http://www.alkhaleej.ae/supplements/...e-50b2f5bfaffe
(د . عمر عبدالعزيز)
( الذي أعرفه أن الخوارزميات منسوبة للخوارزمي وليس لجابر بن حيان كما ذكر الكاتب ).
للوقوف على هذا العنوان المُلتبس لابأس من التأصيل المفاهيمي لبعض الكلمات الواردة في العنوان، حتى نتبيّن علاقة الموضوع بالخط العربي، وسنرى أن الخوارزميات المُجيّرة على العالم العربي جابر بن حيان تتعلق بالتآلفات النبيلة بين الرقوم الرياضية التي تقدم تراتباً موسيقياً منطقياً برهانياً في أساس التنوُّع، وبالتالي كانت تلك الخوارزميات التي ابدعها الرياضي جابر بن حيان المنطلق التاريخي لما سمي لاحقاً باللوغارتمات، فالمصفوفات .
الأصل في الموضوع يكمن في ما يمكن تسميته قراءة المتفارقات الظاهرة في جوهر التكامل والوحدة، وهذا أمر يطال العربية مثل كل اللغات الإنسانية، فاللغة العربية تنطلق أساساً من الصوت المُترجم إلى حرف مكتوب يُمثّل الوحدة الأساسية في الكتابة، وهذا الحرف هو كما ذكرنا حالة تمثُّل شكلي بصري لصوت منطوق أو مسموع، فثنائية الاستماع النطق تمثل الجذر الأول لكتابة الحرف، ويتمثّل الحرف هذه الثنائية الصادرة عن الإنسان بوصفها موسيقا جبرية تتعلق بتراتب الحركة والسكون، ولهذا السبب فإن كامل التبادلات والتوافقات الصوتية الناجمة عن النطق تنساب في الطبيعة كما لو أنها خوارزميات رياضية، بل هي كذلك أصلاً، ومن هذا المنطق نستطيع التماس موسيقا الحرف في أساس الوجود .
وبالمقابل تبدو الصورة المكتوبة المقابلة للصوت المنطوق او المسموع حالة مُحايثةٍ ومجاورةٍ مؤكدة لذلك الصوت، لكن الصورة المكتوبة الرسم لاتُعبر دوماً عن كامل الصوتيات المُتاحة، مما سنأتي عليه لاحقاً .
من المحكي إلى المكتوب
الأصل في تاريخ التدوين نابع من النص الشفاهي، بل إن اللغة المكتوبة ليست إلا ترجماناً مؤكداً لتلك الأصوات الصادرة عن البشر والتي خاضت معترك التطور البيولوجي والتاريخي لكي تتحول تباعاً إلى لغات متعددة كما نرى الآن في كل العالم .
الكتابة بهذا المعنى ترجمة مؤكدة لتلك الدلالات الصوتية المقرونة بدلالات قاموسية، حتى أن الحرف المكتوب بوصفه تشكيلاً ليس إلا صوتاً تواضع متابعوه على أن ياخذ شكلاً محدداً، وفي علوم الألسنيات الحديثة الكثير من المعارف المتعلقة بالعلاقة بين اللغة والصوت، وقد توافق علماء الألسنيات على أن اللغة المكتوبة عبارة عن خوارزميات تشكيلية تستقي أبعادها الكتابية من الصوت المنطوق، وبهذا المعنى يحدث نوع من التراسل المنطقي الشكلي بين اللغة بوصفها صوتاً، واللغة بوصفها كتابة .
من هذا المنطلق الأساسي يمكننا الإقرار بأن النص الشفاهي سابق على النص المكتوب، والدليل القاطع المانع والماثل إلى يومنا هذا سنلاحظه في تلك اللغات التي مازالت شفاهية ولا تُكتب كما هو الحال بالنسبة لعديد اللغات واللهجات الأفريكانية والآسيوية . وهذه دلالة واضحة على أسبقية المُشافهة على الكتابة .
على المستوى التاريخي كانت الآداب الشفاهية تُمثل حالة مركزية في انتقال المعارف من فرد إلى آخر، وفي تاريخنا الخاص سنجد أن فقه التدوين الكتابي للمعارف كان مقروناً بالتلقي الشفاهي للمعرفة، وقد تكرّس هذا التقليد من خلال المدارس والجامعات التي مازالت تحرص إلى يومنا هذا على أن يكون الاستاذ المدرس وسيلة أساسية في نقل المعرفة .
في الآداب السردية التاريخية سنجد أن الحكي شكّل نقطة مركزية في تلك الآداب، وكلنا يعرف حكايات الجدات التي كانت تمثل قيمة ثقافية وتربوية أسهمت إلى حد كبير في تنمية الخيال والإدراك، ومعرفة أحوال الوجود وأساطير التاريخ .
بهذا المعنى يتحول الحرف المكتوب إلى تتويج نهائي لما سبقه، ولهذا يتميز بالكمال والدقة، والدليل على ذلك أن علماء اللغة الذي أصّلوا قواعد النحو والصرف اعتمدوا على الحرف المكتوب بوصفه القيمة المطلقة لما سبق .
الاتصال غير اللفظي
في المسرح الإغريقي التاريخي كانت حالة التمازج بين المنطوق والمرئي تكثف الاتصالات غير اللفظية الواقفة في حد الترجمة المؤكدة للأصوات، تماماً كما هو الحال في الكتابة .
وفي التراث العربي مسرح الحكواتي الذي يعتمد على شكل من أشكال المونودراما الشفاهية التي يتمتّع بها الحاكي القارئ، ولعل هذا النوع من الفن الحكواتي خير شاهد على مركزية وأهمية الأداء الصوتي الشفاهي في نقل الحكاية، وما يحيط بها من عوالم وتعبيرات .
على المستوى العربي العام سنجد الثقافة الشفاهية ذاتها متعددة الأنساق والأشكال، وأذكر منها مثالاً لا حصراً ما يلي:
* التعليم القرآني الأول في الكتاتيب والذي كان يعتمد على الحفظ والتلقين، ويعتبر الحفظ من دون فهم عتبة انطلاق سابقة لفهم محتوى المادة المحفوظة، سواء كانت قرآناً كريماً أو شعراً .
* أصوات العمال المياومين المترافقة مع جهد العمل الشاق، وخاصة في الحقول الزراعية، وأثناء التشييد والبناء والاصطياد البحري، والتي كانت تحمل في طيّاتها الأنين والشجن، مما يمكن تتبع تدوينه الأساسي من خلال التسجيلات الصوتية المشهودة في بعض الاستعادات لتلك الأنساق الصوتية الغنائية الحزينة .
* حكايات الجدات التي أسهمت في نقل معارف الوجود والطبيعة والتاريخ، وكرّست لدى الطفولة خيالاً خصباً .
* الفنون البصرية المستندة إلى الحروفية العربية والقادمة أصلاً من الآيات القرآنية والنصوص الشعرية التي تكرّست في الذاكرة الصوتية، قبل إن تتحول إلى فنون بصرية .
هنا نلحظ سخاء الحضور الأفقي والرأسي للحرف حتى أن الفنون والآداب والعلوم المختلفة لاغنى لها عن استخدامه كوسيط حامل للمعنى، ومرتبط بالجمال الفني .
معنى الحرف
الحرف المكتوب تُرجمان لصوت صدر من الإنسان، وهذا الصوت ينطلق من لسان الفرد المتفاعل أصلاً مع كل جسمه، وقد أحسن الحكيم الجاهلي زهير ابن أبي سلمى وصف مقام اللسان قائلاً:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وبهذا اختصر زهير الطريق وكرس بعداً مفاهيمياً دالاً عندما اختزل الفرد بلسانه وقلبه، فكأن اللسان ترجمان للقلب، والقلب مع اللسان يمثلان الجوهر، وما عداهما شكل صرف فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، وورد في الأثر أن المرء بأصغريه قلبه ولسانه .
يصدر الألف من جوف الفؤاد كما يقول أسلافنا، والباء يصدر عن ارتطام بين الشفتين، وهكذا سنجد أن كل حرف صادر عن الإنسان له علاقة بجوانياته وتشريح جسمه . . يتساوى في الأمر كل البشرية، والشاهد أن طفولة البشرية الأولى تُرينا هذه المعاني .
سنعلم يقيناً أن طاقة الحرف مُجيّرة أساساً على تلك المنحة الإلهية التي تقرن الحرف بأصله، وإذا تتبعنا مسار الحرف وخلعناه إجرائياً من مصدره الأول سنرى أن هذا الحرف يحمل في دواخله قيماً صوتية وهندسية ورياضية خوارزمية، والدليل أن الحرف المكتوب لا يخرج من القياس والتآلف النبيل مع مصدره الأول، ولهذا يُكتب الألف بوصفه محلاً هندسياً لنقطة تحركت في بياض الصفحة، تماماً كالصوت الممتد الصادر من جوف الفؤاد، وسنرى أن متتالية الألف تكمن في بقية الحروف، فالباء بحسب رسالة العدد في إخوان الصفا وخلان الوفا ليس إلا ألفاً تموضع على الأرض فيما اكتسى عمودين متناظرين من دون أن يفارق طول الألف، وهكذا يمكن البحث في هيئات الحروف العربية المختلفة استناداً إلى مقام الألف الذي يقوم بدور مفتاح صول الموسيقي .
هذه الطاقة الهندسية للحروف تستطرد على مقدماتها الصوتية، فالطاقة الصوتية للحرف الواحد يتدرج بتدرج النطق علواً وهبوطاً، وسنرى أن الكلمة يمكنها أن تكون وعداً أو وعيداً استناداً إلى نبرة الصوت وطريقة التعبير، غير أن العلو والهبوط يتداعى مع الجملة الكاملة والكلام المُرسل مما يمكن تشبيهه بالقوالب المُدوْزنة المحكومة بخوارزميات موسيقية أكيدة، والشاهد أن الكلام المنطوق يمر عبر نفق صوتي تتناوب فيه السواكن مع المتحركات وبطريقة رياضية جبرية، ولهذا السبب اكتشف الخليل بن احمد الفراهيدي الجوهر الموسيقي في الشعر من خلال تناوب الحركة والسكون المُجيّرة على التفعيلات، وما كان للخليل أن يكتشف هذه الحقيقة من دون استخدام الموسيقا المجردة مما هو مسطور في كتب التاريخ .
الحرف والفراغ
الخط العربي يتصل بالفراغ بداهةً، لأنه يتموْضع أساساً على بياض الفراغ للصفحة التي سيُكتب عليها، كما أن فراغ الحرف يتصل بتموجاته الداخلية الملحوظة في أساس كتابته الجيم مثلاً يستقيم على فراغ نصف الدائرة، ولك ان تتقرّى بقية الحروف . لكن الأكثر أهمية في علم جمال الخط ما نراه ماثلاً في جُملة الأنماط الكتابية الحروفية ذات الطابع الفني، والتي تستأنس ثنائية الفراغ الاحتشاد .
يقولون إن الفراغ هو المعادل السحري للمادة القابلة للتشكُّل في أي حيز، وهذا شأن جوهري في كتابة الخط، وبالتالي كانت مادة الفراغ هي الأنبل والأكثر حيوية في خصائصها الفيزيائية وتأثيراتها النفسية .
موسيقا الخط
يمكننا أن نقف عند الموسيقا بوصفها لغة اللغات المتمازجة، فالموسيقا ليست مجرد نغمة مسبوكة، أو أصوات تلقائية للرياح والأمواج، أو تنغيمات تصدر من فم الإنسان والآلات، بل إنها المعادل السحري الشامل لكل أشكال الوجود التي تستقيم على موسيقاها الخاصة بما في ذلك الخط .
الموسيقا بالمعنى الواسع للكلمة تتمظهر في أشكال التعبير المختلفة، لأنها نابعة من ميزان الكون ونواميسه، فاللوحة الحروفية لا تستقيم على التوازن إلا بتوفر الغنائية البصرية، والخط المكتوب لا يكون جميلاً إلا إذا أخذ بأسباب الغنائية والرشاقة الأسلوبية متباعداً عن التخشب والفجاجة، والسرد الروائي لا ينساب بأبعاده الشكلية والدلالية إلا إذا انسكب في قوالب فنية وتعبيرية مؤثرة، والعمل السينمائي لا يصل إلى العقل والذائقة أن لم يكن محكوما بميزان دقيق .
كان أسلافنا من علماء الماضي يقرنون بين الرياضيات والموسيقا، كما يعتبرون علوم القراءات القرآنية والمفاهيم المرتبطة بالحكمة الفلسفة ناقصة إذا خلت من الموسيقا .
وفي كتب الأولين مئات الشواهد على استخدام الحروف والأرقام في تدوين الموسيقا، وكان رموز عصر النهضة الأوروبي من مصوري القرنين الثالث والرابع عشر للميلاد يتمتعون بذائقة موسيقية، ودربة ممارسية ساعدتهم على استنطاق جماليات الجسم البشري والطبيعة، وكان من لوازم التشكيل المعرفة الدقيقة للموسيقا والكيمياء والرياضيات .
الخط العربي
النقطة أصل الخط العربي وكل خط، وليس الألف إلا محلاً هندسياً لنقطة تحركت، والباء هو ذات الألف من حيث نسبة الطول مع اختلاف في الهيئة، وهكذا يمكن إعادة كل عناصر الحروف العربية إلى مركزها النقطة . لكن الحروف العربية يمكن التعبير عنها بالأرقام، فالألف واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، والدال أربعة . . وهكذا .
هذا التبادل بين الحروف والأرقام، والنبع الأول لأصل الكتابة حرفاً أو رقماً، والميزان المشترك بين الهيئات الكتابية التشكيل يدلل على تضافر المرئي/ اللامرئي، فالحرف العربي ليس صناعة بشرية، بل إنه استجلاء لقيم كُلّية جاءت من الحق، وعند الحق سر أسرار الحرف وأبعاده .
وحتى لا نطيل في الحديث عن هذا الموضوع نختصر القول بأن الحروف العربية تشكل بمجموعها قيماً تشكيلية دونها المرونة الفائقة في التمدد والقصر . . في الاعتلاء والإمالة، في التشابكات البصرية الموصولة بابتكارات لا حدود لها، في حركة النقطة التي تعاضد التشكّلات البصرية . هذا أمر لا يكاد يتوافر في أي حروف أخرى، كما أن الحروفية العربية تقترن بالنص سواء القرآني منه أو المأثور والمشهور .
طاقة الحرف
للحرف طاقة هندسية وصوتية ورياضية ووجودية، وكل هذه الطاقات يمكنها أن تدل على مسارات الشعرية الشاملة في الكلام، فالطاقة الهندسية للحرف نابعة من التوازن البنائي المحكوم بضوابط وثوابت، فالألف معادل للمسافة الإجرائية لبقية حروف العربية، حيث إن الباء الذي يلي الألف يستقيم على نفس المقاس الطولي وإن اختلف شكله، وهكذا سنجد أن مثابة الأطوال المختلفة للحروف المختلفة في تشابه جبري لا مفر منه، والاستثناء هذا يتعلق بالتضعيف مثل كتابة الجيم والحاء والخاء الذي تتضاعف فيه المسافة الإجرائية القياسية للألف والباء والتاء مما يمكن رصده في علوم الخط العربي . ذات المعايير مرصودة في أساس وتضاعيف بقية الحروف المكتوبة للبشرية الكبيرة، وسنرى أن الصوت تُرجمان مؤكد لهذه الحقيقة، فالألف يمتد في الأثير لأنه يصدر عن صوت واحد غير منقطع، والباء يتوقف منقطعاً لأنه محكوم بتطابق الشفتين مما نراه تشكيلاً في نقطة الباء الضابطة لهذا التوقف، بل القائمة في معادلة الصمت، مما سنأتي عليه لاحقاً .
الطاقة الصوتية للحرف امتداد وانقطاع يتناوبان ولا يكلان أو يملان تناوباً وتقاطعاً وتوالياً، والطاقة الصوتية ليس معطىً واحداً بل مُتعدد، فلكل صوت أبعاد ومقامات ودرجات، ولكل تناوب في الأصوات أبعاد ومقامات ودرجات مما يمكن ملاحظته في السلالم الموسيقية المعروفة، فالسلم الموسيقي ما تسمّى بهذا الاسم إلا لأنه يعكس تدرجات في سُباعية الأصوات المكتوبة أوروبياً على هذا النحو: دو/ ري/ مي/ فا/ صو/ لا/ سي، لكن هذه المتوالية لا متناهية لأن كل مفردة صوتية لها تدرجاتها اللامتناهية رفعاً أو خفضاً . . مداً أو انحساراً، مما يغنينا عن الشرح .
معادلتي البناء الهندسي والصوتي المتعاضدان المتآلفان المتواشجان المُحايثان لبعضهما بعضاً هما بمثابتي خوارزميات رياضية، وتلك طاقة أخرى للحرف . والأصل في مفهوم الخوارزميات الرياضية أنها تبادلات وتوافقات رياضية محكومة بأصل الحروف التي يمكن التعبير عنها بالأرقام، فالألف واحد، والباء اثنين، والجيم ثلاثة، وهكذا .
* جزء من ورقة مقدّمة إلى الندوات الفكرية في مهرجان الشارقة للخط العربي
المفضلات