يدعي هواة كتابة ما يسمى (بالشعر المنثور) أنهم قد تحرروا من قالب الشعر الجاهز الذي يفرضه عليهم العروض الخليلي بثورتهم على الإيقاع الخارجي الصارم كي يبتكر كل منهم الإيقاع الخاص بقصيدته والذي هو ( إيقاع داخلي ) و أما الهدف العظيم الذي يحققونه جراء هذه الثورة فهو تفجير طاقات الإبداع في الصور الشعرية .
فهذه وجهة نظرهم التي يعتدون بها كي يروجوا لما يكتبونه من النثر على أنه جنس أدبي راق ليس أسوة بالشعر الموزون وإنما بالامتياز عنه . .
في مقالي هذا سأحاول مناقشة وجهة نظرهم تلك لنرى موضوعية ادعائهم .
وأرى أنه لابد أولا من الوقوف على بعض المفاهيم الضرورية في هذا السياق .
أولا: مفهوم الإيقاع المجرد كما أراه :
هو تكرار للمقاطع الصوتية المتباينة ينتظمه نسق خاص من التناوب بينها وفقا لقاعدة رياضية معينة ..
فتكرار المقطع دم بالتناوب مع المقطع (تك) في التركيب الصوتي التالي يشكل إيقاعا قويا واضحا : دم دم تك تك دم دم تك .....دم دم تك تك دم دم تك .....دم تك تك تك دم دم تك ..... دم تك دم تك دم دم تك
وهو يعد إيقاعا لأنه يعتمد على قاعدة رياضية دقيقة في التناوب والتكرار بين المقطعين الصوتيين .فلو أبقينا على التكرار والتناوب في التركيب الصوتي مع إزالة القاعدة الرياضية الناظمة للعلاقة بينهما فسنحصل على ضجيج إيقاعي غير مستساغ وغير قابل للحفظ مثل ( دم تك تك دم دم دم ... تك ..دم ...تك تك تك تك تك تك دم دم دم دم ..تك تك تك ) .
والمسؤول الأول عن الإحساس بهذه الفوضى الإيقاعية في مثل هذا التركيب الصوتي هو فقدان علاقة التجاوب بين المقطعين الصوتيين و غياب الحوار بينهما ...فنحن من الناحية الحسية نستقبل التناغم بين المقاطع الصوتية المتباينة على أنه حوار صوتي متبادل ننتظر فيه رد كل من الطرفين ( دم و تك ) على الآخر في دوره . . فإذا بدأ كل منهما بالتغريد منفردا ودون تجاوب مع الآخر وتداخلت أصواتهما فذلك ضجيج مؤذ للمزاج ومسبب للصداع وملوث للبيئة .
من هنا فإن الذائقة السمعية تنفر مما يؤذيها من العشوائية الإيقاعية وتستسيغ ما يطربها من التناغم والانسجام في الإيقاع ..وهذه الاستساغة اللذيذة تصبح مع الإدمان عليها حاجة نفسية تؤثر في متطلبات الذائقة السمعية نفسها إذ تصقلها وتربيها بحيث تصبح مرهفة للموسيقى وقادرة على كشف الخلل في النغمة الموسيقية أو في إيقاع التركيب الصوتي ومن ثم التركيب اللفظي .
ثانيا : في مفهوم الصورة الشعرية :
نعلم جميعا أن الأدب ينتمي إلى علم الجمال ويحتكم إلى أحكامه وأن التعبير اللغوي لأدبي الأصيل يختلف عن التعبير العلمي أو الفكري بما يتطلبه من محاولة إثارة الحس الجمالي عند المتلقي ... وهذه الإثارة تتم بالتعبير عن التشكيل الفني الجمالي الماثل في خيال الأديب أو إحساسه أو فلسفته لغويا بما يسمى اصطلاحا بالصورة الشعرية هذا المسطلح الدي ألحق بالشعر دون غيره من الأجناس الأدبية مع بدء الدراسات النقدية العربية في العصر الحديث كوننا لم نكن نملك سوى ( الشعر ) كتراث أدبي مسيطر ليكون مادة للنقد الأدبي . لكن هل الصورة الشعرية كمفهوم فني جمالي خاصة بالشعر فقط . ؟
أريد أن أخرج عن هذا الاصطلاح لأوصل مفهوم الصورة الشعرية بردها إلى حقيقتها ( التشكيل أو التصوير أو التعبير الفني الجمالي ) فالتشكيل الجمالي هو شرط العمل الفني الذي يسري على الأدب بجميع أجناسه لان الأدب فن . والرؤيا الفنية التي يمتلكها الفنان المبدع سواء أكان رساما أو نحاتا أو موسيقيا أو أديبا لن يكون لها سبيل مشروع للظهور إلى الوجود سوى عبر التشكيل الجمالي . فالصورة الفنية (الشعرية ) هي حالة نفسية تعبيرية تعتمد على التناغم بين خيال الفنان وفلسفته للحياة وأدواته الفنية التي يعمل بها .. فالألوان والضوء هي أدوات الرسام ونوع الآلة الموسيقية والجملة الموسيقية هي أدوات الموسيقي ..أما الأديب فأدواته الكلمات ...وكل أديب شاعرا كان أو ناثرا مطالب بالتشكيل الجمالي وفق شروط الجنس الأدبي الذي يزاوله .
ثالثا : في مفهوم النثر :
النثر لغة هو البعثرة والتفريق . فنقول نثر الحب نثرا إذا رمى به متفرقا ، وهو عكس النظم . فحبات العقد تكون منثورة إذا تبعثرت في المكان ، وتكون منظومة إذا جمعها سلك واحد .
والنثر اصطلاحا : هو الكلام الجيد المرسل بلا وزن ولا قافية ، والتسمية الصحيحة لكاتب النثر أن يسمى ناثرا لا شاعرا . لأن التسمية تعتمد على الجنس الأدبي الذي يزاول الأديب كتابته فمن يكتب الشعر فهو شاعر ومن يكتب النثر فهو ناثر، وذلك بغض النظر عن القيمة الفنية والجمالية وكثافة الصور الشعرية التي قد يتضمنها النص النثري ولا يتضمنها النص المنظوم وفق قواعد الشعر . فمجرد الدخول في إطار الأدب يعني أننا نتعاطى التعبير أو التشكيل الجمالي .
من هنا ...فإن التعبير الجمالي المتفوق عن الصور الشعرية والذي قد يسكن النص النثري مهما كان نوعه - قصة أو رواية أو خاطرة - لا يمكن أن يغير الجنس الأدبي للنص النثري كي تتم تسميته شعرا .
. . .يتبع
المفضلات