النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: القلب البلاغي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965

    القلب البلاغي

    http://uqu.edu.sa/page/ar/16822


    القلب البلاغي وأثره في إبداع الصورة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به ، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه ، وأستغفره ـــ لما أزلفت وأخرت ـــ استغفار من يقر بعبوديته ، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا ? عبده ورسوله . ... وبعد ، فإن موضوعا كهذا ، دفعني للحديث إليكم عنه ما اعتقدته من أن بعضا من الدارسين لم يقف عنده طويلا كفن من فنون البلاغة له قدره ؛ إذ أنه يترك تأثيرا بينا عند المخاطب ، وتعلمون أن مما يقوم عليه فن البلاغة ذلك التأثير ، ولعله من أهم العلوم التي عنيت بالمخاطب ؛ لترسخ فكرة المتكلم وتقوى ، وتبقى أمدا بعيدا متداولة من أول مخاطب سمعها ودونه إلى أن يشاء الله. والقلب ـــ ذلك الذي بين أيدينا ـــ تنوول من علوم أخرى غير علم البلاغة كعلم اللغة ، والنحو ، والصرف ، وعلماؤها يعتمدونه كلبنة من لبنات بناء اللغة . أما من المنطلق البلاغي فإن دراسته تتنوع بين الأبواب الثلاثة لهذا العلم فنراه يدخل مرة في علم المعاني- وذلك ما نحن بصدده.. ومرة في البيان تحت مبحث التشبيه المقلوب، وأخرى في البديع تحت ثلاثة مـبـاحث.

    الأول: في التـخـصــيـص،
    والـثـاني : في غير التجنيس
    والثالث : في مبحث السرقة ( )

    . ومفهومه.. عند دراسته من علمي المعاني والبيان – أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر. " واعلم أنه لابد من تقديم مقدمتين، أحدهما: أن القلب تارة نعني به قلباً لفظياً فقط، وتارة معنوياً. مثال الأول " قطع الثوب المسمار " تعنى به أن الثوب مفعول وترفعه والمسار فاعل وتنصبه، وكل منهما باق على ماهر له من فاعلية ومفعولية، ومثال الثاني " قطع الثوب المسمار، فهذا قلب معنوي لأنك تخيلت الفعل واقعاً من الثوب على المسمار وأسند له على سبيل المجار.. المقدمة الثانية: أن القلب تارة يكون بين الفاعل والمفعول مثل " قطع الثوب المسمار " وتارة بين المفعولين مثل " جعلت الخزف طيناً " وتارة يكون بين المبتدأ والخبر مثل " الأسد كزيد " وتارة بين مفعول صريح وغيره مثل " عرضت الناقة على الحوض " و " أدخلت القلنسوة في الرأس " وتارة بين الشرط وجوابه كما في قول الله تعالى } فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله { ( )وغير ذلك " ( ) وينبغي أن يعلم أيضاً عند دراستنا لهذا اللون البلاغي الدقيق أن الكلام الذي يقع على القلب قد يكون منه التشبيه المقلوب وقد لا يكون " فالأداة والمعنى يفصلان التشبيه المقلوب عن القلب. وبد الصباحُ كأنَّ غرتَّه وجهُ الخليقةِ حينَ يُمتدحُ فقولنا: وقولنا " نور الصباح يخفى في ضوء وجهه " وهو من التشبيه المقلوب وقولنا " عرضت الناقة على الحوض" هو من القلب، فكل تشبيه مقلوب قلب ولا عكس. أما القلب الذي يدرس تحت علم البديع فمنه ما هو من البلاغة كأن يكون معنى الثاني نقيض الأول ، سمى بذلك لقلب المعنى إلى نقيضه كقول أبي الشيص: أجدُ الملامةَ في هواكَ لذيذة حباً لذكرِكَ فليلمْنى اللوَّم ( ) فقلبه المتنبي إلى نقيضه ، قال : أأ حبه وأحب فيه ملامة إن الملامة فيه من أعدائه ومنه ما لا يليق أن يوضع تحت ذلك الباب الذي ضمن بدائع حسن الكلام. فمن ذلك قول الأرجاني : مودتُه تدوُمِ لكُلِّ هولٍ وهل كلٌّ مودتُه تدوم وإذا كان للبيت معنى، وقد وقع على القلب الذي إن بدأته بالميم الأخيرة إلى أوله وجدت الحاصل هو الموجود أولاً " إلا أن هذا النوع فيما ترى مع ما يستدعيه من جهد شاق وتعب ناصب في اختيار المفردات الذي يتأتى منها هذا العكس حلية عاطلة وصناعة باطلة لا يستدعيها حال ولا تقتضيها بلاغة " ( )خاصة وأن القلب حين يكون في التشبيه أو في معنى مقلوب، ليعطي دمجاً في الحالين فمبالغة، على النقيض من ذلك، " فأحرى به أن ينحى عن هذه القلادة ولا ينظمَ في شكلها " ( ). وقد وردت أمثلة للقلب البلاغي من القرآن الكريم والحديث الشريف ( )، والكلام العربي الفصيح. فمنه قوله تعالى :} إنما البيع مثل الربا { ( )وقوله تعالى } ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة{ ( ) ومنه قول محمد بن وهيب : وبدا الصباح كأن غرته وجهُ الخليقة حين يمتدح ومنه قوله : " عرضت الناقة على الحوض " ( ) وللعلماء في إثباته ورفضه مذاهب ،وهم بين نحويين وبيانيين يقول السبكي " حكى النحاة فيه أقولاً . أحدها: أن ذلك يجوز في الكلام والشعر اتساعاً لفهم المعنى( ). الثاني: أنه لا يجوز لمجرد الضرورة . الثالث: أنه لا يجوز إلا للضرورة وتضمن الكلام معنى يصح معه القلب. الرابع: أنه لا يجوز في غير القرآن ولا يجوز أن يحمل القرآن عليه( ). أما البلاغيون والنقاد فمنهم من لم يرتضه كقدامة( )، وابن قتيبة ، والآمدي ، وابن سنان ، ومنهم من أثبته كالقاضي الجرجاني ، و السكاكي والعلوي ، ومنهم من أثبته بشرط كالمبرد ، والخطيب. والحق أن العقل يفصح عن أنه إن تضمن القلب اعتباراًَ يتسبب عن وجوده فثبوته بلاغة وإلا فلا. لكن ذلك الاعتبار أمر نسبي، فلا يجب أن يُرفض قلب لرفض رأي واحد له – وسيأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله. وإني الآن أسوق بعضاً من نصوص الرافضين التي رأيت الدليل فيها غيرَ قاطع ، واحتمال النظر فيه موجود. قال ابن قتيبة " وكان بعض أصحاب اللغة يذهب في قوله تعالى } ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداء { ( )إلى مثل هذا في القلب ويقول وقع التشبيه بالراعي في ظاهر الكلام، والمعنى للمنعوت به وهو الغنم وكذلك قوله سبحانه } ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة { ( )أي تنهض بها وهي مثقلة، وقال آخر في قوله سبحانه } وإنه لحب الخير لشديد{ ( )أي وأن حبه للخير لشديد، وفي قوله تعالى } واجعلنا للمتقين إماما { ( )أي اجعل المتقين لنا إماماً في الخير ، وهذا ما لا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله عز وجل لو لم يجد له مذهباً لأن الشعراء تقلب اللفظ، وتزيل الكلام على الغلط أو على طريق الضرورة للقافية أو لاستقامة وزن البيت، فمن ذلك قول لبيد: نــحــن بـنــو أم الـبــنــيــن الأربــعــة قال ابن الكلبي هم خمسة فجعلهم للقافية أربعة . وقال الصلَتان : أرى الحطَفي بز الفرزدق شعره ولكن خيراً من كُليب مجاشع أراد أرى جريراً بز الفرزدق شعره فلم يمكنه فذكر جده . وقال آخر " مثل النصارى قتلوا المسيحَ ". أراد اليهــود . ... والله تعلى لا يغلط ولا يضطر وإنما أراد : ومثلُ الذين كفروا ومثلنا في وعظهم كمثل الناعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداء، فاقتصر على قوله } ومثلُ الذين كفروا { وحذف مثلنا لأن الكلام يدل عليه ومثل هذا كثير في الاختصار. وأراد بقوله } ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة { أي تميلها من ثقلها.. وأراد بقوله } وإنه لحب الخير لشديد { أي إنه لحب المال لبخيل، والشدة البخل هنا، يقال رجل شديد ومتشدد... وقوله سبحانه } واجعلنا للمقتين إماما{ يريد اجعلنا أئمة في الخير يقتدي بنا المؤمنون، كما قال في موضع آخر } وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا { أي قادة، كذلك قال المفسرون " ( ). فهو يرى ألا يصح الحكم بالقلب في القرآن العظيم وإذا كان، فلابد أن يوجد له مذهب وتأويل يخرجه منه حتى لا يتماثل مع أقوال العرب في شعرهم ونثرهم والتي تقلب دون مبرر أو مذهب يجيز ذلك فإنها مبنية على الغلط لضرورة القافية أو استقامة وزن البيت مثلاً. وإذا كان ابن قتيبة استطاع أن يؤول هذه الآيات بما ينفي وقوع القلب فيها فإنه قد أول بعضاً آخر بما لا ينفي وقوعه. كقوله تعالى } فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين{ ( )يقول " أي فإني عدو لهم لأن كل من عاديته عاداك " ( )وهذا المعنى هو الذي يقول به المثبتون، لأنه إذا كان الأصل " فإني عدو لهم . ثم تمكنت العداوة فيهم حتى أصبحت – مبالغة – كأنها الأصل قلبت لتصبح عداوتهم كعداوته بل أشد. وكقوله تعالى } ثم دنا فتدلى { ( )يقول " أي تدلى فدنا لأنه تدلى للدنو ودنا بالتدلي " ( )وهذا أيضاً هو سر القلب في الآية( )، ولا يمكن أن يقر البلاغيون القلب في آية قرآنية أو كلام عربي فصيح دون أن يكون له سر يقتضيه وملاحة تكسوه . ثم نرى ابن قتيبة يفسر الآية دون إلغاء للقلب أو تأويل له ، يقول في قوله تعالى } وقد بلغني الكبر { ( )أي " بلغته " ( )، ويـقـول في قـولـه تـعــالى } خُـلِـق الإنـســـــــان مـن عـجــل { ( )" أي خـلـق الــعــجــل مــن الإنسان "( ) أما موقعه من الشعر فقد أثبت القلب في بعضه ومنعه في بعض( ) ، والحاصل أن قول ابن قتيبة " و"هذا مالا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله عز وجل لو لم يجد له مذهباً " ( ) أي تأويلاً ولم يجعل لعبارته فيه طريقاً يفهم منه إمكانية ورود القلب في القرآن الكريم مع أنه قد أورده، وكان عليه أن يفسح للتعبير مجالاً يدخل منه القلب الذي يزيد المعنى قوة ومبالغة. أما الآمدي فقد قطع برفض القلب في القرآن الكريم، وحاول تأويل ما جاء منه، وفي الشعر أول ما أمكن تأويله، وما لم يمكن نسبه إلى السهو والغط والضرورة. ففي قوله تعالى } ما إن مفاتحه لتنوء بالعصــــبة أولي الـقـوة { ( )وفي قـوله تعالى } ثم دنا فتدلى { ( )وفي قوله تعالى } وإنه لحب الخير لشــــــــديد {( )أول بما أول به الفراء وابن قتيبة( )وقال " فإن قيل قد جاء القلب في القرآن الكريم ولا يجوز أن يكون ذلك على سبيل السهو والضرورة كما جاء في كلام العرب – لأن كلام الله يتعالى عن ذلك، قيل: هذا ليس بقلب وإنما هو صحيح مستقيم." ( )، وكذلك أول قول أبي النجم : قـبـل دنـو الأفـق مـن جــوزائه يقول " والجوزاء إذا دنت من الأفق فقد دنا الأفق منها، وليس هذا من القلب المستكره " ( )ويؤول قول الشاعر: ومهمه مُغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه يقول " قوله " كأن لون أرضه سماؤه " كأن لون سمائه من غبرتها لون أرضه، وليس الأمر في ذلك بواجب، لأن أرضه وسماءه مضافان جميعاً إلى الهاء، وهي كناية عن المهمه فأيهما يشبه بصاحبه كان فيه سواء وإنما تغبر آفاق السماء من الجدب واحتباس القطر " ( ) وتَركب خيلا لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة( )الحمر ثم يقول " وهذا كله سائغ حسن – أي التأويل – ولكن القلب القبيح لا يجوز في الشعر ولا في القرآن وهو ما جاء في كلامهم على سبيل الغلط نحو قول خداش بن زهير: وإنما الضياطرة هي التي تشقى بالرماح ، وكقول الآخر : كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم وإنما الرجم فريضة الزناء( ). وقد رفض ابن سنان القلب ورأى أن " من وضع الألفاظ موضعها ألا يكون الكلام مقلوباً، فيفسد المعنى ويصرفه عن وجهه( ). ومن الملاحظ أن ابن سنان لم يتوسع في تعرضه للقلب كسابقيه فقد اكتفى بذكر شواهد شعرية لم تتعد العشرة ، وساق شاهداً واحدا ًمن القرآن العظيم، على أن الشواهد التي ساقها وأبان عن فساد معناها بوقوع القلب فيها لعل القلب يزيدها حسناً وملاحة ودقة تكسب القول بلاغة ، ونأخذ ـــ مثلاً ـــ قول عروة بن الورد: فلو أني شهدت أبا سعاد غداة غدا لمهجته يفوق( ) فديت بنفسه نفسي ومالي وما آلوك إلا ما أطيق يقول " يريد أن يقول فديت بنفسه نفسي ومالي " ( ) فابن سنان يعده من فساد المعنى وصرفه عن وجهه، ولا نعدم فيه معنى حسناً ذلك أن الإنسان ليس أعز عليه من نفسه فإذا رأى أن نفسه هي هي نفس صاحبه ثم فدى بها نفسه التي يعنى بها نفس صاحبه كان ذلك أتم في المعنى وأمكن في التعبير عن شدة الاهتمام بنفس صاحبه حيث جعلها نفسه ونأخذ مثلاً قول خداش بن زهير، وهو يعده أيضاً من القلب الذي يفسد المعنى : وتُركب خيل لا هوادة بينها وتشقى رماح بالضياطرة الحُمر والضياطرة هي التي تشقى بالرماح حيث تصيبها فتؤلمها وتميتها، والمعنى على القلب يفيد أن الرماح التي عنى بصناعتها أدق عناية حتى تُشقى مضروبها وتنفذ في أحشائه فتقتله، ستنفذ فيمن لا يستحقها فيحق لها أن تشقى( )، ونأخذ أيضاً قول أبي الطيب : نحن ركبٌ ملجن في زي ناسِ فوق طير لها شخوص الجمال يقول ابن سنان " وقد حمل أبو الفتح عثمان بن جني قول أبي الطيب على المقلوب وقال، تقديره نحن ركب من الإنس في زي الجن فوق الجمال لها شخوص الطير ، وهذا عندي تعسف من أبي الفتح لا تقود إليه ضرورة" ( )، ثم يقول " ومراد أبي الطيب المبالغة على حسب ما جرت به عادة الشعراء فيقول نحن قوم من الجن لجوبنا الفلاة والمهامه والقفار التي لا تسلك وقلة فرقنا فيها إلا أننا في زي ناس وهم على الحقيقة كذلك ، ونحن فوق طير من ســـرعة إبلنا إلا أن شـــخوصـها شـــخوص الجمال ولا شــــك أيضاً في ذلك " ( )، وأرى أن تقييد كلامه بقوله " وهم على الحقيقة من ذلك " وقوله " ولا شك أيضاً في ذلك" قد قللت المبالغة وأضعفتها، ولو أنه أجرى الكلام على حذفهما لعلا المعنى وتمكنت المبالغة. والحق أن القلب الذي يؤدي إلى المبالغة في المعنى، ودمج الطرفين حتى كأن الفرع أصل – تمكنا في أهميته وإمعاناً في تماثلهما – وهذا هو اعتبار لطيف ومسلك حسن يحمد قائله – لا يمكن أن نلغيه من صفحات فنون البلاغة، ولا يمكن ألا نعده كلون من ألوان البلاغة الذي له دور في اختصاص الأسلوب العربي بنمط متميز ومنهج فريد. وقد ذكرت آنفاً أن من علماء البلاغة والنقد من أثبته دون قيد أو شرط فها هو ذا القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني يرد على من ينكره ويسوق شواهد تثبته ، يقول " قوله ولعلي مؤملٌ بعض ما أبـ لغ باللطف من عزيز حميد قالوا: تمنى أن يؤمل بعض ما يبلغ، وهذا لا يليق بالكلام، وإنما وجهه أن يقول " ولعلى بالغ بعض ما أؤمل، قال المحتج: قد يجوز أن يكون أراد: لعلي أبلغ آمالي وأزيد عليها بلطف الله تعالى حتى يكون ما أؤمله بعض ما أصل إليه ، وهذا غير مستنكر ،وقوله: وعذلت أهل العشق حتى ذقتُه فعجبت كيف يموت من لا يعشق قالوا: صعوبة العشق وشدته على أهله لا توجب أن لا يموت من لا يعشق فيجب منه وإنما يقتضي أن كل من يعشق يموت وكأنه أراد: كيف لا يعرف من يعشق فذهب عن مراده. قال بعض من يحتج عن أبي الطيب: إنه خرج مخرج القلب وهو كثير في شعر العرب ... " ( ) وقد عده السكاكي " مما يورث الكلام ملاحة، ولا يشجع عليها إلا كمال البلاغة، يأتي في الكلام وفي الأشعار وفي التنزيل " ( )وساق أمثلة توضحه وتبين بلاغته. وكذلك أثبته يحيى بن حمزة العلوي وعده " من جملة أفانين البلاغة، وفيه دلالة على الاقتدار في الكلام والإغراق فيه " ( )، إلا أنه حين أراد استيفاء صوره خلط بين ما يكون من البلاغة بمكان وبين مالا ينظر إليه إلا من حيث إنه شكل من أشكال الاقتدار في التعبير دون أن يعطي مزية فيه. فهل في قوله: وقالوا أي شيءٍ منه أحلى فقلت المقلتان المقتلان وهو من قلب البعض، وقوله : حسامك منه للأحباب فتحٌ ورمحك فيه للأعداد حتف وهو من قلب الكل. هل فيما سبق من البلاغة بقدر قول الراعي يصف ثوراً : فصبَّحتْهُ كلاب الغوث يوسدها مستوضحون يرون العين كالأثر( ) ِ فقلب في قوله " يرون العين كالأثر " والأصل يرون الأثر كالعين، ولأنهم رأوا الأثر كالعين فقد رأوا العين كالأثر، وقولهم " عرضت الناقة على الحوض"وقد عجبت لوصف العلوي وجهاً من أوجهه القلب، يسميه " القلب المستوي" ويقول فيه " وهو قليل نادر صعب المسلك وعر المرتقى ، لا يكاد يأتي به إلا من أخلق في البلاغة وتقدم في الفصاحة، وقـد يـأتـي في الـنـثـر والنـظــم ، فمـا جـاء في كتـاب الله تعالى قوله } كلٌ في فلكٍ { ( )وقوله تعالى } وربك فكبر { ( )ومنه قول بعضهم " مودتي لعلى تدوم " وفي الحريريات " من يرُبَّ إذا برَّ ينمُ " وقوله " كبر رجاء أجر ربك ". فإن فيه من التكلف والتصنع ما لا يخفى، على أن الآيتين خلتا ولا شك من ذلك لأن " القلب المستوي" جاء عليهما ولم تجيئا عليه وكان حق ذلك الوصف أن يكون على ما وقع على حسن الاعتبار وإكساب المعنى أمراً لم يكن في عدمه. وكما رأينا من يثبت القلب مطلقاً نرى من يثبته بقيد. فالمبرد حين تعرض له في كتابه " الكامل " يشترط لحسنه شرطاً يقول : " وقال الفرزدق ونزل به ذئب فأضافه : وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً رفعتُ لناري موهنا( )فأتاني ... وقوله : " رفعت لناري" من المقلوب، إنما أراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبس جاز الـقـلـب للاخـتصــار( ). قال الله ـــ عز وجل ـــ } وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة { ( )والعصبة تنوء بالمفاتيح أن تستقل بها في ثقل ..." ( )، وقد سار على نفس منهج المبرد الخطيب القزويني في اشتراطه قيداً لحسن القلب، وهو أن يتضمن اعتباراً لطيفاً قال : " رده مطلقاً قوم وقبله مطلقاً قوم منهم السكاكي، والحق أنه إن تضمن اعتباراً لطيفاً قبل وإلا رد" ( ) والاعتبار اللطيف هو المبدأ أو القاعدة التي يلزم أن يأتي القلب عليها، أما وجود ذلك الملحظ اللطيف في الأسلوب ليدخل فيه القلب أو عدم وجوده فإن ذلك أمر نسبي. نأخذ – مثلاً – رأي الخطيب في قول القطامي : ولما أن جرى سمن عليها كما طينت بالفدن السياعا( ) فإنه لا يرى في هذا القلب " كما طينت بالفدن السياعا " اعتباراً لطيفاً يجعل الشاعر يأتي به في أسلوبه، ولكن السعد قد لحظ ملحظاً دقيقاً لا يعبر عنه إلا بالقلب. فالشاعر أراد أن السمن الذي دخل ناقته من عظمه كأنه ناقة ثانية، فهل يشبه بالسياع الذي أصبح كالقصر – فيقال فيه إن السياع مطين بالفدن – وهنا تتحقق المبالغة ويتساوى الفرع بالأصل؟ أو أن يشبه بالقصر المطين بالسياع؟ ولا يكون في ذلك وجه للمبالغة في التعبير عن سمن الناقة ، يقول السعد : " ولقائل أن يقول أن يتضمن من المبالغة في وصف الناقة بالسمن ما لا يتضمنه قوله " طينت الفدن بالسياع " لإيهامه بأن السياع قد بلغ من العظم والكثرة إلى أن صار بمنزلة الأصل والفدن بالنسبة إليه كالسياع بالنسبة إلى الفدن " ( ) والعيني في تفسيره لقوله تعالى } إنما البيع مثل الربا{ ( )سار على منهج الخطيب ولم يقر بالقلب في هذه الآية لأن المعنى بدونه يحسن – في نظره – من وجوده قال " قوله } ذلك بأنهم قالوا { أي الذي جرى لهم من أنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس – بسبب أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا أي نظيره وليس هذا قياساً منهم الربا على البيع لأن المشركين لا يتعرفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن الكريم، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا إنما البيع مثل الربا فلم حرم هذا وأبيع هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع فرد الله عليهم بقوله } وأحل الله البيع وحرم الربا { ( )فليسا نظيرين " ( )وفي المقابل نرى بهاء الدين السبكي يورد الآية على القلب ويعلل لحسنه بقوله " فإن المقصود في الأصل أنهم جعلوا الربا كالبيع فقلب مبالغة فيه زعماً أن الربا أولى بالحل من البيع " ( ) ومثل ما رآه العيني في الآية رأى فما رواه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه حيث قال " كُنا مع النبي r ثلاثين ومائة فقال النبي r : هل مع أحدٍ منكم طعامٌ ، فإذا مع رجلٍ صـــــاعٌ من طـعـام أو نحوه ، فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان( )طويل بغنم يسوقها فقال النبي r بيعا أم عطية ، أو قال أم هبة، قال: لا بيع فاشترى منه شاة فصنعت ، وأمر النبي r البطن أن يشوي وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا قد حز بسواد( )ٍالنبي r له حُزه من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاها إياه، وإن كان غائباً خبأ له فـجعل منها قصعتيـن فأكلوا أجـمعون وشبعـنـا فـفضلت القصــعتان فحملناه على البعير أو كما قال "( )والشاهد فيه قوله " أعطاها إياه " وأصله " أعطاه إياها " فقلب، وقد رأى العيني أن لا حاجة للقلب هنا لأن العبارتين سواء يقول " قوله " أعطاها إياه " أي أعطى الحزة إياه أي الشاهد أي الحاضر، وقال بعضهم هو من القلب وأصله أعطاه إياها " قلت " لا حاجة إلى دعوى القلب فيه بل العبارتان سواء في الاستعمال" ( )ولأن المعنى على القلب ليس فيه ملحظ بلاغي ـــ عند العيني ـــ فقد رفضه. وعلى ضوء اعتبار المعنى اللطيف في إقرار القلب من عدمه سار العيني في تطبيق ذلك على قول البخاري " باب بركة الغازي في ماله حياً وميتاً مع النبي r وولاة الأمر " ( )قال العيني " قيل هذا يشبه أن يكون من باب القلب لأن الذي ينبغي أن يقال" باب بركة مال الغازي " قلت " لا حاجة إلى هذا لأن المعنى باب البركة الحاصلة للغازي في ماله " ( )فالمعنى على القلب تسلط البركة على المال في الأصل ثم يقلب فتسلط البركة على الغازي ، أما العيني فيقدر ما يجعل البركة حاصلة للغازي دون اعتبار القلب، ويمكن أن يقال في هذا إن تسليط البركة على الغازي باعتبار القلب أبلغ من التأويل المخرج له، فعلى التأويل " البركة قد حصلت للغازي متمثلة في ماله " وعلى القلب" البركة في الغازي وتنتقل إلى ماله. وبعد أن رأينا العيني يرفض القلب في مواضع لا يجد لإقراره سبباً وجيهاً، أو معنى يحسن فيه، نراه يقره، وذلك لأنه قد وقع على معنى حسن القلب فيه إلا أنه لم يبين سره واكتفى بأن نفى الشك فيه يقول في قوله r من رواية أبي هريرة " من أنفق زوجين( )في سبيل الله دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب أي فلُ ( )هلم، قال أبو بكر يا رسول الله ذاك الذي لا تـَوَى ( ) عليه فقال النبي r إني لأرجوا أن تكون منهم"( ) " قوله" كل خزنة باب " قال بعضهم كأنه من المقلوب " قلت " لا حاجة إلى قوله كأنه، بل هو من المقلوب إذ أصله " خزنة كل باب " ( ) وفي موضع آخر يقر به ثم يورد رأي الكرماني الذي يقدر تقديراً يخرج القلب من الأسلوب..، دون أن يعقب عليه أو ينتصر لرأيه أو يذكر سره. ففيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال" قال النبي rرأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء( )امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة( )فقلت من هذا فقال هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت لمن هذا فقال لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك فقال عمر بأمي وأبي يا رسول الله أعليك أغار" ( ) يقول العيني " قوله " أعليك أغار " هذا من باب القلب لأن الأصل أليها أغار منك، وقال الكرماني، والأصل أن يقال أمنك أغار عليها ثم أجاب بأن لفظ عليك ليس متعلقاً بقوله أغار بل معناه أمستعلياً عليك أغار عليها مع أن كون الأصل ذلك ممنوع فلا محظور فيه" ( ) فالكرماني رفض القلب بدليل أنه جعل الجار والمجرور " أعليك " متعلقاً بمحذوف تقديره " أمستعلياً عليك " وليس متعلقاً بأغار، فإنه إن تعلق بأغار تحقق القلب، وعليه جاء قول العيني، وإذا كان الأصل في القول أن يقال " أمنك أغار عليها" لأننا نقول " غار فلان على امرأته من فلان " فإن الكرماني اختار خلاف الأصل وهو " عليك بدلاً من منك" لما فيه من معنى الاستعلاء، ولأن الإجراء على الأصل ممنوع وقوع معنى الاستعلاء المراد فإن مجيء " عليك " بدلاً من " منك " ليس محظوراً، فالكرماني إذاً لا يريد إجراء المعنى على الأصل لأنه لا يتناسب مع المقام، ففي قولنا " أغار عليها من فلان " جعل فلان محطاً للغيرة عليها، وليس مراد سيدنا عمر رضي الله عنه أن يضع سيد الخلق في مصاف هؤلاء، ولكن يرفض مبدأ التفكير في ذلك، وهذا ما يناسبه قوله " أعليك أغار " أي أمستعلياً عليك أغار عليها. ولا يخفى أن ما وقع عليه الكرماني من معان دقيقة من فكر عالم متذوق وبليغ قد حقق ما ترمي إليه البلاغة من صوغ الألفاظ الدالة على أدق المعاني حتى تتمكن من النفس أشد تمكن، ولا شك أن وضع " على " موضع " من" قد حول المعنى من فهمه المجرد إلى فهم آخر يتناسب مع علو المقام ورفعته، ولا يعنينا في ذلك أن ندخل في خضم التضمين وما دار حوله العلماء من خلاف قدر ما يعنينا ما هدفت إليه " على " من معنى وعليه فإن القلب هنا – على ما أرى – لا يفي بحق المعاني الكامنة التي كشف عنها ما ذهب إليه الكرماني. وفي موضع ثالث لم يكن للعيني دور في إبراز ما يعطيه القلب من لطيفة أو نكتة حين أثبته في النص الذي أورده وما فعله هو نقل رأي الكرماني ففيما رواه سهل بن سعد رضي الله عنه قال ( جاءت امرأة ببردةٍ، قال أتدرون ما البردة فقيل له نعم هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها فأخذها النبي r محتاجاً إليها فخرج إلينا.وإنها إزاره )( )يقول العيني " قوله " في حاشيتها " قال الجوهري حاشية الثوب أحد جوانبه، وقال القزاز حاشيتاه ناحيتاه الثانية في طرفها الهدب، وقال الكرماني ه ومن باب القلب أي منسوج فيها حاشيتها " ( ) وقد يذكر العيني موضع القلب، ويكتفي بسوق شاهد من أمثلته يقول في قوله r " إذا مات أحدكم عُرض عليه معقده غدوة وعشياً إما النار وإما الجنة، فيقال هذا مقعدك حتى تُبعث " ( ) " قوله " عرض عليه مقعده " كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية السرخسي والمستعلي " عرض على مقعده " والأول هو الأصل والثاني من القلب نحو " عرضت الناقة على الحوض " ( ) وقد ذكر العيني في دراسته للقلب ما يدعو إلى النظر والتدقيق فيه فإن البلاغيين والنقاد الذين تعرضوا له تفرعت اتجاهاتهم في إطار محدد، وهو إقراراهم به في النصوص التي وقع فيها، أو عدم إقراراهم أو قبولهم له بقيود، ولكن العيني أضاف على ذلك أنه بتقدير معنى، يكون في الأسلوب قلب، وبتقدير معنى آخر لا يكون، وبذلك يتحرك القلب من قالبه الذي وضع فيه، وينظر إليه بنظرة واسعة، ويعطي الدارس حرية البحث واستخراج ما ابتكر من ذلك في حدود البحث العلمي. ففيما رواه سعيد بن جبير قال " كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص( )قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها وذلك بمنى.. إلى آخره" ( ) يقول العيني " قوله " فنزعتها " أي فنزعت السنان ، وإنما أنث الضمير إما باعتبار السلاح لأنه مؤنث، وإما باعتبار أنها حديدة، أو يكون الضمير راجعاً إلى القدم فيكون من باب القلب، كما يقال " أدخلت الخف في الرجل " ( ) فالضمير في " نزعتها " إما أن يتوجه إلى السنان، وإما أن يتوجه إلى الحديدة وهي التي يصنع منها السنان، وإما أن يتوجه إلى القدم فيكون القلب والأصل " نزعت السنان من قدمه " فقلب وقال " نزعت القدم من السنان" ومن القلب تنشأ المبالغة في تمكن القدم في السنان، كما تنشأ من دخول الظرف في المظروف، والعادة أن يدخل المظروف في الظرف فيقال " أدخلت الرجل في الخف " ويقال على القلب " أدخلت الخف في الرجل. هذا الذي أنقله عن العيني هو في احتمال التغيير في تقدير المعاني الناشئة من التركيب والذي على تقدير واحد منها يكون القلب. أما الذي سأتحدث عنه الآن فهو في اللفظة، وما يكون فيها من معان يأتي القلب من أحدها. ففيما رواه أبو وائل قال " قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه ". قال أرأيت رجلاً مؤدياً نشيطاً يخرج مع أمرائنا في المغازي فيعزم( )علينا في أشياء لا نحصيها، فقلت له : والله ما أدري ما أقول لك إلا أنا كنا مع النبي r فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله( )، وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلاً فشفاه منه( )، وأوشك أن لا تجدوه( )والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب( )شُرب صفوه وبقي كدره " ( )يقول العيني " قوله " وإذا شك في نسفه شيء" هو من باب القلب وأصله شك نفسه( )في شيء، أوشك بمعنى لصق، وقوله شيء أي مما تردد فيه أنه جائز أو غير جائز " ( ) قال ابن منظور في " شك " " الشك نقيض اليقين ، وجمعه شكوك وقد شككت في كذا وتشككت ، وشك في الأمر يشك شكاً" وقال " والشك لزوق العضد الجنب .. والشك اللزوق واللصوق " ( ) ولننظر بعد ذلك إلى معنى " شك " من الجملة في هذا النص فإذا أجرينا فيها معنى التردد ، كان معنى الجملة هكذا" تردد في نفسه شيء" وهل الشيء يتردد في النفس، أو النفس التي تتردد في الشيء؟ إذاً قد جرى الأسلوب على القلب، وتحققت فيه المبالغة بأن جعل المتردد فيه متردداً يأخذ الأول أحكام الثاني، وإذا أجرينا فيها معنى اللصوق كان المعنى هكذا " لصق بالنفس شيء " فالشيء يلصق النفس ولا تلصق النفس به، فقد فعل الشيء اللصوق بالنفس وأصبح الترتيب في الجملة جاريا ًعلى طبيعته وليس فيه قلب ،وفيه من المعاني اللطيفة ما يمكن حمل " شك " على هذا المعنى – كما حمل على التردد الذي جلب القلب – فإن الشيء – الذي يطلق عليه هنا أنه مما تردد فيه أنه جائز أو غير جائز – لما التصق بالنفس استتبع ذلك ضيقها وتعبها ولما كان ذلك أمراً تزدريه وتنقر منه بحثت عما يخرج هذا الشيء منها. وقد أسهم العيني في الدعوة إلى دراسة القلب بشيء من التجديد فمن النصوص التي وقع عليها العيني والتي تحمل القلب نص يتداخل فيه القلب مع التقديم، وإذا التقى اللونان في الأسلوب كان ذلك إعانة على ترسيخ المعنى وتوكيده أتم توكيد. ففي قوله r " .... إخوانكم خولكم( )جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينهم " ( )يقول العيني " إخوانكم خولكم " فيه حصر، وذلك لأن أصل الكلام أن يقال " خولكم إخوانكم " لأن المقصود هو الحكم على الخول بالأخوه ، ولكن لما قصد حصر الخول على الإخوان قدم الإخوان، أي ليسوا إلا إخواناً، وإنما قدم الإخوان لأجل الاهتمام ببيان الأخوة، ويجوز أن يكون من باب المورث لملاحة الكلام نحو قوله : نم وإن لم أنم كراي كراك شاهدي الدمع إن ذاك كذاك( ) ونلاحظ أن العيني تحدث عن التقديم هنا أكثر مما تحدث عن القلب إلا أنه قد رأى فيه من معنى يستوجبه فإنه " المورث لملاحة الكلام " ولا شك أن هناك مبالغة جاءت من المعنى الذي أفاده القلب، فهو يريد r أن يصلح ما اعوج في استقامة أبي ذر رضي الله عنه، ثم تقرير أمر عام فيه دعوة من دعاوى الإسلام السامية هي دعوة الأخوة في الإسلام ،ونحن بصدد قوله r " إخوانكم خولكم " وأصل الكلام أن يقال خولكم إخوانكم لأن المقصود هو الحكم على الخول بالأخوة، ولكن لما أراد على الإحسان إليه، وعدم الترفع عليه، وأن يشعره بأنه أخوه قلب الحكم ليصرف السامع إلى شدة الاهتمام بالمقلوب حيث جعل الخول كأنه الأصل والمحكوم به مبالغة، والأخوة كأنها الفرع والمحكوم عليها مبالغة أيضاً. ثم إن الجملة لما جاءت على التقديم أيضاً وما فيه من غرض الاهتمام أو الحصر زاد المعنى ترسيخاً وتأكيداً والنكات البلاغية تتزاحم ولا تتقاتل. وإذا كان الذي تحدثت عنه هو التقاء القلب مع التقديم في ضوء المعاني البلاغية التي درسها العيني، فإني الآن أتحدث عن بناء القلب على المجاز المرسل. وهذا ما اكتشفه العيني من ثنايا النص دون أن يكون القلب مذكوراً فيه، ففيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" كتب النبي r كتاباً أو أراد أن يكتب فقيل له إنهم لا يقرؤن كتاباً إلى مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة نقشه محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده " ( )يقول العيني " قوله " في يده" حال إما من البياض، أو من المضاف إليه أي كأني أنظر إلى بياض الخاتم حال كون الخاتم في يد رسول الله r " فإن قلت " ليس في اليد بل في الإصبع" قلت " هذا من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء " فإن قلت " الأصبع في الخاتم لا الخاتم في الأصبع " قلت " هو من باب القلب نحو " عرضت الناقة على الحوض" وما يحتمله نص أنس بن مالك رضي الله عنه هو إبراز المجاز المرسل كلون بلاغي في العبارة، لكن الذي ألجأ العيني إلى أن يتعرض القلب هو طبيعة التسلسل في مفهوم العبارة الذي يقضي إلى القلب، فإن جعل الخاتم في اليد مجاز مرسل علاقته الكلية، أطلق الكل وأراد الجزء، ولما كان الجزء – وهو الأصبع-مظروفاً والخاتم ظرفاً كان الأصل أن يقال " الأصبع في الخاتم " إلا أنه فهم القلب من إطلاق الكل " اليد " ومن هنا تدرج النص إلى القلب. وفي القلب قضية فرضت على أن أزيل بها بحثي عن القلب في ضوء دراسة العيني له ، وذلك أن العيني في نهاية حديثه عن القلب ذكر مثالاً صالحاً لجعله من المجاز العقلي، كما أنه قد ساق بعضاً من الأمثلة قبله تدخل كذلك في المجاز العقلي.( ) ففي رواية أنس رضي الله عنه قال " قال ناسٌ الأنصار حين أفاء الله على رسوله r ما أفاء من أموال هوازن فطفق النبي r يعطي رجالاً المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله r يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم... الحديث " ( ) يقول العيني " قوله " وسيوفنا تقطر " من باب القلب( ) ومن هنا نقول: بعد أن تجاذبت القلب علوم البلاغة الثلاثة، هل يبحث عند دراسته على أنه من الحقيقة أو من المجاز؟ أو أنه بينهما مثل أسلوب الكتابة؟ تعرض لهذه القضية العلامة الدسوقي في حاشيته على مختصر السعد – يقول – نقلاً عن ابن جماعة – " وانظر هل القلب حقيقة أو مجازا أو كناية؟ .. والظاهر أنه من الحقيقة لأن كل كلمة مستعملة فيما وضعت له ولم يرد من التركيب شيء آخر مغاير لما أريد من الكلمات، نعم ربما يدعى أنه من قبيل المجاز العقلي وأنه من مباحث المعاني والبديع باعتبارين مختلفين " ( ) والواقع أن المجاز العقلي لا يتحقق في كل أمثلة القلب، فقوله "وسيوفنا تقطر " من الرواية التي بين أيدينا، صالح لإجراء المجاز العقلي فيه ما وقع على القلب، فإنه أسند الفعل إلى غير ما هو له وقوله تعالى } وقد بلغني الكبر{ ( )ــــ وهو أسلوب جار على القلب ــــ واضح فيه إمكانية إجراء المجاز العقلي فيه . وكذلك وقع المجاز العقلي في أسلوب القلب في قول حسان بن ثابت : لنا الجفنات( )الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وكذلك قول خداش بن زهير : وتُركَب خيلٌ لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر أما قوله تعالى } واجعلنا للمتقين إماماً {( ) فلا يتحقق في أسلوب القلب مجاز عقلي، وكذلك قوله تعالى }خلق الإنسان من عجل{ ( ) ، وقوله تعالى } ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء { ( ) وأين المجاز العقلي في قوله : كأن لون أرضه سماؤه" في قول الشاعر : ومهمه مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه وكذلك فإن قول الفرزدق " رفعت لناري موهناً فأتاني لا يتحقق إجراء المجاز العقلي من القلب الذي جاء في البيت. وأخلُص من ذلك إلى أن القلب منه ما يأتي في أسلوبه المجاز العقلي ، ومنه مالا يأتي ، ومرد ذلك إلى الخلفية العلمية في البلاغة ، والذوق البلاغي .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    المشاركات
    325
    يعطيك الف عافيه استاذي
    والله يقويك ويسعدك
    احترامي

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط