النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: ظاهرة الغموض في شعر الحداثة/ عبد العزيز ابراهيم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    MI. U.S.A
    المشاركات
    3,553

    ظاهرة الغموض في شعر الحداثة/ عبد العزيز ابراهيم

    عبد العزيز إبراهيم

    ظاهرة الغموض في شعر الحداثة


    لم تكن مقولة القدماء "الشعر ديوان العرب" إلاّ صورة لتجربة ربطت الشعر بحياة العرب وإن بَعُدت هذه المقولة عن النثر وهي تنحصر في دائرة ضيقة لا تغادرها إلى النوع الأدبي الآخر. وقد يعلل ذلك بالرّواية الشفوية، أي أن الشعر يحفظ ومما يساعد هذا الحفظ الموسيقي التي لم تفارقه منذ أن عَرف العرب الشعر في القرن الثالث الميلادي ـ على أقرب الروايات المؤرخة لظهوره في تأريخ أمتنا صحة ـ فكان للإيقاع أثره عند الحافظ لهذا الشعر وفي الوقت نفسه عند المتلقي لحظة سماعه المنشود من الشعر. وبقيت هذه الموسيقى ملازمة لـه حتى القرن العشرين. وهذا يعني أن هناك أذناً وجدت في هذا الشعر راحة عند السماع، فكان أن تشكلت ذائقة ترى أن الشعر هو ما يُنشد على وفق هذا المقول المُوَقّعَةُ ألفاظُهُ وبذلك صنعت هذه الذائقة حاجزاً دون ذاك حتى إنها وجدت في شعر المُولَدين في العصر العباسي اهتزازاً غير مرغوب فيه عندما جاء هؤلاء المولدون بالفنون الشعرية (الدوبيت والكاف والكان والقوما والمواليا) تعبيراً عن حياتهم الناعمة ومجالس طربهم الصاخبة. وإنْ ظل الواقع الشعري متمسكاً بقديمه لا يغادره وإنْ استسلم زمناً ليس بالقصير إلى الصناعة البديعية فإنه في هذا الاستسلام المؤقت كانت الأذن لا تنبو عن سماعه وإن شاب هذا السماع إبهاماً في بعض الأحيان ولكنه لم يصل إلى الغموض حيث يكون السؤال بعد الإنشاد: ماذا يريد الشاعر أن يقول؟ فالسامع لم يفهم من الشعر مُراد الشاعر لأن المنشد كان غامضاً في المقول الشعري وبذلك تجاوز السؤال الإبهام في قول الإعرابي لأبي تمام: لماذا لا تُفهم ما تقول؟!‏

    هذه الحال ظهرت واضحة بعد النصف الأول من القرن العشرين عندما جدد جيل شاعر الشعر متأثراً بالغرب فخلق هذا التجديد صدمة في السماع لم تجد لها الأذن ما يُسوِّغ الإبدال، لأن هذا التجديد يعني تغيير مؤسسة شعرية تقوم على قاعدة الموزون المقفى الذي يعبر عن معنى ولذا قيل إنّ (كثيراً ممن ألفوا قراءة الشعر العربي القديم يواجهون صعوبة في التجاوب مع الشعر‏

    الجديد وربما رفضوه من أجل هذه الصعوبة) يعلل ذلك د. عز الدين إسماعيل بقوله (1): (إنّ هذا الشعر الجديد يمثل اتجاهاً جمالياً يختلف عن اتجاه الشعر القديم بل ربما وقف منه موقف النقيض. وربما حاول الجادون أن يتغلبوا على تلك الصعوبة بأن يُكيِّفوا أنفسهم وهذا الاتجاه الجديد، ولكن كثيراً ما يقف حائلاً دونهم وهذا التكيف خاصية في الشعر الجديد هي في الحقيقة مقوم من مقومات وجودة، وأعني بذلك غموض هذا الشعر..!)‏

    وهذا التعليل يُشكِّل فرضية نظرية تقرن الغموض بالشعر وكأنه لازمة من لوازم ظهوره دون أن تحسب لهذا التجديد رؤية قد لا تجد في الغموض إلاّ صاحباً يلجأ إليه الشاعر هرباً من القارئ أو الجمهور إن قرأ القصيدة الجديدة فيكشف بقراءته تلك المستور الذي يتوارى الشاعر خلفه. أو قد يكون الغموض مرحلة عَبَّرت عن غياب الرؤية الواضحة لمكونات هذا البديل لكونه ضعيفاً لا يقوى على المجاهرة.‏

    ويسند د. عز الدين إسماعيل رأيه هذه بأربعة أعذار هي(2): ـ‏

    الأول/ إن الغموض في الشعر خاصية في طبيعة (التفكير الشعري) وليس خاصية في طبيعة (التفسير الشعري) وهي لذلك أشد ارتباطاً بجوهر الشعر وبأصوله التي نبت منها. ويؤيد هذا العذر بقوله: (ويمكننا أنْ نَتَبيّن هذا إذا نحن رجعنا إلى نظرية قديمة ترجع أصولها إلى "فيكو" ـ هوجيوفاني باتيستا/ 1668 ـ 1744 فيلسوف إيطالي حاول تطبيق المنهج العلمي على دراسة التأريخ (3) ـ تقول: إن الإنسان يُشكِّل أفكاراً خيالية قبل أن يشكِّل أفكاراً عامة، وأنه يدرك الأشياء إدراكاً مهوشاً قبل أن يصل إلى مرحلة التفكير في هذه الأشياء تفكيراً منظماً، وأنه يُغنِّي قبل أن يقول كلاماً محدد المقاطع، وأنه يقول الشعر قبل أن يعرف النثر، وأنه يستخدم الاستعارات قبل أن يستخدم الألفاظ الاصطلاحية، وأن استخدامه للألفاظ استخداماً استعارياً هو بالنسبة إليه شيء طبيعي) وهذا التشكيل الشعري يعتمد الخيال وبالتالي فإن (الخاصية الأولى للشعر هي أن يجعل غير الممكن قابل التصديق) وهذا غموض.‏

    الثاني/ إن الغموض في الشعر لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد صفة سلبية، أي على أنه فشل من جانب الشاعر في الوصول إلى حالة الوضوح التام، وإنما هو صفة إيجابية، بل أكثر من هذا هو مجموعة كاملة من الصفات الإيجابية. فبعيداً عن قيم الألفاظ الصوتية الصرف، التي لا تحمل معنى، وبعيداً عن سحرها اللاعقلي أي عَمّا لها من قوة التعويذة السحرية ـ كما يرى هبربرت ريد ـ بعيداً عن كل هذا نجد غموضاً جوهرياً في عملية التفكير الضمنية، وهو غموض يرجع إلى أمانة الشاعر وموضوعيته.‏

    الثالث/ الغموض ليس خاصية ينفرد بها الشعر الجديد، وإنما هو خاصية مشتركة بين القديم والجديد على السواء، وكل ما في الأمر هو أن الغموض قد صار ظاهرة واضحة في الشعر الجديد تدعونا إلى التأمل. فلا يمكن أن تكون المسألة في هذا الشعر عدولاً معتمداً عن الوضوح إلى الغموض، ولا يمكن أن تكون كذلك مجرد رغبة من الشعراء في إرضاء ذواتهم عن طريق إغاظة متلقي الشعر بوضعه في إطار من الطلاسم التي تعيى على الفهم كما كان المتنبي يصنع أو غيره من شعراء الشعر القديم.‏

    الرابع/ الشاعر في حاجة إلى عمق التجربة أكثر من حاجته إلى التفصيل وكلما قَلّتْ تفصيلات. الحالة الشعرية زاد تأثيرها المباشر. ويعلل ذلك بقوله: (كثرة التفصيلات لا تترك عملاً للإيحاء الذي تتمتع به لغة الشعر والذي يعتمد على الصور الفنية كالاستعارة وغيرها. ولذا فإن التعبير المباشر ليس تعبيراً شعرياً، وحياة الألفاظ الطويلة وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتأريخي وأسطوري، كل ذلك يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية، والغموض أو التعقيد مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز) (4) ولذا تراه ينظر إلى المجاز باباً مشرعة فيقول (فالمجاز في جوهره يمثل هذه العملية غير المنطقية وغير المعقولة التي هي أثر من آثار الخرافة) (5) ويضرب أمثلة من القول: (الريح تعول، السماء تبكي، كيد الحقيقة) وهو يريد بهذا المجاز أن ينسب المشاعر والعواطف الإنسانية إلى الكائنات غير الحية وذاك من منطق الخيال وهو غموض أيضاً.‏

    ولذا تراه يؤكد ميله نحو الغموض فيقول( 6): (إن الشعر الجديد يتسم في معظمه بخاصة في أروع نماذجه بالغموض) ويرفض المقولة التي ترى أنه (إذا كان الوضوح ممكناً فإن الغموض عجز) وبالتالي فإن (العدول عن البساطة والوضوح إلى الغموض لا يمثل ضرورة فنية وشعرية على الإطلاق)!‏

    وإذا وجد الدكتور عز الدين إسماعيل أن الغموض أمر لا مفر منه وبالتالي فهو حسنة للشعر الجديد (التفعيلة) فإن أستاذنا الدكتور إبراهيم السامرائي يرى أن الغموض انحراف متعمد عن اللغة والفهم ويسوق رأيه على عدة شواخص ثابتة هي: ـ‏

    الأول/ إنَّ (جلَّ هؤلاء لم يَشْقُوا بصحبة الكلمة ولم يعانوا كون المادة اللغويّة وثيقة الصلة بنفوس أصحابها، لأنها تفصح عنهم، ولعلهم أدركوا هذا وأدركوا أن لا طاقة لهم بمعالجته (النص الشعري) فاتجهوا إلى الإغماض. وكان من ذلك أنك تقرأ فلا تخرج من قراءتك بشيء، وإن جمهرة القرّاء غير متفقين على ما يكون لهم من قراءتهم) (7)‏

    الثاني/ (وقيل لنا إن الغموض مقصود إليه في هذه الألوان الجديدة، وكأن الغموض وليس الإغماض مادة هذا الفن، وأطلقوا قول الأقدمين في البيان وما يشير إليه وذهبوا إلى أن النص وحده هو الفن وهو الفكر بما يومئ إليه، وليس لك أن تذهب إلى سيرة صاحبه وبيئته) (8)‏

    الثالث/ (إن العبث في الشكل القديم بما وصلت إليه القصيدة أدى إلى ضياع الوزن وفصم عرى أوصال الكلام، فأنت ترى الكلمة قد قُطِعت عمّا يأتي بعدها من أجل أن يكون في هذا المقطع استواء لنظم جديد) (9)‏

    الرابع/ (إن المادة اللغوية في هذا النهج الجديد على طرف الثُّمام (الضعف) من القارئ) (10) وهذا يعني قلّة زاده اللغويّ واطلاع الشاعر الحديث على تراث أمته لأنه لا يمكن أن يستغني عن أصوله اللغوية.‏

    وعلى ضوء هذا فإن القارئ (لا يدرك غرض الشاعر في قصيدته أو مقطوعته أو نثريته. والقارئ ممتحن في هذا لا يستطيع أن يلمح شيئاً من غرض، فقد يكون الشطر مشيراً إلى معنى، ولكن جملة الأشطار لا تشير إلى غرض)(11) ويزيد قائلاً: (أنت في كثير من نماذجهم لا تهتدي إلى معنى واضح ولا تقف فيها على شيء من حسن البناء، ولم يُلتفت فيها إلى ما يمكن حمله على القافية) ويضرب في ذلك مثلاً بقول أحدهم: ـ (12)‏

    (الثلج/ يسقط حراً وخفيفاً/ ويذوب على أحجار الشارع/ أسود/ لم تغتسل الأحجار به/ لم تغتسل المرأة به/ كان الثلج الأبيض/ أسود/ لكن المرأة في بهجة أمسية الأحد/ المرأة تسرع في خطوتها/ المرأة تحمر قليلاً/ المرأة تلتفُّ بمعطفها أكثر/ وتسير إلى موعدها/ أسرع/ تحت الثلج)‏

    فيعلق قائلاً: (ماذا يخرج أهل الفطنة والذكاء من النقاد والدارسين من حديث الثلج الأبيض والمرأة تغتسل به وتخرج هي من صفاتها كيت وكيت؟ إن كان هذا من حديث الرمز والإيماءة إليه، فمن ذا يفكُّ هذا اللّغز؟!).‏

    لقد تعاونت عوامل خارجية وأخرى داخلية على تبريز الغموض ظاهرة واضحة في شعرنا العربي الحديث فشكّلت هذه الظاهرة عائقاً دون فهم النصّ الشعري من قبل متلقيه ولم يختلف القارئ العادي عن الدارس في هذا وإن حاول الدارسون إعطاء بعض المبررات مما خلقت هذه المبررات إساءات في تفسير النص الشعري، اختلفت منطلقاتها حسب قناعة الدارس (الناقد) مما زاد سوء الفهم عند المتلقي العادي الذي حاول أن يشدَّ نفسه كي يتذوق الشعر الحديث أو يفهمه. وهذه العوامل هي:‏

    أ ـ الخارجية وتتمثل في (المذاهب الأدبية/ الحداثة الشعرية/ شعر الغرب المترجم)‏

    1 ـ المذاهب الأدبية: ونقصد بها ثلاثة مذاهب أثرت في الشعر الغربي وتأثرنا نحن في هذه المذهبية وهي: (الرمزية والسوريالية والدادائية) وجدت في الغموض مرفأ تستقر عنده، فكانت الرمزية تشد الشعر الغنائي من خلال الرمز الذي يعني الإيحاء، أي الاعتماد غير المباشر على النواحي النفسية المنتشرة التي لا تقوى على أدائها اللغة في دلالتها الوضعية، وهو (الصلة بين الذات والأشياء بحيث تتولد المشاعر عن طريق الإثارة النفسية لا عن طريق التسمية والتصريح) (13). فأوغلوا في استخدام الخيال على أنه حقيقة ولكنهم حرصوا على موسيقية الشعر. وعندما ظهرت نتائج نظريات علم النفس كان لتأثيرها ظهور السوريالية من خلال دراسة العوامل النفسية المؤثرة في السلوك البشري والتي يطلق عليها "العقل الباطن أو اللاوعي" ولذا أتخذ شعراء هذا المذهب ذلك العقل منبعاً لشعرهم. فتجاوز السورياليون الرمزية خيالاً إلى ما وفق الواقع ولذا أثّر السوريالية بقصيدة النثر التي دعت إليها بعد أن أهملت موسيقية الشعر التي ركّز عليها الرمزيون الذين تزعموا الدعوة في الشعر الحر(14).‏

    ولم تكن السوريالية وحدها في ساحة الغموض فقد زامنتها "الدادائية" برؤية ترى (أن الواقع كان مُحيراً وغير مترابط حداً لا يمكن عرضه أو تقديمه بمنهجية منظمة. وبالتالي يجب أن ينصب همُّ الكاتب أو الشاعر على الربط المباشر بين مشاعره والكون ربطاً سلبياً استسلامياً) (15) وبذلك أجهضت هذه المذهبية لغة الشعر أو ما تبقى من معنى يربطها بالأشياء دلالة أو تجاوزاً.‏

    2 ـ الحداثة الشعرية: ـ لا نريد في هذه الدراسة تحديد مصطلح الحداثة والآراء التي أدلت بدلوها فيه ولكننا نختصر ذلك بالقول: إن الحداثة رؤية غربية تأثرنا (نحن) بها فأضاع هذا التأثر أصلاً من أصولنا الشعرية، الوزن والقافية في بناء القصيدة العربية. وهذا ما دفع بالدكتور إبراهيم السامرائي إلى القول: (إن غياب الأصل في هذه الحداثة قد عَبّروا عنه في مسألة الغموض في الشعر الحديث، وقد عبّر عن هذا أدونيس في ذهابه إلى إيضاح ما هو "تنافر بين الشاعر والقارئ" وأن "هذا التنافر الذي يشكل أبرز خصائص الشعر الحديث وأكثرها أصالة وعمقاً.." ويستشهد أدونيس بمقولة بودلير الشهيرة: "الجميل غريب دائماً"(16). وتكون نتيجة ذلك الصنيع (أنَّ عامة ما يدخل في نماذج الحداثة قد ابتعد قليلاً حيناً وكثيراً أحياناً عن حدود المألوف من الأعاريض العربية) ولم تقف الحال عن موسيقى الشعر أو إيقاعه بل تجاوزتها إلى اللغة حيث (لزمت معجماً يسيراً من الغطاء اللغويّ الذي لا يخرج عما يسود في الصحف مما تلوكه الألسن. ولعله أحياناً قد قرب من العامية بل صالحها، ولم تصل إلى تفصيحها ثمَّ وصل هذا الحشد اللغويّ موزوناً حيناً في بعض أجزائه وهارباً من الوزن عن عمد عند في أحيان كثيرة إلى لون آخر من منثور الكلام دُعي تجاوزاً "قصيدة النثر") (17) فكانت محصلة ذلك أن ترك (شعراء الحداثة جانب المعنى للناقد والقارئ يلمحانه لمحاً. وقد يضل البصر أو تضل البصيرة وبدا كأنهم اهتموا على استحياء باللفظ ونظمه على هيأة مخصوصة تومئ إلى الإيقاع) (18) وكان ذلك عند شعراء التفعيلة، أما مَنْ كتب قصيدة النثر فإنه بَعُدَ بنصه عنه مكتفياً بـ (إيقاع الجملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور وطاقة الكلام الإيحائية والذيول التي تجرها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتلونة المتعددة، هذه كلها موسيقى وهي مستقلة عن موسيقى الشكل المنظوم، وقد توجد فيه وقد توجد بدونه) (19). فهل ننتظر وضوحاً بعد ذلك؟!‏

    3 ـ شعر الغرب المُترجَم. تعني الترجمة (أن ننقل نصاً من ثقافة إلى أُخرى، ومن منظومة أدبية معينة إلى منظومة أخرى، إنها إدخال نص في سياق آخر... وإذا حاول أن يذوب في النتاج الأدبي للبلد المُترجَم لـه أو المستقبل، فإنه سيكون دائماً أدباً مستورداً وقطعة دخيلة ضمن المنظومة الأدبية التي تستقبله أو تمحي أصله الأجنبي) (20) وهذا الأمر في صعوبته يعود إلى (خلق لغة مستقلة يكون فيها الدال والنظام النحوي حاملين لمعنى) (21) ذلك أن لكل لغة أسلوبها الذي تتراكم فيه الاستعارات والإبدالات وعطف البيان والتقديم والتأخير فإن تمكن المُترجم في النثر فإن الأشكال يكون في الشعر حيث تشخص تجربة الشاعر تصوّرها لغته يكون نقل النص عملاً قد يجانبه الصواب لاختلاف الدلالة والمعنى المراد تصويره فيه وتصبح ترجمة الشعر دون الإحساس بلغته ألفاظاً مرتبة على أشطر، فإن قرأها الشاعر المحدث تصوّر أن الشعر يكتب هكذا ناهيك عن الإيقاع الذي لا يتمكن منه المترجم.‏

    وفي هذا يقول الدكتور عز الدين إسماعيل (22): (إنَّ الشعر غير قابل للترجمة، لأنه إنما كان شعراً في لغته وبلغته، ولغته قيمة غير منفصلة عنه. وفردية اللغة لا تسمح بنقلها إلى لغة أخرى نقلاً مساوياً كما هو الشأن في اللغة العلمية ذات الصبغة العامة) وتؤكد الناقدة نازك الملائكة بقولها: (إن مادة شعرنا وحياتنا العربية أغنى وأخصب من مادة الشعر الأوربي) (23) ولكن هوس المُترجَم عن الغرب دفع بالشعراء المحدثين إلى توجيه قراءاتهم الشعرية نحو الشعر المُترجَم دون الاهتمام بالأصول الشعرية في دواوين الشعراء العرب مما خلق المكتوب الشعري غامضاً عند هؤلاء حال دون تلقيه.‏

    ب ـ الداخلية: ـ وتتمثل في (اللغة/ الشاعر/ البناء الشعري/ قارئ الشعر)‏

    1 ـ اللغة: ـ قيل إن (لغة الشعر المعاصر لغة تتجسم في الوجود وتتحد به. والقدرة على خلق مثل هذه اللغة تتفاوت بين الشعراء ولا يتكون مصطلحه الشعري إلا بعد كثير من المعاناة والمثابرة) (24). ويعلق الدكتور إبراهيم السامرائي عنها فيقول (25): (إن اللغة في شعر الشعراء الجدد مادة اكتسبت طرافة وجدة وربما كان لهم دلالات جديدة لألفاظ قديمة، فقد توسعوا في المجازات والاستعارات) وميزة هذه اللغة (أنها لغة مُصَفاة ومُركّزة، فلا تسمح للشاعر باستخدام اللفظ إلا أن يكون هو اللفظ الذي يحمل أكبر طاقة من الفعالية في السياق. أما الألفاظ التي تأتي حشواً وقوالب التعبير التي تأتي إسعافاً فلم يعد لها مكان في هذه اللغة) (26) وشرط اللغة ذات الطاقة الشعرية أن تكون مصفاة ومركّزة على وفق هذه الرؤية المعاصرة. فإن كانت اللغة (عنصراً من عناصر الشعر المهمة ـ عند شعراء الحداثة ـ فلابد للشاعر أن يسلك فيها مسلكاً خاصاً ليستطيع فيها أن يؤدي المعاني بطريقة تختلف عنها في ما عدا الشعر من فنون القول) (27) وتكمن أهميتها أنها تنقل الأثر من المبدع إلى المتلقي من خلال (أداة الشعر الألفاظ أو الأصوات وهي السبب في كون الصور المُوحَى بها عند القرّاء تختلف من قارئ إلى آخر، لأنها لا تنقل الأشياء نقلاً حرفياً طبق الأصل وإنما هي إيحاءات تتأثر فيها مخيلتنا.‏

    وبتحليل الشعر يتبين أن جزءاً من حيويته مرده إلى تلك الصور الحسية الموحية) (28) ويشكل هذا الصنيع غموضاً إن لم يتمكن الشاعر من اللغة.‏

    فإذا سألت أهل الحداثة عن التصاق الغموض بشعرهم لقالوا لك (إن البساطة العميقة والغموض كلاهما شديد المساس بجوهر الشعر الأصيل. ومن ثم يمكننا أن نقول أن القدر الأكبر من الشعر القديم يغلب عليه طابع الوضوح والسهولة لأنه يستخدم لغة محددة الأبعاد، منطقية، لا يميزها عن لغة النثر إلا ما فيها من ارتباط بالأوزان العروضية. إنها حقاً تعرف الاستعارة والمجاز ولكن في صورة جامدة يندر فيها الابتكار والأصالة) (29)‏

    2 ـ الشاعر: يفترض في شعر الحداثة أن يكون (الشاعر هو الذي تتطور على يديه اللغة وهو الذي يَمدُّ الألفاظ بمعانٍ جديدة لم تكن لها) (30) ولذا قيل (إن الشعر العربي قد تطور تطوراً حاسماً، فينبغي أن نتذكر أن الشاعر نفسه قد تطور من حيث تكوينه الثقافي ووعيه بأهمية عمله، ولم تعد القصيدة التي يكتبها مجرد أداة لإزجاء وقت الفراغ أو تصوير للمشاعر أو الأحاسيس، بل أصبحت القصيدة وحدة في بنية متكاملة تمثل حياته ومغامراته الإنسانية في سبيل استكشاف الحقيقة) (31) وتطوره هذا فلا بدَّ أن يكون متساوقاً مع متغيرين لا مناص لـه منهما إن أراد لقصيدته أن تفهم: الأول تطور ذاته من الداخل والقدرة على أن يخرج من قوقعتها حتى يشارك الآخر في رؤية الحقيقة ومن ثمَّ القدرة على تصويرها إليه. وفي هذا يذهب (توماس ستيرن أليوت) إلى رأي (من أن الشاعر كلما ازداد نضجاً ازدادت قدرته على الخروج من إطار مشاعره الذاتية إلى الإطار الموضوعي) (32) والثاني تطور القارئ أو المتلقي فرداً كان أم جمهوراً على فهم الشعر أو تذوقه وهذا لا يحدث إلا إذا تطور مجتمعه تطوراً يتناسب وثقافة الشاعر حتى يتمكن من أن يفهم ما يقال وألا يصبح الغموض رياحاً شديدة هبوبها فتقلع برسالة الشاعر (القصيدة) بعيداً عن أذن المتلقي، فإن سمع شيئاً فإن سماعه يكون صوتاً لا معنى لألفاظه إن أراد لشعره أن يكون ذا قيمة تؤثر في الآخر (المتلقي) وبالتالي يكون الشاعر فوق متلقيه لغةً أو تضميناً لأسطورة أو إيحاءاً يرمز مما يخلق حالة من الغموض تنأى بالنص الشعري عن الجمهور.‏

    3 ـ البناء الشعري: ـ يفرق د. عز الدين إسماعيل في البنية الشعرية للقصيدة بين الإبهام والغموض. فيرى أن هناك فرقاً بينهما في الغرب ويستشهد بـ "أمبسون" في كتابة "أنماط سبعة من الإبهام" الذي يرى أن الإبهام (صفة نحوية أساساً أي ترتبط بالنحو وتركيب الجملة، في حين أن الغموض‏

    صفة خيالية تنشأ قبل مرحلة التعبير المنطقية، أي قبل الصياغة اللغوية النحوية..) (33) ويضرب إلى ذلك مثلاً يقول الفرزدق ـ وإن لم ينسبه إليه ـ:‏

    وَمَا مِثلُهُ في النَّاسِ إلا مُمَلَّكا * * * أبو أمِّهِ حَيّ أبوُهُ يُقَاربُه‏

    فيقول: (إن البيت ليس غامضاً ولكنه مبهم، لأن المشكلة الأساسية فيه لا ترتبط بالخيال أو بشيء منه، وإنما هي قبل كل شيء مشكلة لغوية قائمة في طبيعة التركيب اللغوي نفسه. وفهم البيت يتطلب منا حل مشكلة هذا التركيب اللغوي لا أكثر ولا أقل. فبمجرد أن نحدد عائد الضمائر في هذا البيت تكون كل المشكلة قد حُلّتْ، ويكون المعنى قد اتضح تماماً)‏

    ومعنى هذا البيت كما يقول ابن الأثير/ ت 637 هـ في كتابة المثل السائر (34): (وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مُملكا أبو أمِّه أبوه) ويضيف قائلاً: (وعلى هذا المثال المصوغ في الشعر قد جاء البيت مشوهاً كما تراه) وهو يدرج هذا البيت شاهداً في موضوع "المعاظلة المعنوية" ويقصد بالمعاظلة (أن يقدَّم ما الأولى به التأخير) (35) وإن عدَّ الدكتور عز الدين إسماعيل الإبهام غموضاً بقولـه: (إن هذا يدعونا إلى التفكير في نوعين من الغموض ينبغي التمييز بينهما حتى لا يختلط علينا الأمر فنجعل الرأي الواحد في أحدهما ينسحب تلقائياً على الآخر) وعذره في ذلك أننا (نستخدم في الأغلب لفظة الغموض ونادراً ما نستخدم لفظة الإبهام) (36)‏

    وإذا تجاوزنا التفريق بين الغموض والإبهام وأثر ذلك في عدم فهم النص الشعري عند القارئ فإن هناك عائقاً في بناء القصيدة العربية الحديث عما ألفته أذن المتلقي يحول دون فهم الشعر لأنها تمتلك وحدة في البناء أو الموضوع في حين أن القصيدة العربية القديمة تقوم على تعدد الأغراض واستقلالية البيت الشعري وينعكس ذلك على طبيعة فهم الشعر ذاته عند الجمهور المتلقي ناهيك عن إيقاع البيت في القصيدة القديمة وبالتالي فإن الشعر في نظرة المعاصرين (تجربة وفي نظرة القدماء صناعة. وهو فرق بالغ في القيمة من حيث أن جماليات التجربة تختلف اختلافاً شنيعاً عن جماليات الصنعة) (37) وهذا يعني أن (النظرة الحديثة توحد الأساس الجمالي للغة والتجربة الشعرية وتمزج بينهما، وتنظر إلى اللغة من حيث هي كائن لـه شخصيته، في حين يغلب على النظرة القديمة تصور جماليات اللغة منفصلة غالباً عن التجربة، بل لم يكن هناك اعتباراً لهذه التجربة). ولهذا يلجأ الشاعر الحديث في تصوير تجربته من خلال التعبير الدرامي معتمداً في ذلك على الحوار الداخلي (المونولوج) الذي يعتمده الشاعر من خلال السرد حيث يكون الشاعر راوياً وكأنه يغرينا بصوت جديد أو يضمن شعره بأسطورة أو حكاية كما صنع السياب في قصيدته (رؤيا فوكاي) وغيرها.‏

    وقد يوقعنا هذا التعبير الدرامي في الغموض دون أن نفهم المراد فيقول أدونيس: ـ "ينبغي أن أسافر في جنة الرمادْ/ بين أشجار الخِفْيَة/ في الرماد الخواتمي والماس والجزة الذهبيةْ/ ينبغي أن أسافر في الجوع، في الورد، نحو الحصاد/ ينبغي أن أسافر، أن استريحْ/ تحت قوس الشفاه اليتيمةْ/ في الشفاه اليتمية في ظلها الجري/ زهرة الكيمياء القديمة) وهذا ما دفع بأستاذنا د. إبراهيم السامرائي إلى طرح عدة أسئلة عن هذا النص. فقال ـ رحمه الله ـ: (أقول متسائلاً: هل من يدلني على طريق أصل فيه إلى إدراك هذه الكلمات التي بدت لي كأنها ضلت الطريق إلى حقائقها؟ فما المراد من (هذه الزهرة الكيمياوية)؟ وأين تكون في سفر المؤلف في (العدم) أي (جنة الرماد)؟ وكأن الرماد ليس العدم بل هو الخواتيم والماس والجزّة الذهبية. كيف تكون هذه الأجزاء التي يأبى أحدهما الآخر مجموعة في الرماد؟ وكانَ على المؤلف أن يدلّ على "الجزّة" التي لا يعرفها جمهرة قرائه.) (38) ولكن هذا الغموض لن نجده في قصيدة (ليس لنا) للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي حيث يقول (39): (كان الطريق مشمساً إلا مواطئ الشجر/ حيث انحنى الأطفال يجمعون ساقط الزهر/ وثمَّ عصفور على غصن بعيد يرسل الصفير/ والناس موكب يسير صامتاً بجانب الجدار/ يَضِيقُون في وجه الهجير/ وأقبلت سيارة تمشي على مهل/ مذياعها مازال يشتكي الهوى/ أما أنا.. فكنت أشكو الجوع/ في مطلع الربيع).‏

    4 ـ قارئ الشعر: ـ وهو يُسمّى المتلقي، وهذا المتلقي قد يكون القارئ العادي وإن تعدد وجود أو تجاوز المعدود إلى الكثرة من القرّاء وهو الجمهور الذي يجد في الشعر راحة، ولكن ما يطلبه هؤلاء القرّاء قد لا يجدونه فقد يعود ذلك إلى الشعر حيث (لا يستخدم اللفظ المعتاد بدلالته المحددة التي نتعلمها، أو لا يستخدم اللفظ بدلالته التي نقصدها حين نستخدمه في حياتنا اليومية. ثم إنه لا يفسر لنا الأشياء تفسيراً منطقياً يقبله العقل. ومن ثمَّ فإننا نصف الشاعر بأنه غامض والحقيقة أننا لا نحكم عليه هذا الحكم إلا لأننا منطقيون، ولأننا اعتدنا أن نتعامل باللغة في وضوح) (40) وهذا ما يصنع الغموض حسب زعم قارئ الشعر أو من وجهة نظره لأنه يريد من الشعر الوضوح ومن اللغة الدلالة المباشرة، فإن حدث ما يخالف هذا الصنيع كان التلقي متعثراً لأن (الشاعر يدرك الأشياء إدراكاً أبعد مدى مما نصنع وهو لذلك لا يجد في لغتنا الناجزة من الألفاظ وصور التعبير ما يشرح به هذا الإدراك في دقة وإتقان) وبالمقابل فإنَّ من الخطأ مطالبة الشاعر نفسه بشرح شعره. وقد يلجأ البعض من القرّاء إلى تحويل النص الشعري إلى نص نثري عن طريق الكلمة معناها (فهؤلاء يخلطون بين الآراء العامة والمتعة المباشرة التي يثيرها العمل الفني. إنهم يفهمون العمل الفني على مرحلتين، فلا يتذوقون القصيدة من حيث هي شعر تذوقاً مباشراً ولكنهم يترجمونها إلى النثر أولاً، ثم يفهمونها ويتذوقونها ويحكمون عليها أخيراً من خلال هذا النثر.. وبذلك يخلص في أيديهم من العمل الفني (القصيدة) طائفة من الألفاظ لها معانيها العادية وتؤدي في مجموعها معنى ما) (41) بعيداً عن تجربة الشاعر أو موسيقية الشعر وبذلك يسقط القارئ في الغموض لأنه نأى بنفسه عن القصيدة وحوّل الشعر إلى نثر. وفي هذا يقول بول فاليري: (إن إعادة الحكم على الشعر بحسب النثر وبحسب وظيفته، وتقويمه على أساس من كمية النثر التي يشتمل عليها جعلت الذوق العالمي يصبح شيئاً فشيئاً نثرياً) (42) ومَثّل هذا عائقاً دون فهم الشعر، فكان غموضاً صنعه القارئ العادي بنفسه دون أن يعي إلى مواصفات النوع الأدبي. فضلاً عن أن (الشعر المعاصر عدو النثرية، وعدو القوالب الجاهزة، وإنه يتوخى اللغة المُركّزة المصفاة.. ) كما يقول أحد مناصريه (43). ودون أن ننسى قول ابن طباطبا: (الشعر كلام منظوم بان عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خُصَّ من النظم) (44) وإذا كان الغموض ظاهرة اقترنت بالشعر الحديث ووضحت عند من يقرأ هذا الشعر أو يحاول أن يتذوقه فإنَّ ما يطمح إليه تعوق هذه الظاهرة من تحقيقه. ولذا حاولت دراسات الحداثة أن تخفف من هذا التعويق فقالت بنظرية المتلقي التي تُعنى(أساساً بانعكاس العمل الأدبي على المتلقي أو القارئ وبعمليات التوصيل، فالكتابة بنظر بعض الباحثين تبقى عملاً منقوصاً إن أهملت ظروف التقبل والتلقي) (45) وعذرها في ذلك أن متعة الكتابة تظل (غير مكتملة إذا عجز القارئ عن فهم النص والتفاعل معه واكتشاف مغزاه) (46) ولم يفت القدماء ما لأثر الفهم في إزالة الغموض فيقول ابن طباطبا: (وعيار الشعر أن يُورَدَ على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مَجّهُ ونفاه فهو ناقص) (47) والنقص غموض.‏

    إن الاهتمام بالمتلقي وتحميله عبء فهم النص يتضح في الاتجاهات التي عرفت بما بعد البنيوية حيث يكون (دور المتلقي في بناء المعنى وإنتاجه وتغذية التحليل اللساني بمرجعيات ذاتية قائمة على فعل الفهم) أمراً لابدَّ منه (فكان الاهتمام بالقراء والقارئ شاغلاً للكثير من الدراسات المبكرة لفرجينا وولف عن القارئ العادي، ودراسات الاتجاه المعروف بنقد استجابة القارئ ودراسات الاتجاه البنيوي التي اهتمت بعملية القراءة ولاسيما (تودوروف ورولان بارت) (48) حتى إن دعاة الحداثة قسّموا العصر الأدبي الحديث إلى (ثلاث لحظات: لحظة المؤلف وتمثلت في نقد القرن التاسع عشر (التأريخي، النفسي، الاجتماعي) ثمَّ لحظة (النص) التي جسّدها النقد البنائي في الستينات من هذا القرن وأخيراً لحظة (القارئ) أو المتلقي كما في اتجاهات ما بعد البنيوية ولاسيما نظرية التلقي في السبعينات منه) (49) وصار التلقي مشكلة (هي مشكلة قراءات متعددة كانت قد جرت على عمل أدبي) (50) ونُظِر إلى التلقي (على أنه امتلاك فعّال لشكل يبقى ديناميكياً "حركياً" ومُشَكِّلاً على الرغم من كونه مُشكِلاً يتطلب ليس استبدال مفهوم بمفهوم آخر، ولكن نقل التفكير نحو أفق آخر مثل الأفق الذي يعتبر الفعل النقدي (القراءة) حواراً بين شعورين، وهذا ما يؤدي إلى طرح مسألة قراءة نص ومسألة موقف القارئ الناقد في مواجهة هذا النص) (51) دون أن ننسى دور المتلقي الذي اعتبره (جاكوبسون) عنصراً مهماً في كل حدث لغوي من حيث علاقته بالرسالة (فهو يرى أن كلَّ حدث لغوي يتضمن رسالة وأربعة عناصر مرتبطة بها هي: المرسل والمتلقي ومحتوى الرسالة و(الكود) أو الشفرة المشعلة فيها.. ولكي تعمل هذه الرسالة عملها لابدَّ لها من سياق تندمج في إطاره، كما لابدَّ من افتراض "الشفرة" التي يَحِلُّ المرسل إليه الرسالة على أساسها) (52) مع التنبيه على أن اختلاف الأنواع الشعرية ـ عند التحليل ـ (يتصل بوظيفة كل منها وغلبة نوع من التوجه النحوي له، فالشعر الملحمي مثلاً يتركز على ضمير الغائب وهذا يعني إبراز الوظيفة الإشارية للغة، أما الشعر الغنائي فيغلب عليه ضمير المتكلم مما يجعله ذا صلة حميمية بالوظيفة الانفعالية العاطفية، كما أن هناك الشعر الموجه للمخاطب) (53). وهذه الأنواع المدروسة هي غربيَّة لأننا لا نملك منها إلا الشعر الغنائي ولا نحتاج إلى ذلك العناء ونحن نحمّل القارئ الواعي (الناقد وليس غيره) مهمة تحليل رسالة المرسل بعد إعلان موته في الدراسات البنيوية وقد أُهمِلت موسيقية الشعر بحجة "ليس بالموسيقى وحدها يقوم الشعر" كما يذهب إلى ذلك د. صلاح فضل. (54) فإن استغلق الفهم على المتلقي عند قراءة الرسالة (النص الشعري) اعتذر دعاتها قائلين: (الإبهام واللبس من أهم خصائص الرسائل المُركّزة في نفسها وأولها الشعر، ولهذا فإن اللبس يكمن في جذور الشعر ولا يقتصر على الرسالة بل يشمل المرسل والمرسل إليه فضلاً عن (الأنا) أي البطل الغنائي أو القصصي و(الأنت) المرسل إليه المفترض في الحوار الدرامي وكلها شخصيات يعتبر الإبهام أو عدم التحديد جزءاً مكوناً من طبيعة وظائفها الفنية) (55) وبذلك تقف مناهج الحداثة عاجزة دون فهم الشعر عند المتلقي وينسحب ذلك على الجمهور (لأن في الأدب أو في التأريخ الثقافي، لا وجود للفرد المعزول) (56) وترفض (حصر المعنى بالنص وتميل إلى الاعتقاد بأن القارئ هو الخالق الحقيقي للمعنى) (57) وبذلك وضعته تحت المراقبة المختبرية تحت لافتة جمالية التلقي التي (نبذت ما هو محدد سلفياً لا لرغبة في المغايرة وإنما لأن الأمر مرتبط بفلسفتها الرامية إلى نبذ المعرفة المتصلة بالذهن سلفياً والتعويض عنها بعلاقة حوارية تهدف إلى استقراء ما يحدث للقارئ وهو يتلقى النص، وكيف يصل بنفسه إلى حلقات المعرفة وطبقاتها) (58)‏

    وعلى ضوء ما تقدم فإن ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث تكون ملازمة لـه لأنَّ هذا المُجدّد فيه حطم قيدي الوزن والقافية وتجاوز البيت الشعري الذي يمثل ركيزة في القصيدة العربية القديمة إلى وحدة موضوعية في بناء النص الشعري الذي اعتمد الأشطر التي قد تطول أو تقصر أو تُدَّور مما يخلق إرباكاً في ذهن القارئ أو المتلقي ناهيك عن فقد الموسيقى أو الإيقاع الذي يشدّ المتلقي إليها بحجة أن المتعة تكمن في القراءة وأن خطابية الشعر القائمة على الإنشاد لا تتلاءم والعصر الحديث والغرض من ذلك إشراك القارئ أو المتلقي بفهم النص الشعري واكتشاف جماليته بنفسه. ولا يقصد بالمتلقي العادي، لأنه لا يمتلك أدوات التحليل، فإن امتلكها فإن ما يتوصل إليه قد يختلف عما وصل إليه القارئ الآخر وبذلك يتفاوت الفهم. وبالمحصلة تختلف الأحكام النقدية حتى وإن اتبعت إحصاءات تمكنها من تحويل الشعر إلى حسابات ألفاظ تبني عليها ميل المرسل إلى هذا الاتجاه في الدلالة أو نأى عنها إلى اتجاه آخر. وبذلك تبقى إشكالية توصيل النص قائمة لأن المرسل نفسه يعيش هذا التفاوت. يقول (وليم هنري أدون/ 1907 ـ 1973): (إن الفرق بين شاعر دون المستوى وشاعر عظيم يكمن في أن الأول يذكّرنا كيف نشعر بشأن كثير من الأمور. أما الثاني فهو يجعلنا ندرك لأول مرة كيف نشعر اتجاهها) (59)‏

    فإذا أضفنا إلى ذلك لغة الشاعر التي تجد في المجازات اللغوية والاستعارات البلاغية ملاذاً آمناً يقيها من غياب الصورة الشعرية التي تساعد المتلقي على الفهم كان الغموض يلف المتلقي، وقد يخلق الشاعر دلالات جديدة للألفاظ بزعم تفجير اللغة أو التعبير عن اللاوعي عن طريق التداعي، يكون المتلقي عند ذاك قد انغلقت أمامه أبواب الفهم وعذر الشاعر في ذلك تصوير تجربته عن طريق الإيحاء أو الرمز الذي لا يعرف المتلقي بعضها فيكون المقروء طلاسم تحتاج إلى مفكِّ يترجم المقصود، هذا إذا بَعُد عن الإبهام الذي يصاحب بناء الجملة إن كان الشاعر يفجر لغته ـ حسب ما يدعي ـ وقد غادر معجز اللغة التي يكتب شعره إلى أهلها وقد وجد في المذاهب الوافدة من الغرب ومنها الرمزية والسوريالية والدادائية متكأً يستند إليه في كتابة القصيدة الحديثة. فإن اطلع هذا المرسل على نماذج من الشعر الأجنبي الذي يقرأه مترجماً إلى العربية على شكل أو هيأه الأشطر، فإنه لا يسأل نفسه أن الشعر إحساس باللغة قبل أن يكون ألفاظاً تعانق الواحدة الأخرى وكنت متأثراً في المترجم فإنَّ القارئ يحط ركابه مستريحاً عند الغموض. وقد يكون الشاعر مبدعاً والقارئ المتلقي دونه وعياً وقدرة طاقته الإبداعية ـ وإن كانت هذه الحالة قليلة ـ فإن الغموض يكون ملاذاً آخر. إن بناء النص الشعري الحديث لابد أن يغاير القديم لكون القديم وجد في الغنائية أرضاً خصبة تشدُّ القارئ إلى هذا الشعر. أما النص الحديث فقد يخرج عن هذه الذاتية إلى الوجود وتكون لـه عند ذاك رؤية فلسفية قلما بنى عليها الشاعر العربي القديم قصيدته فيصبح الغموض أمراً لا مناص منه، وإن كانت القلة من القراء معه. لأن (الشاعر يجعلنا نعي أحياناً وللمرة الأولى بالوجود الفعلي لأمور هي من خصائص عصر معين) دون أن نهمل دور القارئ الذي وجه إليه النص، فإنه يرى فيه متعة عندما يتمكن من تحليل تركيبه الفني. ولم تكن هذه المشاركة إلا انعكاساً لتطور القارئ في العصر الحديث بفعل التقدم العلمي الذي يؤثر فيه كما أثّر في الشاعر نفسه تجربة ووعياً ولكن ذلك لا يتم على حساب اللغة أو البناء الفني للقصيدة الشعرية وعذره في ذلك إبعاد الغموض عن المتلقي والنزول بالنص الشعري إلى الوضوح التام أو التقريرية المباشرة مما يدفع بالشعر إلى السقوط في النثرية فيكون فهم المتلقي على حساب الشعر.‏

    لقد عملت الواقعية الاشتراكية على إلزام الشعراء بالمشاركة في توعية الجمهور ولكن صنيع تلك المذهبية الجامدة حال دون إبداع شعر خالد لأن ما يفرض على الشاعر أن يقوله يكون خارج ذاته بمسافة زمنية بعيدة إن أريد قياسها وبالتالي فإن النص الذي يفقد صدق التعبير عن الذات لا يخاطب جمهوراً قدر ما ينافق هذا الجمهور ومن ثمَّ فإنه يعجز عن رفع وعي الجمهور إلى مستواه، فتظل هوة تفصل بينه وبينهم إن هو كتب نصاً بمستوى الوعي العادي مع ملاحظة متغيرات العصر التي تبتعد عن خطابية النص وفيه يتم التحول من الإنشاد إلى القراءة، ومن القراءة إلى التحليل غير متناسين أن النص الشعري صادر من الشاعر وهو مرسل إلى الجمهور كونه مُتلقياً يفترض فيه الاستواء عند خط الإرسال مع الشاعر ذاته وألا يتكرر الخلل عند التلقي ونصنع الغموض مرة أخرى.‏

    هذا التلقي يكون على مستويين: ـ الأول/ القارئ العادي والثاني القارئ الواعي. ويتمثل في الأول الفرد أو الجماعة حيث يؤثر الغموض في اتجاهاتها القرائية بأن تعزف عن قراءة الشعر لأن المقروء غامض غير مفهوم. فإن تعاطفت معه حاول المتلقي أن يعتمد أو يستعين بناقد يوضح لـه الغامض من النص الشعري، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً تتحول رغبته إلى النوع النثري (الرواية على سبيل المثال لأنها قصة تفهم) فإن احتاج الشعر فإنه يعقد صلة فهم مع المقروء العامي لأنه يجد فيه وسيلة واضحة في الخطاب. فإذا رغب دون ذلك وامتلك شيئاً من اللغة استعان بالنثر لتفسير الشعر محاولة منه لفكّ الغموض.‏

    أما الثاني وهو القارئ الواعي أو الذكي ذاته النقد أو التحليل فإنه لن يكون على وعي واحد لاختلاف الثقافة والذكاء، فإن حاول أن يتجاوز الغموض تحليلاً فإنه لابدَّ أن يقع في هوة التباين بين ما يطرحه من رأي قياساً إلى رأي الناقد الآخر وهذه الحالة تخلق ما يسمى بـ (سوء تفسير النص) ولذا قيل: (إن عملاً يسمح بتفاسير مختلفة سيكون بعضها متضارباً ولا يمكن أن يقال عن تفسير أنه هو التفسير الصحيح) وبالتالي يعترضنا السؤال (ماذا بقي من فكرة الاتصال؟!) (60) وتصبح عملية الاتصال بنموذج هزيل بين المبدع (الشاعر) والمفسر (الناقد) عائقاً دون الوصول إلى فهم النصّ بعد أن كانت نموذجاً جيداً للعلاقة بين المفسر وجمهوره . ويرى آخر أن هذا التنوع مصدره (سوء الإدراك الذي يسبق سوء التفسير وإن كان كلاهما يعتبران غير مقبولين) (61)‏

    وإذا وجدنا في تعدد التفاسير للنص الواحد إساءة في التفسير ينتج عن الغموض في النص الشعري فإن (ت. س. أليوت) يقول: (إن أيَّ تفسير هو صحيح كالآخر) (62) ويرجع ذلك إلى أن هذا التفسير أو غيره يكون (محتفظاً بإرث وناقلاً لمعرفة) وكان دعاة التفكيكية (التشريحية) يرحبون بسوء التفسير لأنهم يرون أن (ليس هناك ما يدعى بالخطأ) وبالنتيجة فليس هناك في الأصل نص أصيل (63)!‏

    وتختلف الحال في غموض بعض النصوص العظيمة فيرى المفكر الفرنسي (جاك دريدا): (أنَّ مفخرة النصوص العظيمة هو افتقارها إلى التحديد. فالكتابة بالنسبة إليه تتضمن غياب المؤلف وليس حضوره، فهي سجل غير كامل بالضرورة لأفكاره وأغراضه التي يجب أن تركن مقاصد القارئ إليه قبل أن تصبح ممكنة التفسير). وعذره في ذلك (أن القارئ يكتب النص ولكن لما كان القارئ نفسه كائناً غير مستقر وأنه سلسلة من السياقات والأهداف التي تتغير بين لحظة وأخرى فيعدّ ذلك النص ذاته غموضاً لا يمكن تحديده) (64)‏

    وإذا كانت ظاهرة الغموض قد شَكّلت حاجزاً دون تلقي شعرنا العربي الحديث فإن ذلك لا يعني أنها وقف عند شعرنا دون الشعر الغربي بل إنها شملت في الشعر العالمي لاختلاف الشاعر والجمهور، وإن كانت جلية في شعرنا فإن ذلك مرده لتأثرنا بمؤسسة أدبية غربية شعراً وطريقة بناء نص ودراسة ولابد لنا من أن نحمل أمراضها، والغموض مرض من أمراض شعريتها.‏

  2. #2
    الشاعرة إباء ... نقلت نصا عميقا دقيقا لفكرة الغموض الشعري ...

    يحتاج لقراءاتٍ كثيرة .. لا أظن حسب فهمي يخرج عنها الشاعر

    خلاصاتٍ كثيرة .. يعيد حسب ما أعتقد النقاط على الحروف .. وقيمة إمتزاج الفكر و الثقافة و الشمولية و الأوزان بروح الشاعر ليكتب بوحا ذا قيمة يحمل فكرة معاصرة وجدانية أو غيرها من أنواع الشعر .. ليكون الشعر الأصيل و ليس الإغراق بالغموض كهدف إنما ليكون حوار و خيال بين القارئ و الشاعر ...

    ولست مع الشاعر أدونيس .. بشعره بغموض مسرف حسب رأيي البسيط

    غاليتي الشاعرة إباء إثراء آخر للرقمي

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط