( من سيرة المعطف والأستاذ )
للأستاذ محمد الصاوي
ما عيبُ المعطف تُرجِعه ؟
لا خرقَ ، ولا حرقَ ، ولا مزْعَ ،
ولا رقعةَ فيه ، انتفض البائع فى وجهى
فى سوق البالة ، وهو يبرطم بكلام مرٍ
قال وها أنت ترى المعطف يتشهَّاه البهواتُ
ولولا أنِّى أبصرتك تلميذا من أهل الله
عليك هلاليل قميصٍ ونسالةُ بنطال ٍ
ما كنتُ رضيتُ أبيعك هذا المعطف
يالأستاذ انظرْ للوبرةِ ، وانظر لبطانته
انظر للأزرار ، انظر للياقة
وانظر يا أعمى للأكمام وقل لى
أين ستجد شبيها للمعطف هذا بجنيهاتك ؟
من ذا سيكون رحيما بك مثلى ؟
من يرضى أن يرأف بك
حين تساومه فى هذا التحفة ؟
هل تدرى يالأستاذ ولا تبدو لى
أهلا للعطف ولا النعمة
لو كنت لها أهلاً ما كانت تعود
لترمى لى المعطف وتقول جنيهاتى
المعطف هذا يبدو للشارى النبهان ِ
غنيمةَ حربٍ باردةَ جاءتك على طبقٍ
من ودٍ فلماذا تطويه وتلقيه هنا فى وجهى ؟
أى جنيهات هذى ؟ كم كانت ؟
قل لى كم كانت وأنا أرميها لك
فوق النعل وآخذ هذا المعطف
ألفٌ بدلا ًمنك سيقف على باب الدكان ويشريه
ألا تذكر كم رجلا حام حوالينا حين جعلت
تقلِّب فى المعطف وتساومنى ؟
يا ليت قطمتُ كلامى معك وبعتُ المعطف
لبصيرٍ محتاج بدلا من أن ألقى دررى الغالية
لثيران ٍعميانٍ ، هذا المعطف ترجعه ؟
سكت البائع لما أنهى خطبته
جلس وقد هدجه التوبيخ وأشجاه وأطربه
جعل يقلِّب فى المعطف يطويه كمن يطوى
ثوب عروس ٍ ،راح يعلقه فى شماعته
وهو يهمهم ، ويغمغم ، قلت له
وأنا أقبض منه جنيهاتى
من أين جلبتم هذا المعطف
من أىِّ بلاد الله ؟
فرمق البائع وجهى بالعين الحمراء تطق شرارا
وقال من ذا يدرينى يالأستاذ ؟
وما شأنك من أى بلاد الله جلبنا المعطف ؟
منذ متى يسأل من يشرى البالة َ
هذى الأسئلة الكالحة المشؤومة ؟
قلت له يا هذا البائع أحسب أنك
تدرى علَّته هذا المعطف
أنت تغش زبائنك
ولن أحكى حرفا ما دمت ترد جنيهاتى
دع غيرى يشرى منك المعطف هذا يلبسه
فتلجلج صاحبنا البائع ، أغمد عينيه بعينى َّ
وقال إذن ما علته هذا المعطف يا فالح ؟
لا علَّة فيه سوى أنك أعمى أو متعوس ٌ
ليس له فى النعمة فضحكتُ
ضحكتُ إلى أن دمعتْ عيناى
انتبه لنا الباعة ما هذا المجنون
يكركر فى باب الدكان فقال البائع ما بالك
تسخر يالأستاذ وما لك تضحك منى ؟
قلت له وأنا أمسح دمعى وأكفكف ضحكى
المعطف مسكونٌ ،
تدرى أن المعطف مسكونٌ ، جندىٌ مقتولٌ فيه
الجندىُّ إذا ما تلبس هذا المعطف يصحو
كى يلبس معطفه ،يضع على الرأس أكاليل الغار
يسير بطابور العرض بخيلاء الفرسان
ويتبختر كالطاووس إذا ما يمشى
ثم تراه بلا سبب يركض غضبانا
ويدوس زنادا وهميا يحصد قتلاه
ويحفر خندقه ، يحفره فى بيتك
يرمى قنبلةً ينبطح إذا ما ألقاها ينهض منصورا
ثم تراه إذا ما ينهض مخذولا
حاصره من كل جهات الأرض أعاديه
وتبصره يرفع رايته البيضاء
فيسقط برصاصة غدرٍ
أو يسقط برصاصة قهر ٍ
او أنك لا تدرى لو يسقط
من أين تجىء رصاصته
يا هذا البائع فى هذا المعطف
يلبسك الجندى إذا ما تلبس معطفه
يسقط بك لو يسقط ، يركض بك لو يركض
يرفع رايته من راياتك
يضغط بأصابعك زناد مسدسه
يشعل أقلامك حطبا يستدفىء فى أوراقك
ويشد السلك الشائك فى حجرتك
ويطفىء مصباحك حتى لا ينتبه له القناصون
ويتقنفذ فيك إذا ما رحت تزرر معطفه
قال البائع وهو يحدِّق فى لهفٍ يمناه ويسراه
ويالأستاذ اكتمْ سرى ، أستحلفك اكتمْ سرى
إن كان على المعطف سأدلُّك
كيف تسير به وتزررُ هذى الأزرار
ولا تبصرُ ذاك الجندىَّ ولا تلمحُ لقتيلك طيفاً
قلت له شيخٌ أنت ستطرد عن هذا المعطف جنيَّا يسكنه ؟
قال ولا شيخَ ولا درويشَ ، دنا منى البائع فى حذر
وسوسنى فى أذنى ّ.........
وقال وها لقًّنتك ما تفعله
خذ معطفك ، البسه ولا تخشَ..
البردُ مريرٌ هذا العام وجعل البائع يلبسنى
بيديه المعطف ويزرر بدلا منى الأزرار
ويمسح فوق الجوخ الغالى
فشكرتُ البائع ولبستُ المعطف
حين مشيتُ انتبه الجندىُّ الساكنُ
فى معطفه وصحا ثانيةُ من غيبته
كى يلعب بى لعبته فهمستُ له
وكأنِّى كنت أوسوس نفسى
نمْ يا هذا الجندىُّ قريرا
سيجى صغارٌ
سيجىء صغار ٌ من رحم الجمر
ولن يلقى أحدٌ منهم رايته
لن يمشى مختالا كالطاووس
ولن يلبس إكليل الغار ، ولا إكليل الشوك
ولن يسقط مثلك لا يدرى
من أين تجىء رصاصته
شهق الجنىُّ الجندىُّ من الفرح
وبانت فى التو عليه ملامح شبيته
وتمطَّى من تعبٍ ، وانهدل دُخَاناً
كان يلوِّح لى وهو يفارقنى
ويدندن نشواناً: سيجىء صغار
المفضلات