صامتان في قافية
يثير أخي سليمان أبو ستة من قضايا العروض ما يثري ويفيد .. فيحثنا على البحث والتنقيب والجري خلف أبحاثه الشائقة لاهثين. وها هو اليوم يثير مسألةَ (القافية التي يجتمع فيها صامتان)، متسائلاً عن شرعية ورودها.
وأعترف بدايةً بأن أبحاثي القافوية حول مثل هذه المسألة غير متعمقة، وإن لم تفتني بعض أمثلتها، على أوزان سوى (مجزوء الرمل المقصور الضرب) الذي أورده، ولعلّ في إثباتها ما يفيد:
فمن البند، يقول حسين العشاري/ على الهزج:
لَكَ النعمَةُ والحَمْدْ
وأنتَ الصّمَدُ الفَرْدْ
خَلَقْتَ الحرَّ والعبْدْ
فكم أبدعْتَ منْ أَمْرْ
وكمْ حيّرْتَ من فكْرْ
ومن البند أيضاً، يقول معتوق الموسوي/ على الهزج أيضاً:
وليلُ الشجَرِ المُقْمِرِ في نَورٍ وفي الرَّنْدْ
ولراشد حسين/ من مجزوء الوافر:
لأجلِكَ أنتَ يا فتحي == وصدّقْني لأجلِكَ أنْتْ
حَطَمْتُ القفلَ عن شفَتيَّ = عن قلبي ذبَحْتُ الصّمْتْ
ولمحمد عمر الطوانسي/ من الكامل:
إنْ كنتَ ترجو الفتْحْ
فالْجأْ لربِّ المَنْحْ
واستوْفِ منه الصّفْحْ
ولنزار قباني/ من الخبب:
يامَنْ صوّرْتَ ليَ الدنيا كقصيدةِ شعْرْ
وزَرعْتَ جراحَكَ في صدري وأخذْتَ الصبْرْ
إنْ كنتَ حبيبي ساعدني كي أرحَلَ عنْكْ
أو كنتَ طبيبيَ ساعدْني كيْ أُشفى منْكْ
ولمحمد الخليف/ من الخبب أيضاً:
يا نبضَ الشاعرِ في صوتي وغَدي والأمْسْ
يا خيطَ شعاعٍ قمَريٍّ يا وجْهَ الشمْسْ
سُلّي من نفْسي أوهامي وظنزنَ اليأْسْ
ويقول الموّال القديم/ وهو من وزن البسيط:
يادارُ أينَ ملوكُ الأرضِ أينَ الفُرْسْ
أين الذينَ حَمَوْها بالقَنا والترْسْ
قالت تراهمْ رِمَمْ تحت الأراضي الدرْسْ
سكوتْ بعد الفَصاحةْ ألسنتهمْ خرْسْ
وواضح أن فيما أوردناه من أمثلة (خلا الأخير) ليس فيه التزام حرفٍ قبل الروي، كالذي لمحه الأستاذ سليمان في شاهد الأخفش وأبيات العموري، وإن كنت معه في أن مثل ذلك الحرف ربّما شدّ من أزر القافية، وزاد في قوتها، بما يجعلها أكثر قبولاً.
ولي على هذه الشواهد ملمحٌ خاص لا علاقة له بعروض ولا قافية، وإنمّا بخاصية من خصائص العربية، التي لا تقبلُ الوقوف على صامتين، ويؤكد ذلك القراءة الصحيحة للقرآن الكريم، الذي يتفادى ذلك بتحريك الصامت الأول، كما في قوله تعالى: {{والفَجِرْ* وليالٍ عَشِرْ* والليلِ إذا يَسِرْ* هل في ذلك قسَمٌ لذي حِجِرْ}}، وقوله تعالى: {{والعَصِرْ* إنّ الإنسانَ لَفي خُسِرْ* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وتواصَوا بالحقِّ وتواصَوا بالصّبِرْ}} وتزداد مثل هذه الحركة ظهوراً على أحرف القلقلة كما هو واضح.
فكأنّ هذا النوع من الوقوف إنما كان بتأثير اللهجة العامية، التي يُظهرها شاهد (الموّال) المذكور. بل ربما كان الشاهد الفرد الذي أورده الأخفش، متأثّراً ببعض لهجات العربية التي كانت تقفُ على بعض القوافي بالنون، كالذي أورده الأخفش أيضاً:
أقِلّي اللّومَ عاذِلَ والعِتابَنْ = وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابَنْ
بدل: (العتابا) و(أصابا).
أما تعليل أخي سليمان بأن سبب الشعور بالثقل راجعٌ إلى وقوع المقطع المديد على الوتد المبتور، فأرى أن الرجزَ في ذلك ليس بدْعاً عن غيره من البحور، وقد وقعت مثل هذه القوافي في الكامل: (مفعولانْ أو مفعولْ)، والخفيف: (مفعولْ).
يقول ابن الحسين الصنعاني/ من الكامل:
نُبّئْتُ أنّكَ يا حسينُ هجَوتَني = فعَلامَ ذلك يا أبا عبد اللهْ
ومَشورَتي أنْ لا تُحرّكَ ساكناً = وإذا عزَمْتَ الأمْرَ فاسْتَخِرِ اللهْ
(متفاعلن متفاعلن متفاعلن = متفاعلن متفاعلن مفعولانْ)
وقريبٌ منه ما تمثّل به عبد الملك بن مروان:
اِعْملْ على مهَلٍ فإنّكَ ميِّتٌ = واكدَحْ لنفسِكَ أيّها الإنسانْ
فكأنَّ ما قد كانَ لمْ يكُ إذْ مضى = وكأنَّ ما هو كائنٌ قد كانْ
(متفاعلن متفاعلن متفاعلن = متفاعلن متفاعلن مفعولْ)
ولهذا أمثلة أخرى عديدة.
ومن الخفيف، قول حسين بن عبد الصمد الحارثي:
فاحَ نَشْرُ الصَّبا وصاحَ الدّيْكْ = وانثَنى البانُ يشتكي التحْريكْ
قمْ بنا نجتلي مُشعشَعةً = تاهَ منْ وجْدِهِ بِها النِّسّيْكْ
لو رآها المجوسُ عاكفةً = وحَّدوها وجانَبوا التّشْريْكْ
(فاعلاتن مستفعلن فعِلن = فاعلاتن مستفعلن مفعولْ)
ولابن الصباغ، من الخفيف أيضاً:
إنْ تكنْ باحِثاً عنِ الأسْرارْ
فانتَشِقْ صاحِ نفحَةَ الأسحارْ
وأَطِلْ في الأصائِلِ الأذْكارْ
فهْيَ أذكى من عاطِرِ الأزهارْ
(فاعلاتن مستفعلن مفعولْ)
ووقعت هذه القافية في المتقارب على: (فعولانْ)، و(فعولاتانْ)، كما وقعت في الهزج على (مفاعيلانْ)، وفي الرجز دون بتر الوتد علىمستفعلاتانْ) وفي الخفيف على (فاعلاتانْ).
ولأخي سليمان جزيل الشكر على ما قدح به ذاكرةً كادت تصدأ.
المفضلات