http://thawra.sy/_print_veiw.asp?FileName=92251573020100803215736


هـــل القافيـــة والــوزن قيـدان ؟


ثقافة
الأربعاء 4-8-2010م
عبد الكريم الناعم

أن يكون الإنسان عاجزاً، في بعض الحقول، أو حتى في معظمها، فليس ذلك عيباً، لأن هذا العجز صفة في العباد، وهم يمتلكون من القدرات العضلية، والعقلية، والحدوس، مايتفاوتون به.
هذا ليس عيباً، بل الذي يدخل في ذلك الباب أن يدّعي الإنسان أنه خارق في قدراته، وهو غير ذلك.‏

حين يتمكن (ربّاع) من رفع مئة كيلو غرام، كمن يتناول جرعة ما، وأعجز أنا عن رفع عشرين كيلو غراماً.. فإن هذا لايضيرني في شيء، فتلك اختصاصات، وأنا قادر على رفع أوزان أخرى، قد لاتقل عنها، في مقاييسها، في المجال الذي أستطيع الرّبعَ فيه.‏

منذ أن بدأ (الحوار) الذي أصر البعض على نقله إلى خانة (الصراع)، في بعض جوانب القصيدة العربية، فيما نسميه نحن، زمن الحداثة الشعرية، طرحت مقولة إن القافية والوزن قيدان يجعلان (الشاعر!!) يرسف بقيوده، ويحدان من آفاق طيرانه، ولذا لابد، بحسب مقولة القائل، من كبّهما، لنتخلص من القيود المكبلة.‏

إذن نحن أمام مسألة واحدة في كلا (الوزن) و(القافية)، وهي مسألة القيدية التي تحد من القدرة على الحركة.‏

هنا نذكر أن ثمة فرقاً بين (القيد) و(النظام)، السجن قيد، والقمع قيد، والفقر قيد، وكل ماهو خال من الجمال والحق والخير، ويحد من حرية أن تبحث عن التفتح، هو قيد، هي (قيود)، وليست (أنظمة)، لأن (النظام) مأخوذ من «نظم اللؤلؤ» ونحوه: ألّفه، وجمعه في سلك، ومنه نظم الشعر« -المنجد- أي ثمة جمع في سلك ينتظم الحبات، وإذا اعتبرنا نظم حبة اللؤلؤ في سلك لكي تأخذ شكلها الجمالي، والذي لن تصل إليه إلا عبر ذلك، إذا اعتبرناه قيداً، فهو قيد لصالح أن يبرز الجمال في صورة أبهى، وأكثر جاذبية، وأكثر أناقة، وفتنة، إنه (النظام) الذي ينقل حبات اللؤلؤ من البعثرة، والفوضوية، إلى حالة من الرصف الجميل، لا القيد الذي يحد من الحرية، والذي لاانتظام فيه، ولا (نظم)، وهو يحجز الحرية فقط، ربما تحقيقاً لعدالة يتحقق فيها انتظام المجتمع، كتقييد المجرمين بين جدران أربعة، أو طلباً لقمع، كأن تحتجز سلطة ما من يناوئها.‏

(الانتظام) اتساق يتكرر تكرار تلك الزخرفات الإسلامية، بجماليات ألوانها وبدلالاتها والبدء الذي لاينتهي، حاملاً في ذلك شيئاً من مواصفات غير المحدود، دالاً على اقتدار من ألفه، ونظمه.‏

إن الانتظام إبداع، لأنه عكس الفوضى، ولو أن الموجودات المبدعة، من الذرة الصغيرة، حتى المجرات الكبيرة، مروراً بعوالم الجماد والنبات والحيوان،.. لو أنها فقدت شيئاً من فطرتها الانتظامية لتبعثرت جماليات الكون كلها شر مبعثر، ولقد أدرك الإنسان جمالية الإيقاع، في تكراره الجميل، فصاغ إيقاعات الرقص، تلك التي لاتزال موجودة، لابفعالية معروفة فحسب، بل هي (شرط) في الإيقاعية، ومن هنا كانت تنوعات الإيقاع في الضروب، في الموسيقا، وما من موسيقا تخلو من الإيقاع، فإذا اختارت الخروج على ذلك لايعترف بها الموسيقيون المعتبرون، ويبدو أن ذائقة الإنسان العربي فوق هذه الأرض، بحساسية خاصة، قد حملت تلك الحساسية إلى بنية اللغة العربية، والتي قال عنها الدارسون إنها تؤثر المقاطع الصوتية الصغيرة، أي السبب، والوتد، والفاصلة الكبرى والصغرى، وذلك سر إيقاعية هذه اللغة لمن يجيد الإصغاء، ويمتلك حساسية سماع أجراس الإيقاع.‏

سريعاً أمرّ بالذين حاولوا أن يفرقوا بين (الإيقاع) و(الوزن) في الشعر، فاستندوا إلى قول عدد من الفلاسفة العرب المسلمين الذين قالوا: «الإيقاع أعمّ من الوزن»، وهذا صحيح، لأنه يشمل إيقاعات الشعر، والموسيقا، والإيقاعات المجازية، ولكنهم لم يقولوا إن الإيقاع، بتعريفه العلمي، الموسيقي، يمكن أن يوجد دون (وزن)،وهذا ماأثبته بالأدلة التي رأيتها لاترد، ولاسيما في مجال إيقاع الشعر العربي، بسطتها لمن يقتنع بما هو علمي في كتابي «في أقانيم الشعر»، الصادر عن دار الذاكرة، بحمص عام 1991، فليراجع.‏

نصل إلى عنوان السؤال المقصود: «هل الوزن والقافية قيدان، في الشعر».‏

ودون أي مواربة نقول نعم هما قيدان (في الشعر)، ولكنهما ليسا قيداً (عليه).‏


ربما كان هذا الكلام بحاجة لإضاءة شيء فيه، لتخليصه من أي إشكالية، وما سأقوله عاشه كل الذين كتبوا، ويكتبون الشعر الإيقاعي، بوزنه القومي.‏

يُضطر الشاعر لاستبدال مفردة بأخرى، في سياق بناء الجملة الشعرية ليستقيم الوزن، ومثل هذا يقال عن القافية.‏

إن استبدال مفردة بأخرى من أجل الحفاظ على صفاء التدفق الإيقاعي، (قد) يُربك الشاعر ذاته، وربما كان لمفردة بعينها أصداؤها النفسية، وأثرها عند الشاعر، وهذا عائد إلى حساسية تلك الأعماق الشواسع، وإلى مافي الذاكرة الموغلة، الذاكرة الفردية والجمعية، ورغم ذلك فإن هذا الحجر المفردة، قد لايتناسب مع تناسق البناء الشعري، فيضطر المعماري المعلم إلى استبدالها بمفردة هي أقرب ماتكون للموافقة والانسجام، ولا يضحي بنسق البناء، وتآلفه الموسيقي، الإيقاعي، الوزني، لأن حجراً نافراً، ناشزاً، يشوه منظر البناء، فينبو، ويشوه اللوحة، فالشاعر يتخلى بذلك عن حساسيته الفردية لمصلحة ماهو (عام) وجمالي، والذين لايتقنون فن الموازنة، وحُسن المعايرة، والتمييز بين الأشياء يشكون من فقر الذائقة الفطرية، البدئية، وقد يكون مثل هذا الفقر تكوينياً، لاحيلة لهم فيه، فلو أنك أردت أن تدرب من لم يُرزق ملكة الوزن الإيقاعي، مدى العمر، على كتابة الشعر الإيقاعي، فسوف تنقضي الحياة قبل أن تصل إلى تلك البُغية، لسبب بسيط هو أنه لم يُرزق تلك الملكة، فلا يعاب على أبي حيان التوحيدي أنه لم يكتب الشعر، بل يُعاب على من ليس بشاعر أن يدّعي الشعر، والناس يتفاوتون في قدراتهم المادية والروحية والذي ينقل بعض الأمور الجوهرية من حالة ماهي عليه موضوعياً، إلى حالة السلب هو نزعة (الأنا)الفردية المستعدة لقتل كل من يخالفها أويقف في طريقه وتلك السمة الفردية الأنانية، القمعية، الديكتاتورية، والتي يبدأ العالم منها، وينتهي إليها.‏

ليس نقصاً، أوعيباً، أنك لست راقصاً ماهراً، أما أن تنكر جمالية الرقص، وتحيل مافي انضباطه الأدائي، والإيقاعي، إلى عيوب، فهذا مايدخلك مربعات أن تكون قاتلاً ببرودة دم قابيل.‏

جميع الذين يصوغون الذهب، أوالفضة، أويشذبون الحجارة الكريمة، يأخذون المادة الخام، وهي واحدة (اللغة)، فالمادة هي هي، أما الصياغة، فتختلف شكلاً، وزخرفة، وجمالاً، ينتقل من روح الصائغ ليشع في الأثر المبدع، والمميز الماهر، والمؤهل، هوالقادر على رؤية مافي الصنعة من شغل جمالي دقيق، لاتراه إلا عين من كان به خبيراً، بيد أن الجميع يستطيعون التمييز البسيط بين خاتم من الفضة لاشغل فيه، وآخر يكاد يغني لزخرفات الجمال الموجودة فيه.‏

في (القافية) ترتفع درجة حساسية الانتقاء، والموافقة، فهي ليست مفردة فقط، بل محطة نوعية في التعبير، فإما أن نشعرك باكتمال الغبطة، في الموسيقا، والدلالة، وخاصة حين تكون قافية قفلة، أو ختاماً، وإما أن تقترب من الرخاوة، والإقحام، فتأخذ شيئاً من مواصفات النشاز، وتلك أيضاً ميزة أخرى بين الشعراء.‏

أنا أعرف أنني أطلب أمراً بالغ الصعوبة، ممن أعنيهم، فأنا أطلب التخلي عن (الأنا) في أعلى درجات توترها الفردي، لمصلحة ماهو (أجمل) دون التخلي عن الجميل أوإنكاره، وهذه منطقة في العمق، لايبلغها إلا الذين نظفوا تلك الأبهاء الجوانية.‏