يفيد الشاعر من رشاقة وسيولة إيقاع الخفيف في قصيدة تغدق من عطايا العاطفة سيلا من حب متدفق .
وتتميز قصيدته بمشهد شعري قليل الرموز يدور حول رمز النخيل الذي يملأ حقل الشاعر ، ثم يذهب أبعد في رسم خلفية هذا الرمز في صور شعرية متغايرة تعمق ألوانه وتحدد ظلاله ، فهكذا يرسم القصيدة مشهدا حركيا متسلسلا مع معانيه المتجاذبة بشفافية لا يشوبها مع صفاء العاطفة شائبة حتى ولو كاد الغموض يغشاها في بعض الأبيات .
هاكِ منّي بحضرة العيدِ كُلِّي
واستَحِلّي جميع أنحاء حقلي
هذه البداية التي يقدم فيها الشاعر نفسه بكليته للمحبوبة ، لا بد أن يسبقها: مطالبتها له بهدية العيد ( ماذا ستمنحني في العيد من هدية ؟) فإذا سألته ذلك فسوف يجيب : هاك ِمني في حضرة العيد كلّي ، فقد بدأ العطاء من ذروته ، إذ ليس أثمن من نفس الإنسان يقدمها للمحبوب .
ثم : استحلي جميع أنحاء حقلي ،استحلي من الاستحلال، أي أنني أمنحك تلك المساحة المحيطة بي من حياتي (حقلي ) فإذا استحللتِها فهي حلال لك ..وأصبحت هكذا مالكة لهذا الحقل . ومن فيه .
هاكِ قلبي يعيدُ في العيد لحناً
من هواكِ استقى معاني التحَلّي
وإليك قلبي الذي يعيد اللحن إعادة في العيد ، فهو إذن لحن قديم ما زال الشاعر يعيد عزفه ، وهي كناية عن قدم عاطفته ،ولم يستقِ هذا اللحن الجميل معاني جماله إلا من تعبيره عن هواك ِ.
إنَّ كُلّي كفاهُ بعض ارتواءٍ
من نواحيكِ لو يلامسُ نخلي
وددت لو قال الشاعر ( تلامس ) لأن الفاعل ضمير مستتر يعود على (نواحيك) ونواحي : جمع ناحية لفظ مؤنث، ونتأمل روعة هذا المعنى في صورة شعرية يرسمها الشاعر فنرى فيها شغفا بالمحبوبة وصل إلى حد أن يقنع العاشق ويكتفيبملامسة نواحي المحبوبة لنخيل العاشق ، فكيف تكون ملامسة النواحي للنخيل ؟ تتضمن هذه الصورة تشبيها ضمنيا يشبه فيه الشاعر نفسه بواحة من النخيل ، والمحبوبة بالماء الذي يروي ذلك النخيل ، فإذا اقترب الماء بأطرافه فلامس النخيل فإن النخيل كله تكفيه تلك الملامسة مع أنها بعض ارتواء ، فلمّا اكتفى ببعض الارتواء منها؟ دلّ ذلك على ما به من شغف يضخم القليل ويراه منحة كبيرة .
قد تكونُ النخيل تهديكِ ظلاً
وهي مشتاقةٌ ولا من تسلّي
وبهذا البيت يشجع الشاعر المحبوبة على الاقتراب من تلك النخلات التي قد تهديها ظلاّ هي محتاجة له ، ولعل تلك النخلات مشتاقة لها وليس هناك من يسليها فهي تعاني الوحدة وتحتاج مؤنسا ، وهنا نرى النخيل قد ناب عن نفس الشاعر بتشبيه ضمني آخر
إنَّ ميل النخيل من ميلِ قلبي
فاعدلي يا مذيبةَ الروح ميلي
ويرى النخيل يميل فوقها ليظللها فيستغل العاشق الفرصة ويدّعي أن ميل النخيل إليها إنما هومن ميل قلبه ، فما عليها إلا أن تعدل ميله بعد أن مثله لها النخيل ، وكأنما يقول ب (اعدلي ميلي ) اجبري كسري ، أو قوّمي انكساري .
ثقْلُ عزْمي هوى بطَرْفة عيْنٍ
فارحمي الحال يا مفاتنَ كحْلِ
وإيضاحا لذلك الانكسار يقدم العاشق شكواه من ضعف ألمّ به بعد أن كان لعزمه ثقل يستشعره، فإذا هو بطرفة عين قد خار عزمه وأصبح يستجدي رحمة لحاله ممن خاطبها باسم بعض صفاتها التي أسهمت في إضعافه (مفاتن كحل )
حينما كنتُ عن مداركِ صفراً
كنتُ رقْماً يُقاسُ بي كلُّ عقلِ
يحيلنا تعبير الشاعر وهو يرمز إلى نفسه بالرقم صفر إلى فلسفته الخاصة التي يرى فيها الصفر حالة من التوازن والاعتدال ، وقد كان صفراً عن مدارها ذات يوم ، أي أنه لم يكن قد تعرف بها بعد ، فهو لم يقترب من مدارها واستمر في كونه متوازنا ومعتدلا يقاس به كل عقل من حيث كونه مثالا لسعة الإدراك وأهلا للحكم والتمييز في مذاهب العقل .
وأنا الآن في الهوى مُستباحٌ
لستُ أدرى النهار من وقتِ ليْلِ
وأما الآن وبعد أن جذبته لمدارها وأصبح مستباحا لضعفه أمامها واستغراقه في هواها فقد فَقَدَ ما كان من سعة إدراكه لما يحيط به من الكون وأصبح غير قادر على تمييز الليل من النهار لشدة استغراقه في الهوى .
ها هو العيدُ والهديّةُ منّي
سيلُ حبّي فهل تصدِّين سيلي
وإذا عدنا إلى ما قدمناه من ضرورة مطالبة الحبيبة بالهدية فسنجد مصداقية ذلك في هذا البيت الذي يؤكد فيه الشاعر أنه إنما يهديها وهو وجل هذا السيل من الحب كهدية عيد ..فهل عساها تصد سيله وتردّ هديته ؟
لو تصدّينهُ فأثمارُ قلبي
تتدلّى عليكِ أحلى تدَلّي
وحتى لو صدت سيل الحب فلن يثنيه ذلك عن مواصلة حبها ، وستبقى ثمار ذلك الحب يانعة متدلية في متناول يدها .
شعر الأستاذ الشاعر القدير حسين إبراهيم الشافعي يتميز بميزات :
1- المبالغة العاطفية
2- لا حشو كلام يمكن حذفه دون الإخلال بالمعنى
3- إيقاع مستساغ عذب لا تلكؤ فيه ولا تعثر على طول القصيدة
4- الصورة الشعرية غير محددة بإطار يمنع اتساعها المستمر ، فكلما أراد إكمال ناحية منها في بيت شعري جديد استطاع ذلك بكل يسر .
المفضلات