمجون، فماذا بشأن خمريات الأعشى هل تخرج عن المجون؟ وهل نستطيع أن نعد شعر الأعشى ومجاهرته بشرب الخمرة وفتونه بها إلى الدرجة التي صرفته عن الدخول في الإسلام أقل من ظاهرة فنية؟
ما معنى الربط بين المجون وتحول السلطة من الأمويين إلى العباسيين إذن؟
والثاني يتصل بالحكم النقدي المعزول عن الموضوعية، فهل كان كلّ شعراء المجون من الموالي؟ ألم يكن أبو دلامة زند بن الجون والحسين بن الضحاك الخليع وغيرهما على رأس شعراء المجون في العصر العباسي؟
لقد تسنى للدكتور هدارة أن يقول: "إنّ المجون لم يكن دعوة ساذجة بريئة تدعو إلى الترف والتظرف الاجتماعي فحسب، وإنما هو نتيجة مؤثرات عميقة اجتماعية وفكرية ودينية"([4]).
من أجل ذلك جعل الشعوبية من دوافع المجون عند الشعراء الموالي على اعتبار الشعوبية كما قال: "كانت تهدف إلى تحطيم معنويات المسلمين ودس الأكاذيب والمفتريات في أصول دينهم حتى ينتقموا لأصولهم الفارسية"([5])، فلما وصل في بحثه إلى ذكر بعض الشعراء العرب قال: "هنالك من شعراء المجون من لا صلة لهم بالشعوبية والذي دعاهم إلى ذلك عوامل اجتماعية وثقافية"([6])، وهذه نتيجة محيرة تثير جملةً من التساؤلات أبرزها: كيف تجتمع أهداف الشعوبية التي تحضّ الشعراء الأعاجم على إشاعة الفساد والتحلل والإباحية لتخريب بنية المجتمع العربي من الداخل تمهيداً للقضاء على وحدته وتسريع انهياره، مع الأسباب الاجتماعية والثقافية النابعة من صميم المجتمع العربي والتي تدفع هي الأخرى الشعراء العرب إلى الفساد والتحلل والإباحية، ثم ما مؤدى ذلك؟ هل البنى الاجتماعية والثقافية في المجتمع العربي العباسي أسهمت هي الأخرى في مجون شعرائها لتهدم نفسها بنفسها أيضاً، أقول كيف اجتمعت أهداف الشعوبية مع العوامل الثقافية والاجتماعية في نشوء ظاهرة المجون إذا كانت بالفعل ذات أغراض سياسية؟
إنّ المجون عند هدارة مقدمةٌ وفاتحة وتمهيدٌ للزندقة، فإذا كان المجون قد انحصر بالتعبير عما يجانب الخلق القويم والدعوة إلى الإباحية، فإن الزندقة عنده تلامس الشعور الديني والعقيدة، فكلّ معنىً تردد في شعر العباسيين الذين ظهروا في القرن الثاني يشكك في سلامة العقيدة هو داخل في الزندقة والإلحاد، وعلى هذا الأساس عدّ الزندقة كالمجون محصورة في شعراء القرن الهجري الثاني، وهذا اعتبار خاطئ أيضاً لأنّ الزندقة المرادفة للإلحاد لا تتصل بزمن دون زمن، ولو أردنا تبيان ذلك لضاق المقام بنا.
لسنا في الواقع ننكر أثر الشعوبية في بث الفرقة بين طبقات المجتمع، ولسنا بصدد نفي تهمة الشعوبية عن الشعراء الموالي، فهذا أمر يثبته التاريخ، غير أننا ننكر بشدة أن تكون هناك أسبابٌ ودوافعُ واحدة لتعابث الشعراء ومجونهم، ومن ثمّ فإنّ إقرار نتائج عامة في هذا الموضوع يضر بالشعر موضوع الدراسة الأدبية، لأنّ ذلك في اعتقادي يدخل في باب دراسة تاريخ الأفكار ولا يدخل في دراسة الشعر لأنّ الشعر ينبغي أن ُدرس لذاته، غير تابع للتاريخ ولا الأفكار ولا العقائد، وعليه فإننا نريد دراسة ظاهرة المجون في شعر بشار في إطارها الخاص وأسبابها الشخصية المتصلة بالشاعر، ومن ثم تبيان أبعادها في شعره، والتساؤل بعد ذلك عن قيمتها الفنية والمكانة التي تشغلها في تاريخ بشار الشعري، في محاولة لفهم شخصيته وتقدير الفنّ الذي جاء به، مصورين مشكلة البحث بالتساؤل الآتي: إذا كان بشار بن برد ماجناً زنديقاً، وهو في مجونه وزندقته مدفوع إلى "تحطيم معنويات المسلمين ودس الأكاذيب في دينهم حتى ينتقم لأصوله الفارسية" ([7]) كما قال هدارة على اعتباره شاعراً شعوبياً ومولى، فكيف تقبّلَه القارئُ المسلم، وكيف تسنم المكانة السامقة في سماء الشعر العربي، ولماذا قدمه النقاد العرب المسلمون على سائر شعراء عصره، ولماذا لا يزال الدرس الأدبي يحفل به وبشعره كل هذا الاحتفال؟ وبمعنى آخر: ما أثر مجون بشار مع قبح ما يعنيه المجون في تقييم شخصيته وشعره؟ وهل كان الناس في العصور المنصرمة قد وضعوا مجونه جانباً حين حكموا على جودة شعره؟ أم أن الأحكام القاسية التي أطلقها النقد الحديث على بشار ومجونه فيها من العسف والظلم ما لم يره المتقدمون؟
أما المنهج الذي نريد من خلاله النظر إلى مجون بشار فقائم على عرض الأخبار التي ساقها الأدباء وعلى رأسهم الأصفهاني، المتصلة بمجونه وتحليلها ومناقشتها ومقابلتها بأشعاره المشهورة في هذا الباب. ومن ثم عرض آراء بعض المحدثين في مجون بشار وتحليلها ومحاورتها بغية الوصول إلى فهم واضح لدوافع وأبعاد قضية المجون في شعر بشار، وقد استقامت لنا خطة هذا البحث فجعلناه في ثلاث نقاط أساسية:
ـ ظواهر مجون بشار.
ـ دوافع مجونه النفسية والاجتماعية والفكرية.
ـ أبعاد المجون وأثره في تقييم شخصيته وشعره.
1. مجون بشار:
لقد علقت شبهةُ المجون والزندقة بشخصية بشار من جراء سلوكه قبل كلّ شيء، فهو بطبيعته متبرم بالناس مفطور على استعدائهم، إذ شحذ لسنه منذ الصغر بهجائهم، حتى لكأن موضوع الهجاء كان وسيلة لإثبات وجوده، ثم كان موضوع الغزل مجالاً آخر لتثبيت تلك التهمة على اعتبار الغزل كان أداته للتعبير عن اللذة والمتعة التي كان يميل إليها بطبيعته، فكان مجونه متردداً بين هجائه وغزله على نحو خاص حتّى قال يونس النحوي على نحو ما روى ابن سلام: "العجيب من الأزد يدعون هذا العبد ينسب بنسائهم ويهجو رجالهم يعني بشاراً"([8]).
هجاء بشار وشبهة المجون:
كان بشار ـ على نحو ما يذكر الأصفهاني ـ قد قال الشعر ولما يبلغ عشر سنين، فكأن أول عهده بالشعر يهجو الناس، "فإذا هجا قوماً جاؤوا إلى أبيه فشكوه فيضربه ضرباً شديداً، فكانت أمه تقول: كم تضرب هذا الصبي الضرير، أما ترحمه؟ فيقول: بلى والله إني لأرحمه، ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلي، فسمعه بشار فطمع فيه فقال: يا أبت إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر، وإني إن ألممت عليه أغنيتك وسائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم أليس الله يقول: )ليس على الأعمى حَرَجٌ( فلما أعادوا شكواه قال لهم بُرد ما قاله بشار فانصرفوا وهم يقولون فقْه بُرد أغْيظ لنا من هجاء بشار"([9]).
وواضح أنّ بشاراً منذ صغره قد أدرك خطورة الهجاء، وأثره البالغ في الناس فشحذ لسانه بذمهم ليهابوه ويتجنبوا معرة لسانه، وفي الوقت نفسه جعل من الهجاء وسيلة للتكسب فروي عنه أنّه قال: دخلت على الهيثم بن معاوية وهو أمير البصرة فأنشدته:
إنّ السلام أيّها الأمير عليك والرحمة والسرور
فسمعته يقول: إن هذا الأعمى لا يدعنا أو يأخذ من دراهمنا شيئاً، فطمعت فيه فما برحت حتى انصرفت بجائزته"([10]). ولذلك كان الموسرون بالبصرة يسترضونه تجنباً لهجائه، وهو بطبعه لم يكن يحسن مصانعة الناس، ومن ثم لم يكن بارزاً في المدح كبروزه في الذم، وقوله في الخبر الآنف لأبيه: "أغنيك وسائر أهلي" عظيم الدلالة على ميله الشديد إلى الهجاء، وتكريسه هذا الموضوع للنيل من الخصوم ومن ثم حصوله غصباً على جوائزهم.
كل الهجاء سلاحاً ذا حدين، فهو من جهة أسلوب ناجع في رد ع الخصوم والنيل منهم انتقاماً وتشفياً، وبالفعل كان الناس في مختلف طبقاتهم ومراكزهم يخافون لسانه، لأنه فاحش القول وشعره سائر بين الناس، يتناقله المغنون وتنشده الجواري وتنوح به النائحات، كما كانت مجالس العلماء تحفل بأشعاره أشد ما يكون الاحتفال، إذ الأصمعي وهو من النقاد المتشددين كان يرى أن بشاراً خاتمة الشعراء، ولولا أنه متأخر عن زمن الفحول لكان قدّمه على كثير منهم، وهو من جهة أخرى السبب الذي أحدث جفوة بينه وبين الناس، بل كان هجاؤه باباً للقدح في عقيدته، وإبراز مجونه وزندقته، وليس ذلك فحسب بل كان الهجاء سبباً في مقتله كما سنرى.
إذن بشار من محترفي الهجاء، تصيد فيه سقطات الخصوم، وأمعن في تصوير مباذلهم، وقد تمرس في هذا الباب كما تروي الأخبار، إذ حمل في نفسه صور النقائض التي كانت تدور بين أعلام الشعر الأموي، ولهذا اختلف إلى المربد وعاين جولات الخصوم في التهاجي، وقد أحب أن يشارك في ذلك، فقال: "هجوت جريراً لم يجبني ولو أجابني لكنت اشعر الناس"([11]) إذ أراد أن يمتحن قدرته البيانية في الهجاء فكانت نفسه تنازعه إلى مقارعة جرير وغيره من كبار الشعراء.
وما إن تمكن من هذه الأداة الجارحة حتى انخرط في مهاجاة أعلام عصره، وكبار الشخصيات إذ نراه يتعرض للمفكرين والزهاد والنقاد والنحاة والشعراء، فكان هجاؤه لواصل بن عطاء قد أضفى على شخصه رنيناً هائلاً، وبالمقابل أشعر خصمه بإهانة بالغة، والخلاف بين الرجلين غامض إذ لم تفصل المصادر فيه، وكل ما هناك أن بشاراً كان في بادئ أمره من أصحاب الكلام، وكذلك كان واصل بن عطاء، فلما صار واصل إلى الاعتزال وصار بشار كمما يقول الأصفهاني إلى الرجعة، حدث اختلاف بين الرجلين من حيث المذهب الفكري، فانقلبت العلاقة بينهما من علاقة ود وإعجاب، إذ سجل الأصفهاني شعراً يمدح فيه بشار واصلاً ويشيد بخطبه وبلاغته، إلى علاقة عداء وخصومة، فهجاه هجاء موجعاً في قوله:
مالي أشايع غزّالاً لـه عنق كنِقْنِقِ الدَّوِّ إن ولّى وإن مثَلا
عُنقَ الزرافةِ ما بالي وبالُكمُ أتكفرون رجالاً أكفروا رجلا؟
فما كان من واصل إلا أن حرّض الناس عليه متهماً إياه بالزندقة والفجور، فكان يقول في مجالسه: "أما لهذا الأعمى الملحد المكنيّ بأبي مُعاذ من يقتله، أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسَسْت له من يبعج بطنه في جوف داره"([12]).
وواضح أنّ الخصومة بين الرجلين حملت واصل بن عطاء على اتهام بشار بالزندقة، وكانا قبل ذلك على ود ومحبة، والسؤال هنا: هل كان بشار قبل مخالفته واصل بن عطاء ملتزماً بالمبادئ داعياً إلى المثل متقيداً بالأعراف، وهل كان تحوله إلى المجون بعد ما دب الخلاف بينه وبين واصل؟ في الحقيقة أنّ مجون بشار مرتبط بمحاولاته الأولى في النظم بدليل أنّه كان يهجو الناس منذ صغره ويتعرض لأنسابهم ويقدح في أعراضهم، غير أنّ واصلاً فيما يبدو لم يثره كل ذلك في بداية الأمر لأنّه كان على وفاق مع بشار، ولما اختلفا أخذ يبين عَواره ويتتبع سقطاته في أشعاره الماجنة ويدعو الناس إلى قتله والتخلص منه كما يبين الخبر الآنف.



* باحث من سورية.
([2]) اتجاهات الشعر في القرن الهجري الثاني، محمد مصطفى هدارة، ص:203.
([3]) حديث الأربعاء، طه حسين، 2/81، وتاريخ الإلحاد، عبد الرحمن بدوي.
([4]) اتجاهات الشعر، محمد مصطفى هدارة، ص230.
([5]) المرجع نفسه ص215.
([6]) المرجع السابق.
([7]) المرجع السابق، ص218.
([8]) الأغاني للأصفهاني: 3/149.
([9]) الأغاني للأصفهاني: 3/146.
([10]) المرجع نفسه.
([11]) نفسه 3/162.
([12]) نفسه.