العنوان : البنية الإيقاعية وجماليتها في القرآن
الرابط : http://www.awu-dam.org/trath/99-100/...99-100-022.htm


تحتم علينا طبيعة وخصوصية هذه الدراسة في ميدان الإيقاع في القرآن باعتباره نصاً مقدساً، أن نشير أن القرآن العظيم في تجليه نراه ينحو منحى إعجازياً فهو ليس بالعمل الفني المقصود لذاته؛ إنه وسيلة لا غير، يسخرها الخطاب القرآني بغية تأدية الغرض الديني المنشود. ونحن إن رأينا الإيقاع قد تجسد في القرآن ماثلاً، فما ذلك إلا من باب الحميمية بين الغرض الديني والغرض الفني، فيجعل منه وسيلة للتأثير والتمكين قصد الاستجابة والإذعان؛ ذلك أن للإنسان جانباً وجدانياً، فلا مناص من مخاطبة هذا الجانب بلغة النظم الفني وجماله. وهو بهذا، آل إيقاعاً قرآنياً مميزاً إنه "تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في وصف حروفه وترتيب كلماته ترتيباً دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم"([16]).

إن المتأمل في لفظة (نظام) المتمثلة في رصف الحروف، وهي ترتيب الكلمات، توحي بلا ريب إلى المعطى الإيقاعي في الخطاب القرآني؛ ذلك أن تلك العناصر لا تنفك تأتلف إلا بوجود عنصر الإيقاع فيها.

إن الذي دفع بالاهتمام، وجعله يتزايد نحو مكونات المتن القرآني بصفة عامة، وإيقاعيته بصفة خاصة، هو خروج هذه الإيقاعية ـ التي أمدت القرآن العظيم مكانته الخالدة ـ عن منظومة أشعار العرب، وما ألفوه فيها. ولذلك فالإيقاع القرآني هو تلك الظاهرة المتمثلة في "اتساق القرآن وائتلاف حركاته وسكناته، ومداته وغناته، واتصالاته، وسكتاته، ذلك ما يسترعي الأسماع، ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم أو منثور"([17]).

ولا يوجد شك يكتنف المتفحص للمتن القرآني، في أن نظم القرآن يقوم جمال نسجه على الإيقاع، الأمر الذي جعل الجاحظ ينتبه إلى أهمية دراسة القرآن من حيث أسلوبه وعجيب نظمه. وفي هذا الشأن نلفي الدكتور محمد زغلول سلام في كتابه: (أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري) يقول: "قامت في آخر القرن الثالث وطوال القرن الرابع دراسة جامعة شاملة مستقلة لإعجاز القرآن، من ناحية نظمه، وعلى أساس الدرس البياني لأسلوب القرآن، وطرق تعبيره المختلفة، وكانت أصول هذه الدراسات قد نجمت من قبل في دراسات القرآن وسبقت الإشارة إليها من مثل كتاب "نظم القرآن" "للجاحظ"([18]).

البنية الإيقاعية في القرآن:

من خلال ما مر بنا، نجد أنفسنا مطمئنين إلى وجود إيقاعية جمالية اختص بها الخطاب القرآني، بيد أن تلك الإيقاعية لم نجدها على وتيرة واحدة؛ بل المتأمل فيها يلفيها مجسدة على ضرب من تشكيلات متنوعة ولدتها طبيعة النص القرآني في جماليته الإعجازية؛ ذلك أن الخطاب القرآني قد ابتنى في كليته بنية إيقاعية متفردة، ما فتئ أن طبع بها، فميزته عن غيرها من البنى، وهو ما نلفيه واضحاً بشكل جلي في الخطاب القرآني المكي على وجه الخصوص، فهو إذن "يتشكل تحت أشكال إيقاعية متنوعة، غنية، متجددة، متفاوتة النفس، متمايزة النغم"([19])؛ بل إننا نجد كلما اختلفت ضروب الإيقاع في القرآن، فإن الأمر يترتب عليه اختلاف في البنية نفسها. وقد تجسد ذلك جلياً في السور القصار حيث يأتي إيقاعها قصيراً مزدحماً في فواصله، وذلك في مثل سور كثيرة، كسورة "المدثر". وهذا خلاف بعض السور الطوال، حيث تلجأ الفواصل إلى التباعد. وهذا الضرب في الإيقاع نجده مجسداً في الكثير من السور كسورة "الفرقان" والأمر في الخطاب القرآني من حيث الإيقاع، لم تتجسد بنيته في تشكلاته الإيقاعية المتنوعة فقط، والتي أتيناها بعجالة؛ بل نجده يتجلّى أيضاً في عناصر أخرى غير التي ذكرنا. ولعل أبرز تلك العناصر هي: الحرف، واللفظة، والعبارة أو الجملة.