من معرفتي بفكر أستاذتي ثناء حاح صالح أوقن أن في مواضيعها من العمق والأصالة الفكريين ما يفرض علي أحد موقفين لا ثالث لهما. أولهما التفرغ والتركيز وثانيهما الابتعاد. فليس مما يليق بفكرها أن يقرأ قراءة سطحية أو أن يكتفى في التعليق عليه بالكلام المجامل.
أمر منذ فترة بظرف يحول دون تركيزي في التفكير ولذا حتى عندما يتوفر الوقت فإن المجال فيه يتسع لما لا يحتاج عميق تركيز كالجمع أو النشر أو تفصيل بعض المواضيع أو حتى الترجمة. وتشاء الصدف أن أطلع على مقالها هذا بُعيد فراغي من ترجمة مقدمة " الدليل العملي لنظم الشعر "
http://nprosody.blogspot.com/2017/10...cal-guide.html
للكاتب Colin Holocombe وقد أعجبتني تلك المقدمة وهي تشجع على قراءة الكتاب كله.
وجدت في كلامها ما يتقاطع كثيرا مع ما ذكره وما لا يقل عنه عمقا وأصالة.
سأنقل مقاطع من الترجمة ومن كلام أستاذتي ليحكم القارئ بنفسه. علما بأن مقال أستاذتي سبق نشري للترجمة بأربعة أيام.
وفرت لي فرصة الإشارة إلى هذا التقاطع فرصة الحد الأدنى للتعليق وعندما أقول التقاطع فإنني وجود مقالها والكتاب على نفس المستوى من العمق والأصالة سواء اختلفا أو اتفقا في المضمون.
أغتنم الفرصة لأحيي أستاذتي. وأتمنى أن يتاح لها التفرغ للفكر والأدب وأن تجد من أمتها ما يليق بها من تكريم.
فيما يلي ما كان بالأسود فهو من نص أستاذتي
وما تبعه من أزرق فهو من نص صاحب المقدمة.
فهذ الأودية التي يهيمون فيها ليست سوى أودية المفردات التي تخلت عن دلالاتها الاجتماعية ذات الطابع القيمي المتعارف عليه....وما أضعف الشاعر عند انتهائه من كتابة نصه في الدفاع عن شعره من ناحية الدلالات القيمية ..فغالباً لا يكون الشاعر نفسه قادراً على تقمص حالته الشعرية في واقع الحياة ....ونستدل على ذلك من أن التعبير الشعري عند الشاعر قد كان في الأصل حالة انفجار ثوري تعبيري تحت ضغط امتلاء المشاعر بالرؤى والانفعالات الشعرية ضمن الحالة الشعرية .
نأتي الآن إلى الغرض الثالث من أغراض كتابة الشعر عند الشاعر وهو التلذذ بالعملية الإبداعية الذي يفرض على الشاعر المتلازمة النفسية الإبداع – إشباع الحس الجمالي والتي تتسم بها الحالة الشعرية عنده .
وبرأيي الشخصي ..كلما كانت الصور الشعرية متسقة كوحدات بناء صغيرة مترابطة وموظفة ضمن الرؤية العامة لبناء المشهد الشعري كانت تدل على درجة أرقى وأكثر تطوراً من وعي الحس الجمالي عند الشاعر . الأمر يشبه تماماً أن ترسم لوحة بالفرشاة والألوان على خلفية قماش اللوحة ...فهل يقبل الحس الجمالي أن تكون هناك بقع غير ملونة في خلفية اللوحة ؟ غير أن ميزة الصور الشعرية الجميلة أنها فضلا ً عن اتصالها العضوي بعضها مع بعض ضمن المشهد الشعري فهي قادرة على أن تتضمن نوعاً من الحركة التي ينتقل عبرها الشاعر من منطقة إلى أخرى عبر المشهد الشعري بشكل متسلسل ...وتتأتى هذه الميزة من أننا عندما ننظر إلى لوحة حقيقية مرسومة بالريشة فنحن نراها ككل ...بل مطلوب منا أن نتأملها ككل وإن كنا نستطيع تركيز بصرنا على بعض أجزائها دون الآخر بغاية اكتشافه أكثر...لكن الصورة الشعرية ولأنها محمولة عبر الكلمات لا نستطيع أن نتذوقها كلها دفعة واحدة ولا ينبغي لنا ذلك بل إن إحداها تنتقل بنا إلى الأخرى عبر تسلسل يفترض أن يكون منطقياٌ مراعاة لعدم الانقطاع في تصور المشهد الشعري في ذهن المتلقي
وكذلك اعتاد الرسامون تقليد الأعمال الفذة. ولم يكن ذلك لمجرد غياب التصوير ولكن أيضا لأن التمرين علمهم لماذا تم تناول كل عنصر معاملة خاصة. بحيث لو شابت صفاء لون الكُمِّ أدنى شائبة أو تحركت حبات العنب سنتمترين في اللوحة التي اقتنصت لحظة الحياة ، لاتضح أن هناك خطأ ما. ولّد التمرين إدراكا يشكل مرجعا للمهارة العملية.
وعليه فإن هذا الكتاب موجه لمن يهتمون بالشكل الشعري أو يصبون إليه. ويخاطب تلك الأقلية التي تتذوق كيف تشيد تناغماته المعقدة على الورق نطقا وصمتا ما يعجز عنه الصوت الحي من " وري زناد الكلام " وهو هدف جليل ولكنه في الواقع صعب ومحدود. ليس نظم الشعر مقتصرا على مادة المصطلحات، وليس طبيعيا على الإطلاق ، ولا ينبغي أن يحكم عليه بمعايير التعامل اليومي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإيغال في النأي عن المألوف تجعله متكلّفا ممجوجا. ولكن ذلك ليس حجة لتأسيس الشعر على قاعدة لغة النثر.
نأتي الآن إلى الغرض الثالث من أغراض كتابة الشعر عند الشاعر وهو التلذذ بالعملية الإبداعية الذي يفرض على الشاعر المتلازمة النفسية الإبداع – إشباع الحس الجمالي والتي تتسم بها الحالة الشعرية عنده
لكن في الحقيقة فإن الحالة الشعرية تتضمن فضلاً عن متعة الاستعراض التي يمكن تأصيلها إلى إشباع دافع الكرامة والإحساس بالاحترام الذاتي عند الشاعر متعة أخرى مهمة جداً عنده هي متعة إشباع دافع الحس الجمالي وهي متعة خاصة قد لا تتوفر بشكل واضح ودائماً عند كل الناس , وذلك لأنها تتطلب الصقل المستمر كي تنمو وتتضح
إن مردود الشعر هو مردود المحترف الحاذق في الوسط الصعب، إنه يفضي بالشاعر إلى إدراك فرص عظيمة ويبعث في حسه نشوة عارمة عند نجاحه.
لكن للشعراء تطلعات أسمى وذلك بتخليد اللحظات الجميلة التي تعبر حياتنا الحافلة بالفوضى والمشاكل. إنهم يصبون إلى استكشاف أمور لا وجود لها خارج النسيج المحكم لتعابيرهم. فهم يصبون إلى قول ما لا يستطيع عاقل غيرهم أن يقوله إذ يبدعون التعبير فذ المعنى نابض الإحساس عن العالم الذي يصفه سواهم بشكل مجرد مختصر.
إن منهج الخروج عن المألوف في الإثارة يظل هو الأقوى في الحالة الشعرية . ولو انتبهنا إلى ما يتعرض إليه الشعراء من النقد لوجدنا أن مشكلة تكرار الصور الشعرية واستهلاكها تبرز كخطر يهدد شخصية الشاعر بالاضمحلال أو الذوبان في الشخصية الشعرية لغيره من الشعراء إذ المطلوب دائما ً هو الإتيان بالجديد والمتفرد من قبل كل شاعر وهذا لا يتحقق للشاعر إلا بمزيد من الصقل للحس الجمالي عند الشاعر ...لكن عملية الصقل نفسها والتي تعتمد بالدرجة الأولى على تثقيف الشاعر نفسًه بالقراءات الدؤوبة لأعمال غيره من الشعراء هذه العملية نفسها قد ترسم إطارا لأبعاد الحس الجمالي عند شاعر ما عندما يقع تحت تأثير أحد الشعراء الأقوياء مما يجعله ودون انتباه منه يعكس خصائص ذلك الشاعر القوي في حسه الجمالي
وعليه فإن هذا الكتاب موجه لمن يهتمون بالشكل الشعري أو يصبون إليه. ويخاطب تلك الأقلية التي تتذوق كيف تشيد تناغماته المعقدة على الورق نطقا وصمتا ما يعجز عنه الصوت الحي من " وري زناد الكلام " وهو هدف جليل ولكنه في الواقع صعب ومحدود. ليس نظم الشعر مقتصرا على مادة المصطلحات، وليس طبيعيا على الإطلاق ، ولا ينبغي أن يحكم عليه بمعايير التعامل اليومي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإيغال في النأي عن المألوف تجعله متكلّفا ممجوجا. ولكن ذلك ليس حجة لتأسيس الشعر على قاعدة لغة النثر.
ترجع الآداب والفنون دوما إلى آمال منابعها وهذا ما صرح به بن جونسون قائلا :" المُتَطلّب الثالث في شاعرنا أو مبدعنا هو التقليد وذلك بطبيعة الحال بعد القريحة والتمرين " من أجل التمكن من تمثّل أو هضم إبداع غيره ومن ثم إنتاجه بطابعة الشخصي. لا أعرف يفضي إلى خزائن الحروف أكثر من دراسة كتابات الأولين، ولا يعني ذلك الوقوع تحت هيمنتهم، ولا استمداد المصداقية منهم. فهم قد شرّعوا لنا الأبواب وسلكوا الدروب قبلنا كمرشدين لا كقادة.
المفضلات