إذا بدأنا من قضية انبثاق علوم النفس وعلوم الاجتماع من الفلسفة قبيل بداية القرن التاسع عشر ، فإن ما يليها في الخطورة في قضايا العلوم الإنسانية العربية وخلال أواخر القرن العشرين ، قد تكون هذه التي بين أيدينا ، والتي تتمثل بتأسيس علم جديد هو علم العروض الرقمي وسط عوائق نفسية واجتماعية ثقافية شاقة فرضتها طبيعة الأنظمة المؤسساتية العربية العلمية والثقافية والتي شاء الله لها أن تكون ظروفا مرافقة لانبثاق هذا العلم على أيدي مبدعه الأستاذ خشان خشان من حاضنته التراثية ممثلة بمادة العروض .
الحقوق الشرعية لعلم وليد
في الوطن العربي حيث يشبه البحث العلمي حبراً على الورق ، وحيث تسود القطيعة بين الضمير المسؤول والتخطيط ،. ويسود الارتباك بين البحث العلمي الشبيه بطفل خجول من ذوي الاحتياجات الخاصة ووظيفته المعطلة في المجتمع العربي ، وحيث لا سبيل للاعتراف بالإبداع العلمي إلا إذا كانت أوراقه مختومة بتواقيع رؤساء الأقسام وعمداء الكليات داخل أسوار الجامعات . ولد هذا العلم خارج الأسوار . فنما بعيدا وترعرع بعيدا وبدأ يشب عن الطوق وهو بعيد .
لو كان الأستاذ خشان خشان أستاذا في إحدى كليات الآداب والعلوم الإنسانية في هذا الوطن الذي يجيد إعطاب عقول أبنائه بالتجاهل وعدم الاكتراث ، فربما حلّت المشكلة ووجد هذا العلم بعد ولادته من يرعاه ويسهر على نموه وتأمين احتياجاته . ولكن المشكلة أن الأكاديميين لا ينظرون خارج أسوار الجامعات ليروه وهو يقف قرب البوابات بانتظار أن ترف عيونهم باتجاهه على أمل أن يحضنوه ويفوه حقوقه الشرعية التي يجدر بهم الاعتراف بها .
وإذ لم يجد العروض الرقمي من يؤدي له حقوقه الشرعية كعلم يستحق مكانه الاعتباري ،و يستحق أن تفرد له مناهج تعليم نظامية ووسائل بحث أكاديمية توضع في خدمته ، ظلت صفحات الأنترنت حيث يختلط الغث بالثمين مجاله الوحيد في الظهور والتعبير عن نفسه.
كيف تصنع مشكلتك ؟
لم تكن المشكلة الوحيدة التي عانى منها الأستاذ خشان هي وجوده كباحث علمي خارج أسوار الجامعات . ولكن مشكلة أكبر من ذلك صنعها الأستاذ خشان بنفسه لتكون جزءا ًمن معاناته هي إنكاره لذاته بشدة تواضعه التي منعته من تقديم نفسه إلا متواريا خلف عباءة الخليل . لذلك فإن الحديث عن إنجازاته في العروض الرقمي كلها يضعها الأستاذ خشان تحت عنوان إنجازات الرقمي التي هي قبس من نور الخليل .
والأمر مماثل في إظهار مبادئ وبدهيات منهج الخليل الذي يبدو على المستوى نفسه من إنكار الذات الخشانية الكادحة في البحث على حساب إعلاء الذات الخليلية التي هي مركز الإلهام والإشعاع لكل فعل وإنجاز رقمي عبر تركة الدوائر المنفصلة.
وحتى عندما يأتي الأستاذ خشان بما هو جديد من الإنجازات التي لا دور فيها للخليل ولم تخطر على باله ولا حتى في الأحلام كالتخاب وهرم الأوزان والكم والهيئة ..وسوى ذلك من الأبحاث الرقمية ، فإنه لا يكف عن نسبة الفضل فيها لمنهج الخليل أيضا ... فإنكار الذات هذا أمر غريب !
وعلى سبيل المثال ، لم أكتشف أنا نفسي أن ترتيب ساعة البحور وفق نظامها البنيوي الحالي هو من إنجازات الأستاذ خشان إلا بعد حوالي سنة كاملة من بدء دراستي للعروض الرقمي ، وطوال ذلك الوقت كان الحديث عن ساعة البحور يتم بوصفها منجزاً خليليا دون التنويه والتركيز بما يكفي لإيضاح أنها من صنع الأستاذ خشان . فلا ضير إذن على أي باحث أو باحثة كالدكتورة ديمة الشكر مثلا أن تجعل من صورة ساعة البحور الرقمية صورة لغلاف رسالتها دون أن تستأذن الأستاذ خشان ، ودون أن تشير إلى مصدرها ، فلعلها مثلي ظنتها إنجازاً خليليا قديما مع التعتيم المتعمد من صاحبها على نفسه بما يشبه طمس جهده بنفسه .
وعلى سيرة الطمس ، يقول الأستاذ خشان
: ( فعلم العروض الذي أبدعه الخليل طمس ولم يلتفت له أحد. وتعامل الجميع مع بحور الخليل وتفاعيله وهي التطبيقات الجزئية التجسيدية لعلمه ويُقصد بإطلاق اسم علم عليها بالمعنى اللغوي لكلمة علم أي (المعلومات) التي تؤخذ على التوازي دون وجود رابط بينها بالضرورة كتلك التي في الجرائد. وهم إنما يتعاملون في ذلك مع (العروض) وليس مع (علم العروض)
وإننا عندما نقرأ هذا الكلام ينتابنا شعور بالظلم الذي لحق بالخليل . فبعد أن أبدع الخليل (علم العروض) طمسه قومه ولم يلتفتوا إليه وأشغلوا أنفسهم بالمعلومات التي تسمى التفاعيل والتي هي تطبيقات جزئية ليس إلا ..!!
ونحن نسأل الأستاذ خشان: لماذا يترك قومُ الخليل العلمَ ولا يلتفتون إليه بل ويطمسونه ويستعيضون عنه بالمعلومات الجزئية غير المترابطة ؟ وهل وجد القوم بين أيديهم غير تلك المعلومات الجزئية ( التفاعيل ) ولم يأخذوا به ؟
ولأننا لا نتوقع جواباً من الأستاذ خشان فسنجيب نحن على هذا السؤال بسؤال قد يثير أسئلة كثيرة :
1- أين هو ذلك العلم الذي أبدعه الخليل ؟ أين الكتب أو الرسائل التي ألفها الخليل لشرح منهجه بنفسه ؟ وأين مضامين الشروح وتفاصيلها ومعطياتها التي طمسها قومه ؟ أينها؟؟
2- وهل ترك الخليل دليلا على علمه ومنهجه وإبداعه سوى لغز (رسوم الدوائر المنفصلة ) ؟ ومتى كان لغزٌ ما يشكل علما ومنهجا ، دون حله وشرحه وإيضاحه ؟؟؟!!!
3- أيلام قوم الخليل على أنهم لم يحلوا لغز الدوائر قبل الأستاذ خشان ؟ أم يلام الخليل العالم المبدع المتقاعس الذي اكتفى بالتلميح إلى تصوره الخاص للمنهج تلميحا خجولا عبر اكتفائه برسم الدوائر المنفصلة ؟
4- وهل يغني التلميح في العلم عن المناقشة والمعالجة الموضوعية ؟ وهل تسمى الرموز علما إذا لم يصحبها بيان وشرح وتفصيل ؟
وهل إذا صمت العالِم وهي حي يرزق عن علمه الذي لا يعلمه أحد سواه، وتهرب من عبء الكشف عنه وإيضاحه للناس ، يلام قومه فيما بعد على عدم فهمهم لذلك العلم وعدم اكتراثهم به ؟ كيف وقد فرّط به هو نفسه فلم يأبه بشرحه بعد أن امتلأ به وعيه ، فظل حبيس تصوراته الخاصة هو وحده ....؟ حتى يأتي الأستاذ ميشيل أديب فيلوم القوم على تفريطهم بعلم الخليل كونهم لم يعبئوا بحل اللغز الذي خلفه لهم وراءه ؟؟ بقوله:
:" وأكثر ما يعيب كتب العروض القديمة والحديثة، أنها، على الرغم من مظاهر العبقرية،
التي لم يكشف الخليل عن أسرارها، لم تحاول تحليل العملية الذهنية لتي مكَّنت الخليل من بلوغ
هذه القمَّة الرياضية التي لا تتأتَّى إلاَّ للأفذاذ ."
فما الذي يعنيه القول (إن الخليل لم يكشف عن مظاهر عبقريته ) ؟ ذلك يعني وبكل بساطة أن الخليل كان عالماً ًصامتاً كاتماً للعلم! ..لمّح ثم صمت . ألـّف لغزاً معقداً وكان يعلم حله الصحيح ثم توفي دون تبيين الحل والإخبار عنه !
ولقد قرأت أستاذي د. عمر خلوف قائلا ً:
((أعلنتُ أكثر من مرة أن للخليل منهجاً محكماً في عروضه، صحيحاً في ذاته، ولكنه منهج يخص الخليلَ وحده، وليس من الضروري الإيمان بكل ما جاء فيه )).
فيرد عليه أستاذي خشان معاتبا ً
(( وأنت أخي واستاذي الحبيب تظلم الخليل كما ظلمه الوافي
كل مناهج العلماء ونظرياتهم يُحكم عليها بصحتها واتساقها في ذاتها، ويأخذ الآخرون بها بهذا المقياس، ولم يقل أحد عن نظرية أو منهج أي عالم في أي علم من العلوم إنه :"
منهجٌ محكمٌ صحيحٌ في ذاته، ولكنه منهج يخص ذلك العالِم وحده، وليس من الضروري الإيمان بكل ما جاء فيه "
فلماذا يقال عن منهج الخليل دون سواه من العلماء؟ وما الذي كان يفترض في الخليل غير إحكام منهجه أن يفعله لكي تأخذ به ؟))
http://www.alfaseeh.com/vb/newreply....reply&p=603340
ولعلنا نتداخل في هذا الحوار فنشير إلى أن الخليل كان مختلفا عن كل العلماء الذين أخذ الناس بنظرياتهم ومناهجهم وفق مقياس( صحة هذه االمناهج واتساقها في ذاتها ).والفرق أن هؤلاء العلماء كانوا قائمين على رأس عملهم في شرح مناهجهم بأنفسهم والدفاع عنها أمام منتقديها ،أما الخليل فلم يخض من ذلك شيئا،ولم يضع بين أيدي الناس سوى التفاعيل التي هي تطبيقات جزئية لا تمثل منهجه والتي أخذ بها العروضيون لأنهم لم يجدوا شيئا غيرها يأخذوه ، في حين أنه تجنب تقديم منهجه وعرضه على العقول يأسا منه في قدرات تلك العقول على الفهم كما يقول أستاذنا خشان :
((الخليل قدم حصيلته على شكل تطبيقات جزئية، يقينا منه بأن الجمهور غير مؤهل لفهم منهجه، وقد ثبت بعد نظر الخليل فحتى في يومنا هذا نرى العروضيين العرب لا يدركون وجود منهج للخليل. ولكن الخليل ترك بابا مُشرعًا يدخل منه من يشاء إلى المنهج، وهو دوائر الخليل، فمن القوم من اعتبره بابا شكليا موصدا وأنه مجرد طرفة أو مرقعانية جمعت المتعوس على خائب الرجاء ومنهم من اعتبر ذلك الباب ذا عمق ضئيل يقتصر على فك البحور، واعتبر التفاعيل وحدودها أهم من شمولية الدائرة،))
https://sites.google.com/site/alarood/laysa-elman
ويقول : ((الخليل هو عالم العروض، بل لعله عالم العروض الوحيد. هو من فهم خصائص الذائقة العربية من خلال نتاجها الشعري فهما رياضيا فكريا كليا شاملا. والخليل كان ولا زال سابقا للزمان، فلا الناس في زمنه فهموا منهجه، ولم يفهمه العرب حتى اليوم، ولم يفهمه المستشرقون وتلاميذهم. ولست متفائلا بذلك في المستقبل.))
https://sites.google.com/site/alarood/laysa-elman
بالتأكيد سيكون الخليل هو عالم العروض الوحيد في الماضي طالما أنه كان على يقين من أن الجمهور لن يفهم منهجه !!! أوليس هذا هو العذر الذي أوجده الأستاذ خشان للخليل والذي يبرر له كتمه للعلم وكتمه لمنهجه ؟
لكن الغريب في كلام الأستاذ خشان قوله عن منهج الخليل : ((ولم يفهمه العرب حتى اليوم، ولم يفهمه المستشرقون وتلاميذهم. ولست متفائلا بذلك في المستقبل.))
فكيف ذلك يا أستاذ خشان وقد قضيت حضرتك زمنا يمتد إلى حوالي ربع قرن ما بين الطبعة الأولى لكتابك ( العروض رقميا ) والطبعة الثانية القادمة قريبا إن شاء الله ، وأنت تبحث في منهج الخليل وتكشف عنه قناعا إثر قناع ، حتى حللت اللغز وأعلنت الجواب للملأ ؟ كيف يبقى منهج الخليل غير مفهوم وقد فهمته أنت ؟ وقد فهمه كل من انتسب إلى مدرستك من دارسي الرقمي ؟ والذين تعتد بهم حضرتك وتفخر في حملهم رسالة الرقمي ؟ وإذا استثنيت دارسي الرقمي من الفهم لشكك في المستوى المطلوب من الفهم ، فلماذا تستثني نفسك ؟ أبعد كل الذي قدمته حضرتك من فهم وإيضاح لمنهج الخليل فاق فهم الخليل نفسه لمنهجه ما زلت ترى منهجه غير مفهوم ؟ ومازلت ترى فهمه مستحيلا؟ وإلى الدرجة التي تجعلك غير متفائل بالمستقبل حتى ؟ ؟!
جواب واحد يقنعني لكل هذ الأسئلة، وهو يلخص صميم مشكلة العروض الرقمي :
المشكلة إنكار الذات يا أستاذ خشان .
المفضلات