بسم الله الرحمن الرحيم
الفرق بين الوزن والإيقاع
د. ضياء الدين الجماس
مدخل
ازداد استعمال كلمة الإيقاع لدى الأدباء في الفترة الأخيرة ، دون تعريف واضح محدد مقنع ، لأن العرب لم يستعملوا هذا المصطلح في الأدب عند المتقدمين ، سوى ما ورد عن الخليل الفراهيدي ( كتاب الإيقاع) الذي قيل أنه يبحث في الموسيقى والنغم ولكنني لم أعثر عليه، ، ونقل ابن سيده عن الخليل في كتاب العين أن (الإيقاع حركات متساوية الأدوار لها عودات متوالية)، وقد كثر استعمال كلمة الوزن في مجال العروض والشعر، بينما أصبحت كلمة الإيقاع تستعمل الآن في شتى مجالات الحياة بكل ألوانها الحيوية والاقتصادية والفنية...
فما الفرق بين الوزن والإيقاع؟
الإيقاع في المعنى اللغوي من وَقَعَ يَقَعُ وَقْعاً ووُقُوعاً: سقَطَ، ووَقَعَ الشيءُ من يدي كذلك، ويقال وَقَعَ المطرُ بالأَرض، ولا يقال سَقَطَ؛ هذا قول أَهل اللغة، ويقال: وقَع الشيءُ مَوْقِعَه، والعرب تقول: وقَعَ رَبِيعٌ بالأرض يَقَعُ وُقُوعاً لأَوّلِ مطر يقع في الخَرِيفِ. قال الجوهري: ولا يقال سَقَطَ.ويقال: سمعت وَقْعَ المطرِ وهو شدّةُ ضَرْبِه الأَرضَ إِذا وَبَلَ. ولعل من ذلك يقولون للمطر إيقاع، وكذلك لوقع حوافر الخيل إيقاع ( مشياً أو ركضاً).
والإيقاعُ: من إِيقاعِ اللحْنِ والغِناءِ وهو أَن يوقع الأَلحانَ ويبنيها، وسمى الخليل، رحمه الله، كتاباً من كتبه في ذلك المعنى كتاب الإِيقاعِ
وفي المعاجم الإنكليزية Rhytm من اللاتينية Rhythmos وتعني أي حركة موقوتة بانتظام. وفي معجم استدمان الطبي أورد أربعة معان لهذا المصطلح : 1- الحوادث المتكررة بانتظام مع الزمن ولو كانت متعاكسة . 2- إيقاع المنهج أو طريقة الإيقاع rhytm method و 3- الإيقاع المنتظم لارتسام الأمواج الكهربائية الدماغية 4- ضربات القلب المنتظمة...
من ذلك كله وبالرجوع لما طرحه النقاد من معاني الإيقاع يمكن القول:
يشمل الإيقاع عدة معان:
1- الإيقاع كل حدث (أو مجموعة أحداث مترابطة) يتكرر أو يقع بفواصل زمنية موقوتة (منتظمة أو غير منتظمة) ، يمكن أن تؤثر في إدراك متلقيها حسب درجة إدراكه لها.
وبهذا يحتاج الإيقاع لاستكمال عناصره إلى مكونات أساسية هي وقوع الحدث ، وتكراره ، وعلاقته بالزمن ، ووسيلة التلقي (حاسة تلتقطه) وإدراك المتلقي لما استقبلته حواسه.
وبناء على هذا وبحسب الحواس قد يكون الإيقاع صوتياً أو بصرياً أو لـمسياً أو ذوقياً أو شمياً، وكلما كانت الأحداث حقيقية ويقع تأثيرها بأزمنة منتظمة كان تأثيرها أقوى. ويتجلى هذا الإيقاع في الكون بتناوب الليل والنهار وتناوب الفصول الأربعة. ودوران القمر حول الأرض ودوران الأرض حول الشمس ... وعلى هذا يكون لكل ذرة في الكون إيقاعها الخاص.
ومن الإيقاع البصري التجربي تعريض العين لضوء ومَّاض منتظم نجده يحرض نوبة صرعية عند من لديه استعداد عصبي صرعي ، ومن الإيقاعات الحركية المنتظمة في الجسم ضربات القلب وحركات التنفس ، وبحساب الأحداث بالنسبة للزمن يمكن تعيين الإيقاع المنتظم من غير المنتظم لها كما يحدث في تخطيط القلب الكهربائي فيكشف انتظام الضربات من اختلالها.
ومن الأمثلة التاريخية تناوب ظهور الفساد والصلاح فكلما بلغ الفساد حداً معيناً أرسل الله تعالى من يصلحهم ويعيد ظهور الصلاح...
2- قد يكون الإيقاع مزيجاً مركباً يضم أكثر من مكون إيقاعي بحسب الحواس التي تدركه فقد يكون الحدث الواحد ذا تأثير إيقاعي سمعي وبصري في آن واحد ، فعندما يترافق صوت إنشاد بيت شعري بمشهد بصري معبر عن مضمونها يكون التأثير الإيقاعي سمعي بصري مشترك ويكون التأثير أقوي كلما كان هناك توافق بين الإيقاعين ...
3- يعتمد الإيقاع الكلامي على دقة التعبير عن الحقائق وترتيبها سواء بتكرار منتظم أو متفاوت بانتظام ، فمجرد الصدق في التعبير عن الحقائق مع تدفق العاطفة معه له إيقاع خاص فإذا رافقه انتظام تكرار مشاعر معينة تضاعف أثر إيقاعه ، ومن هذا الباب قد يكون لنص نثري إيقاع في النفس أشد من بيت شعري موزون بلا إيقاع معنوي شاعري ، وبذلك نلاحظ فرقاً بين الوزن والإيقاع ( انظر فقرة الوزن ) .
ويمكن تكوين أحداث إيقاعية صوتية أو حواسية أخرى أو معنوية ( تدعو لتكوين صورة معينة تتكرر في مواقع ثابتة ) في فقرتين من النثر أو أكثر. ومثاله في النثر السجع أو الترصيع الذي يعتمد على تساوي الألفاظ في البناء واتفاقها في الانتهاء ، وخاصة إذا كان نابعاً دون تكلف ،كأن تقول : سود فاحمة ذوائبها بيض ناصعة ترائبها محض صاف ضرائبها..
ما الوزن في الشعر ؟
الوزن هو انتظام تباعد الأوتاد الأصلية بالأسباب البينيَّة بهيئة معينة بمقدار كمي أعلى وأدنى من الحركات والسواكن (ولو اعتراها الزحاف الصحيح) في كل شطر حسب البحر فتعطيه هيئته وبنيته التي تميزه عن غيره من البحور. فالوزن محدد بالهيئة والكم في البيت الشعري. والوحدة الأساسية للوزن هو التفعيلة عند التفعيليِّين وانتظام الأوتاد الأصلية فيما بينها من أسباب سالمة أو مزاحفة أو خببية عند الرقمييِّن ، وعليها يضبط وزن الأشطر في كل بحر هيئة وكمّاً. فنقول أن وزن المتقارب فعولن 4 مرات في كل شطر أو تكرر الوتد والسبب 3 2 أربع مرات في كل شطر. وبهذا المعنى من الانتظام يتداخل مع معنى من معاني الإيقاع. ويكون لكل وزن إيقاع خاص ، لكن الوزن الشعري اللفظي سيكون ذا إيقاع صوتي فقط مالم يترافق بمضمون ذي إيقاع معنوي إدراكي . فمثلاً إذا قلت:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن = مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
فهذا وزن شعري بإيقاع صوتي بلا إيقاع إدراكي، أي هو وزن إيقاعي صوتي بلا إيقاع عاطفي شعوري ، فإذا استبدلنا التفعيلات بكلمات ذات معان مترابطة مؤثرة تصف حقائق معينة كان للبيت وزن وإيقاع شاعري إدراكي مؤثر بدرجة معينة تتناسب مع حقيقة المشاعر المنقولة.
مفهوم الكمِّ والهيئة:
يتحدد كل كيان ذي بنية مخصصة بهيئة وكم تحدد شخصيته. ويتجلى ذلك في المخلوقات الحية حيث تتحدد هيئتها بطريقة انتظام مكوناتها من رأس وجذع وأطراف، وتبرز الهيئة أو القوام بشكل واضح في المخلوقات ذات العمود الفقري. وأما الكم فيها فيتحدد بحجمها ووزنها.
ولا يختلف الكيان الشعري العربي العمودي المقفى عن هذا التمثيل وخاصة أنه شبّه ببيت الشعر (الخيمة) بما فيه من عمود فقري تقوم عليه الخيمة وما يؤلف كيانه من أوتاد وأسباب بعدد كمي محدد حسب نوع وحجم الخيمة.
فلكل بيت شعري عمودي عمود ينظم أشطره ولكل شطر منه عدد معين من الأوتاد والأسباب التي تنتظم فيما بينها بعدد معين لتحدد هيئته وهو ما يعرف بوزن البيت أو ميزانه.وتلعب الأوتاد بانتظامها مع الأسباب دور العمود الفقري في تحديد القوام (الهيئة) لكل بيت شعري كما هو الحال في المخلوقات الفقارية ، ولا أهمية للزحافات في إنقاص الكم قليلاً بحيث لا تغير من الهيئة العامة للمخلوق كما لو نقص وزن المخلوق بنحافته.
ويبرز أثر الهيئة في البحور الوتدية مهيمناً أكثر في تحديد هويتها على أثر الكم فيها ، بينما يبرز أثر الكم واضحاً في النظم الخببي لأنه لا أوتاد فيه تحدد قواماً معيناً (هيئة) له إلا في الخبب الوتدي البنية (المشتق من بحر وتدي).
وقد نظمت قصيدة عن الكم والهيئة على وزن خبب المتدارك ثنائي الانتماء
الكمُّ والهيئةُ
نُظِمَتْ قِصَصٌ وبها مَرَجُ = بمداخلها دخل الهَرجُ
وسَمتْ برتابتها حَدثاً = خبباً يتدراكه الحرج
بَحَرُ المتدارك هيئتها = وبه نظموا وبه ولجوا
حُجج وصلت لنهايتها= فبأيِّ بحاركَ يندرج ؟
أبهيئته وجزالته ؟ = أبكمِّ مَداه به الحجج؟
المفضلات