بين الذاتي والموضوعي
الموضوعي ينطلق من الواقع ليصفه أو يدرسه ويفهمه
الذاتي ينطلق من الذات من قناعة مسبقة في الذات ليفرضها على الواقع الأمر الذي لا يستقيم إلا بتشويه الفكر عبر منزلقات
وأحابيل لغوية ومنطقية تخلق جوا لَعَميًّا تمرر من خلاله المغالطات. التي تجعل الفكر يرى الواقع من خلال عيني المنظِّر .

ولعل في بعض الحوارات العروضية طرف من ذلك. أذكر منه مثلا قول فايل إن النبر على الوتد دوما وقول الأستاذ غالب الغول
إن النبر على السبب السابق للوتد. ويرى النبر مدا. ولا زلت اذكر مثاله : متفاااااااااااااااااااعلن فإذا قلت له ماذا لو جاءت كلمة القافية
متلبّسا = (2) 2 3 هل سيكون النبر على الباء أم الألف وكيف: متلببببسا أم متلبسااااااااا. لم يجب.

أمثلة :
1- الخليل انطلق من دراسته للغة العربية فانتهى بالعروض الذي نعرف
من لم يتبين لهم أن للخليل منهاجا لجأوا إلى منطلقات مناهج توافق لغات أخرى، ففرضوها على العربية، ثم أخذوا يكيفون واقع
العربية ليناسب فكرهم ومثال ذلك، من قالوا بأن النبر يحدد خصائص العروض العربي.

2- فلسطين منطقة التي لم يعرف لها حدود جغرافية أو ثقافية أو سياسية تميزها عن سائر بلاد الشام وبقاع الأمة، طيلة التاريخ
العربي الإسلامي، عندما أرادوا اقتطاع جزء من الشام لإقامة الدولة الغاصبة أتوا بها الاسم وفصلوه على شكل كيان ثم افترضوه
مميزا عن سائر بلاد الشام وكتبوا له تاريخيا مميزا، وعبر هذه المنزلقات افترضوا له شعبا منفصلا عن أمته وضعوه في مواجهة
الغرب كله بل العالم كله. والنتيجة معروفه

3- الإسلام ، أنظر إلى الفرق بين قوله تعالى :
"أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون "
أية موضوعية أكثر من هذه تعرض على المحاور الاحتمالات كافة لتناقشها واحدا واحدا بالحجة والبرهان.
ثم انظر قولهم الذاتي :" لا إله والحياة مادة " كبرت كلمة تخرج من أفواههم. ينطلقون من فرض صحة هذه المقولة الذاتية ابتداء سالكين
دروب الانزلاق والتعمية ليشوهوا الحقائق كي تناسب هذه النظرة. وتكون النتيجة انهيارا شاملا بمجرد أن ترنحت القوة العسكرية،
فيم الإسلام رغم كل الكوارث التي أحاقت به من أعدائه ومن أهله لا يزال يتوطد وينمو ويشعر الجميع بقرب انبعاثه في واقع الحياة
ليستأنف دوره في هداية البشرية وقيادتها لخيرها.

***********
كان ذلك على مستوى عام وهنا حالة واضحة ساطعة تقوم شاهدا على الذاتية عندما يراد لها أن تبدو بلباس موضوعي، وما
يتطلبه ذلك من لف ودوران، ينتهي بطرح الكاتب بديلا للعروض كي يناسب قصيدة النثر هو : " الانتقال من النظرية التقليدية
الى النظرية الحديثة...... بطرح جديد للايقاع يتجاوز ما هو متداول في علم العروض."

يعني باختصار يمكن التعبير عن رأيه الذاتي بالعبارة التالية : " العروض الخليلي لا ينفع لقصيدة النثر. إذن نعمل عروضا يناسبها "

ولو كان موضوعيا لقال: عروض الخليل للشعر، والنثر ذو المضمون الشاعري لا علاقة لمضمونه بالشكل الشعري ، ويمكن أن
تدرس خصائصه الفنية بعيدا عن الشكل الشعري وعروض الخليل الخاص به، اللهم إلا إذا كان ثمة توافق جزئي بين شكل بعض
عبارات النص وأوزان الشعر.

من كان موضوعيا في طرحه كان رائده الوصول إلى الحقيقة ويفيده أن يُنْقَد، فإن كان النقد محقا دله
على بغيته وإن كان غير ذلك ساعد في تصحيح رأي المنتقد. وهو شاكر في الحالين، فمنهجه ومرجعه الحق. ومن كان
كذلك كان الوضوح والدقة والشمول لصالح منهجه دوما وخاصة في حواره مع الآخر. يكاد الرقمي يكون سلسلة من الأخطاء
وتصويبها سواء بفعل مقتضى وجوب شمولية المنهج حيث يكشف الصوابُ الخطأ. أو بانتقاد المنتقدين. ولم يكن ذلك ليتم
لولا الجرأة في مقاربة السداد وما يكتنف تلك الجرأة من احتمالات عالية للخطأ مع الاستعداد المسبق للاعتراف به وتصويبه
عندما يتضح.

من كان ذاتيا في طرحه كان رائده إضفاء ما في ذهنه على الواقع، فلا يقبل أن يقال له إن الواقع يخالف رأيك في
جزئية لعلمه أن انهيار جزئية من طرحه قد يودي بكل طرحه، ويكشف عوار منهجه الخادم لذاته في الرأي أو المصلحة.
ومن كان كذلك كان الجوّ اللعميّ بما يكتنفه من غموض وانتقائية وضيق بالطرف الآخر بل نفيا له حفاظا على رأي أو
مصلحة لا ابتغاء للحق. فلو أن بغيته الحق لما كان ذاتيا منذ البداية. صناعة الرأي العام في إعلام كوريا الشمالية من
هذا الصنف فهو يصور الرئيس صورة اقرب إلى الكمال فهو لا يمرض ولا يخطئ وكل شيء يتم بعبقريته وتوجيهه وهو
رحيم كريم مغوار.
.



http://www.nizwa.com/articles.php?id=2628


قصيدة النثر العربية وإعادة بناء قضايا علم العروض(*)

بقلم عبد القادر الغزالي

لعل الاستنتاج الذي نخلص إليه من خلال بحث الأسس التي تستند اليها هذه الأبحاث العروضية، هو عدم قدرتها على الخروج عن الاطار الابستيمولوجي لعلم العروض، كما أسسه الخليل بن أحمد، أي انها تنحصر في اطار الوزنية. ومن ثم يمكن الحكم عليها بأنها تندرج في اطار النظرية التقليدية، مما يعني انها في أوضاعها الراهنة لا تستطيع التصدي للقضايا الايقاعية والتخييلية التي تطرحها قصيدة النثر. والبديل، في اعتقادنا، الذي يمكن من الخروج من هذه الوضعية المتأزمة، هو الانتقال من النظرية التقليدية الى النظرية الحديثة.



على الرغم مما يبدو، للوهلة الاولى، من وضوح المادة المشكلة في الكتابة من تعالق الصوت والمعنى، فان دقائق هذا التعالق هي مثار جدل وخلاف كبير. إن لها صلة بطبيعة التفكير في اللغة، وشكل تصور الارتباط بين الدال والمدلول أهي اعتباطية أم اقتضائية؟ ومما يزيد من تعقيد المسألة طرق اشتغال المكونات اللغوية في الكتابة، والمحاولات المتعددة لبناء التعالق بين الأصوات والمعاني الى حد تجاوز ما استقر منها على مستوى المعجم. ونعتقد أن هذا الوضع التركيبي المعقد هو الذي حدا بصاحبي كتاب، نظرية الأدب: واسطن وارين ورينيه ويليك، الى الالحاح على ضرورة التفريق بين مكونين من مكونات الصوت، يتم الخلط بينهما في اغلب الاحيان. وهذا التحذير المضمر، هو مستهل البحث الجديد في قضية الصوت، والاشكالات التي تتفرع عنه في الأثر اللغوي عامة والأدبي بخاصة: "يجب أن نميز أولا بين جانبين مختلفين أشد الاختلاف من جوانب المشكلة: العنصر الملازم للصوت والعنصر المتعلق به".(1)

ان البنية الصوتية، بهذا المعنى، هي أساس التصور والادراك، لأنها تتضمن المعنى وتحتويه. وهذا الأخير بطبيعته مختلف عما حدد معجميا. وبالنظر الى الصفات والسمات المكونة للصوت فإنه يعتبر المادة الاساسية في علم الأوزان: "ومن ناحية اخرى نجد ان التمييزات المتعلقة بالصوت هي التي يمكن ان تصير أساس الايقاع والوزن: فالحدة، المدة، الشدة، تعدد التكرار، كلها عناصر تسمح بتمييزات كمية".(2)

ولقد انصرفت جملة من المقاربات الوزنية الى ايلاء المادة الصوتية أهمية بالغة: تصنيفا، وتبويبا، وتحليلا، وتفكيكا، متوسلة بنتائج الابحاث الصوتية والفونولوجية، وبمعطيات علم الموسيقى، مما شجع على التقريب بين الشعر والموسيقى. ومع ما صاحب ذلك من تطوير الاجراءات والاصطلاحات والاختبارات فانه أفضى الى كثير من اللبس والخلط بين المجالين. وتلك هي النقطة التي ينبه إليها كل من واستن وارين ورينيه ويليك: "التمييز في صنعات "التوزيع" بين الطرز الصوتية والصفات الصوتية المعادة او المتطابقة او المترابطة".(3)

وباادة الاعتبار لخصوصية حضور الصوت في الكتابة، نكون، حتما، أمام قضايا أساسية في الشعرية، أو ما يسميانه بـ"البحث الأدبي". ومن هذه القضايا: قضية العلاقة بين الشعر والنثر، التي يمكن أن نموضعها في مستويين مختلفين، لكنهما مرتبطان بتعريف الشعر أصلا. ذلك ان التعريف الكلاسيكي، بتقديم الوزن يناظر، في حقيقة الأمر بين النظم والنثر. وهنا يكون لحضور الصوت وجهان اساسيان: وجه معياري من خلال الخضوع لقوانين انتظام وتكرار معيارية متعارف عليها: كمية أو مقطعية او نبرية، ووجه فردي، ويسعفنا التمييز الياكوبسوني (نسبة الى رومان ياكوبسون) في ابرازها، عندما يميز بين: شكل البيت الشعري ونموذج البيت الشعري، وما ينجم عن قلب الوظيفة الشعرية للعلاقة بين محور الانتقاء ومحور التأليف. أما تعريف الشعر خارج الوزن فيطرح قضايا مختلفة، اذ حضور الصوت من خلال النسق يجعل الصوت في المعنى، وفي نفس الوقت ينسف الحدود بين الشعر والنثر. وكل ذلك يدفعنا الى اعادة النظر في النثر أيضا سواء في تعدديته، وأوضاع الايقاع في كل نوع، وأنماط الصلات بين الشعر والنثر الفني بخاصة، على الشكل الذي نستخلصه من الكلمة التالية: "فنحن ندخل حقل البحث الأدبي حين يتوجب علينا أن نشرح طبيعة الايقاع النثري، وخصوصية النثر الموقع واشتغالاته، ونثر فقرات معينة من الكتاب المقدس بالانجليزي، والايقاع النثري في كتابات السير توماس براون ورسكين او دي كوينس حيث يفرض الايقاع- أحيانا النغم- ذاتيتهما على القارئ، حتى ولو لم يكن منتبها. لقد سببت الطبيعة المضطربة لايقاع النثر الفني مقدارا كبيرا من الصعوبة".(4) وبناء على هذه الاضاءات، نسجل حضورا فارقا بين النثر العادي والنثر الفني، مع الحرص على حفظ التمايز والحدود.

وضمن اطار استقراء نظريات الاوزان، يحصر واسطن وارين ورينيه ويليك ثلاثة أنماط، كل نمط يستند الى اساس من الأسس النظرية. يقوم الاول على الاساس الصوتي. أما النمط الثاني، فيستند الى الاساس الموسيقي مع مصادرة التقريب بين الشعر والموسيقى، ولفت الانتباه أحيانا، الى خصوصية الموسيقى الشعرية; بينما يستند النمط الثالث الى الاصل الصوتي، يدعى الأول بـ"العروض التخطيطي"، والثاني موسوم بسمات النظرية الموسيقية، أما النموذج الثالث فحامل لاسم: "نظرية الوزن الصوتي". ولعل الخلاصة التي ينتهيان اليها بعد تقويم هذه النماذج، هو القول والدفاع عن التكامل، لأن ما ينقص هذا النموذج يكمله النموذج الآخر: "فالنظرية الموسيقية في الأوزان على حق حين تقول ان كل هذه التمييزات في المدة والشدة والحدة نسبية وذاتية. غير ان نظريتي الاوزان الصوتية والموسيقية على السواء تشتركان في نقص وقصور واحد، وهو أنهما تعتمدان كليا على الصوت، وعلى أداء تلاوة واحدة أو تلاوات متعددة. فنتائجهما تنطبق على تلك التلاوات، وهما يتجاهلان أن المنشد قد يخطئ او يصيب، وانه قد يضيف عناصر ويحذف أخرى مما يشوه النمط تشويها كاملا".(5)

ومن هذا المنظور، نسعى الى كشف فرضيات مجموعة من الدراسات العربية الحديثة التي تندرج فيما يمكن أن نطلق عليه: علم الوزن "العربي" او "علم العروض العربي". وما يطرحه من قضايا شعرية، والى أي حد يسمح التنظير القديم منه او الحديث، بوجود أشكال شعرية خارجة عن الاوزان المعهودة، كما ضبطت في علم العروض؟

ان الكتابة الشعرية خارج الوزن المعهود تدفعنا، حتما، الى نقد علم العروض. ويحسن التنبيه الى أن مفهوم الايقاع في الشعرية الحديثة يتجاوز الاطروحات التقليدية. وبناء على ذلك، نحاول تفكيك مسلمات وفرضيات النظرية العروضية العربية الحديثة التي لا تزال ترتكز على مسلمة المطابقة بين الايقاع والوزن. والغاية الكبرى من هذا النقد هو إعادة معالجة القضايا الوزنية والايقاعية التي تطرحها الكتابة الشعرية خارج الأوزان المتعارف عليها، وبالتالي تفكيك المنجز العروضي العربي الحديث بخاصة، وفق رؤية مستقبلية تجديدية مفتوحة على تصورات ونظريات مغايرة محتملة. وحسب هذه الزاوية النقدية، نفترض ان قصيدة النثر العربية بطبيعتها تستوجب إعادة بناء قضايا العروض، سواء في أصوله أم فروعه.

ويمكننا ان نستخلص من تعريف الخطيب التبريزي لعلم العروض المبادئ التالية:

- الصفة القياسية للعلم.

- العرض والمقابلة.

- التقويم.

وهذه العمليات تصدر عن ذاتين، وفي ثلاثة مستويات مختلفة: مستوى سابق لتأسيس العلم ومستوى مواكب، ومستوى لاحق لعملية التأسيس. وحسب هذه المستويات ينبغي ان نتناول قضايا الوصف والاكتشاف في علم العروض. أما الذاتان فهما: ذات الشاعر وذات العروضي. ولذلك نعتقد بأن معرفة الصحيح من المكسور إنما تبنى انطلاقا من المنجز الشعري السابق لكنها تطبق على المنجز الراهن والمحتمل، لأن قوانين العروض التي اعتبرت ميزانا استخلصت من المنجز الشعري ولم تكن سابقة مكتملة. ويرتبط هذا الواقع بالتوجه التعليمي التربوي الذي اتجه اليه علم العروض، كما يبدو من الكلمة التالية: "اعلم ان علم العروض ميزان الشعر، بها يعرف صحيحه من مكسوره، وهي مؤنثة. وأصل العروض في اللغة: الناحية".(6)

وهذا الوضع التعليمي هو الذي أدى الى اخضاع الشعر مطلقا: ماضيا وحاضرا ومستقبلا الى اصطلاحية العروض كما صيغت منذ البداية. وإذا كانت المصطلحات التي صاغها الخليل بن احمد، هي المقاييس التي يقاس بها البيت الشعري، بمقابلة الحروف المتحركة والساكنة وتحديد نظام تواليها مما يؤدي الى استخلاص التفاعيل، ومن ثم البحور الشعرية: "والشعر كله مركب من سبب، ووتد، وفاصلة. ولا يتوالى في الشعر أكثر من أربعة أحرف متحركات".(7) ان نظام الدوائر العروضية بخصائصها الهندسية والرياضية، تدفع الى الاعتقاد بأن البحور الشعرية التي استخلصها الخليل بن أحمد، في البداية، من خلال الوصف والاستقراء لا تمثل سوى امكانية من الامكانيات المتحققة الى جانب الاحتمالات الممكنة، أطلق عليها البحور المهملة. ولا يدل نظام الدوائر العروضية على الامكانيات الوزنية التوليدية فحسب، وإنما يشير الى تعالق بين النظام العروضي ورؤية وجودية خاصة تجعل من الدائرة تمثيلا للوجود.

ونجد في بحثنا عن المداخل العروضية المختلفة، وان لم تخرج هي أيضا عن النظرية التقليدية، مقاربة متميزة أساسها المحاكاة، سعى الى بنائها حازم القرطاجني، من خلال قراءة المرجعية اليونانية الارسطية، واستثمار مجهودات الكندي وابن سينا وابن رشد، بطريقة تدفعنا الى القول بأنه سما بالنقد من الفطرية والانطباع الى النظرية. ويمكن القول بأن تصوره لعلم العروض مبني على أساس التفاعل، لأنه تجاوز الفصل بين الصوت والمعنى. لقد ربط حازم، بإحكام بين محاكاة الموضوعات ومحاكاة المقاصد، كما ألح على ضرورة التناسب في بناء العلاقة بين الصوت والمعنى. وفي هذا السياق يذكرنا حازم القرطاجني بموقف صاحب الموسيقى، بخصوص مسألة التخييل: "تخييل الأغراض بالأوزان"، وفي كلمة ابن سينا استعمال لاصطلاحات من قبيل: المدة والزمن والصوت والسمع. ونجد أنفسنا بأزاء مقابلة دقيقة بين "المسموع من القول" و"المفهوم من القول"، وذلك ما يمكن تقريبه من خلال الاصطلاحية اللسانية: الدال والمدلول: "وهذا الذي ذكرته من تخييل الاغراض بالاوزان قد نبه عليه ابن سينا في غير موضع من كتبه، ومن ذلك قوله في الشفاء، وتعديد الأمور التي تجعل القول مخيلا: "والامور التي تجعل القول مخيلا: منها امور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن، ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول، ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول، ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم".(8)

إن قاعدة الفصل في طبيعة وقع التركيبات الوزنية في السمع، يرجع، بالدرجة الاولى، الى مبدأ التناسب، اثر الوقع الحسن في السمع هو علامة وسم القول بأنه من الشعر علاوة على النظام المحفوظ: "التأليف من المتناسبات له حلاوة في المسموع، ما ائتلف من غير المتناسبات والمتماثلات فغير مستحلى ولا مستطاب. يجب أن يقال في ما ائتلف على ذلك النحو الشعر، إن كان له نظام محفوظ لأننا نشترط في نظام الشعر أن يكون مستطابا".(9)

ولعل العجيب في تصور حازم القرطاجني لعلم العروض هو الربط الجدلي بين أنساق الاوزان والاحوال النفسية والعاطفية. وفي ربطه العضوي بين الوزن والنفس، عودة الى أصل الانفعال والحالة، وانعكاس كل ذلك على الجسد: تعبيرات السمات والملامح، طرق اللقاء... واستنادا الى مبدأ التناسب في تأليف الأقدار الوزنية، يقابل كل شكل من أشكال الانتظام الوزني بصفة من الصفات المعنوية: البساطة والسباطة والطلاوة... لتأويل وترجمة دلالة ما سماه الخليل بن أحمد الفراهيدي بالبيت الشعري: "فالعروض الطويل تجد فيه أبدا بهاء وقوة. تجد للبسيط سباطة وطلاوة. تجد للكامل جزالة وحسن اطراد. وللخفيف جزالة ورشاقة وللمتقارب سباطة وسهولة. للمديد رقة ولين مع رشاقة، للرمل لين وسهولة".(10)

وتفضي بنا فرضية الوصل بين الصوت والمعنى في تأليف المتناسبات الى علاقة مثمرة بين علمين أساسيين من علوم اللغة هما: علم العروض وعلم البلاغة، من باب العلاقة بين مسموع القول ومفهوم القول. غير أن التفكير في طبيعة هاته العلاقة، وسبل تطويرها سرعان ما يقطع، بالعودة الى الثنائية بين القديم والمحدث، أو الاصل والفرع. وهنا يكون للمعيار المنطقي دور أساسي في رفض وقبول المنجز الشعري، من خلال الاعتماد على الأسس التالية: - ما ثبت وما شك في ثباته0 ما لم يثبت بالوضع. ان مشروعية النظام حسب المقابلات المنطقية المعتمدة، إنما تنبع من مقولة الاستعمال، لكن الاستعمال، في هذا الموطن، له ارتباط بالماضي لا بالحاضر. وبناء على ذلك، نجد في القديم ثلاثة احتمالات:

1-المستعمل. 2- المشكوك في استعماله. 3- غير المستعمل. وحسب هذه الاستدلالات بالخلف لا نجد أنفسنا، الا أمام احتمال واحد هو الوضع. ولذلك نعتقد بأن الحد مبني على اساس المطابقة بين الاستعمال والوضع: "قد صح بالاعتبارات البلاغية في تناسب المسموعات وتناسب انتظاماتها وترتيباتها وكون المناسبات الوزنية جزءا يدخل تلك الجملة أن الأوزان المستعملة الآن عند أهل النظم- مما ثبت استعمال العرب له وما شك في ثباته، وما لم يثبت أصلا بل وضعه المحدثون قياسا على ما وضعته العرب....".(11)

ووفق هذا القانون الوصفي الذي سرعان ما يتحول الى قانون معياري، تعرض المحاولات التجديدية في الاوزان. ومن خلال استقصاء أصل تسمية علم العروض، يتوصل حازم القرطاجني الى علاقة عجيبة تكشف عن روابط عميقة بين العروض وفن العمارة. وبما أن المرجعية جاهلية فان العمارة، في هذا الموطن، لها اتصال بالخيام.

ان علم العروض، وفق هذا التصور، مجال تتفاعل في بنائه معارف من حقول متعددة هي التي أسهمت في تعميق طبيعة هذا العلم ووظائفه، وطرق الانتقال فيه من الوصف الى القيمة. والموسيقى، ضمن هذا الاطار، هي التي أسعفت في تدقيق الاصطلاحية في علم العروض، ووسعت معالجات الأوزان وعلاقاتها بالأحوال النفسية. أما البلاغة فقد أبرزت التعالق بين الصوت والمعنى. وإذا كان حازم القرطاجني قد سعى الى تفكيك آليات اشتغال المكونات الصوتية والمعنوية في البناء النصي الشعري، فإنه يمكن القول، اعتمادا على ذلك، بأنه أسهم في اعادة بناء علم العروض بتأصيل الأصول، بل انه لم يقف عند هذه الحدود بل حاول تطوير العلم من الداخل، لكنه لم يستطع تجاوز النظرية التقليدية.

واذا ما نحن امعنا النظر في العروض العربي فان الملاحظة الأساسية التي نسجلها هي أن علم العروض، كما أسسه الخليل بن أحمد الفراهيدي، بمصطلحاته وتقنياته وأجزائه وأنساقه قد ظل ثابتا، كما ظلت الاصول كما هي على الرغم من تنوع المحاولات على امتداد العصور، وبخاصة في العصر الحديث. لقد أسهم الانفتاح على الثقافات الاجنبية في تطوير مناهج البحث، والتعرف على أنساق وزنية مختلفة كان للمستشرقين دور كبير في التعريف بها، علاوة على اسهامه الملحوظ في تطوير الدرس العروضي العربي باستخدام الطرق والمناهج الحديثة. وقد افسح هذا الوضع الجديد أمام الدارسين العرب آفاقا لاقتراح بدائل للأسس العروضية القيمة. وكلها محاولات تستبطن رغبة علمية في اعادة معالجة القضايا العروضية، وتجديد الاصطلاحية، وتبسيطها، والاستفادة من معطيات علم الموسيقى وعلم الأصوات والفونولوجيا.

وسوف نتوقف عند أهم المحطات في هذا المضمار، لمعرفة العلاقة القائمة في هذه الاطروحات بين علم العروض وبين الموسيقى، ومفاهيم الايقاع في هذه الابحاث، لنتمكن استنادا الى المعطيات المستخلصة من ابراز امكانية او استحالة الحديث عن "قصيدة النثر« ضمن هذه الحدود والفرضيات، وكيف يمكن تجاوز هذه الفرضيات لفتح المجال امام هذا الشكل الشعري المغاير الذي يخلخل المفاهيم والتصورات السائدة؟ وضمن هذا الاطار، نبدأ بمحاولة د. محمد النويهي في كتابه: "قضية الشعر الجديد". يبرز في الفصل الاول الذي يحمل عنوان: "موسيقى الشعر« بوضوح مسألة تضمين علم العروض في علم الموسيقى، بطريقة التواتر، أي أنه لم يبحث في علم الموسيقى وأصوله، وطرق هجرة المصطلحات من الموسيقى الى الشعر. ولكنه يعود الى الفطرة والنشأة الاولى، وبالتالي الى لغة الحديث اليومية عندما يخلص الى ما يلي: "نستنبط من هذا ان موسيقى الشعر يجب أن تكون موسيقى موجودة بالقوة (متضمنة) في الحديث العادي لعصرها".(12)

ونتبين من طرق رصد هذه الموسيقى المتجلية في الشعر، فرضيتين تحكمان تصور د. النويهي من علم العروض هما: فرضية الرؤية الكلية الشمولية للقصيدة، وفرضية تجلي الموسيقى في القصيدة باعتبارها وحدة متماسكة، نلمس ذلك في التأكيد الموالي: "دعني ألح في تأكيد هذه الحقيقة: ان موسيقى القصيدة إنما توجد في هيكلها العام كوحدة، وهذا الهيكل يتألف من نمطين، نمط الأصوات، ونمط المعاني الثانوية التي تحملها الألفاظ".(13)

ومن المفيد التنبيه على ان هذا التصور المتمثل في الطريقة الخاصة في بناء علم العروض وأدواته، يقترن بموقف الدفاع عن الشعر الحر، أي الشعر التفعيلي بخاصة، لذلك فانه وإن غير جملة من الاجراءات، وتوفق في كثير من التطبيقات فإنه لم يخرج، هو الآخر عن النظرية التقليدية. ويظهر ذلك من خلال تبنيه لموقف الشاعر الانجليزي المجدد ت. س. إليوت الذي يقيم حدودا للتجديد، تنفي الكتابة الشعرية خارج الاوزان. وتأكيدا لهذا الموقف الخاص إن لم نقل الارتكاسي، يعود بنا الناقد الى تأصيل الأصل، وتجديد الولاء لما استقر في تعريف الشعر قديما وأصبح عنده من المسلمات التي لا يجوز المساس بها: "نحن نعرف ان الشعر كلام موزون (وهكذا عرفه علماؤنا القدامى، مضيفين الى تعريفهم شرط القافية الذي نرى الآن فيه رأيا مختلفا)، والوزن هو سمته التي تميزه عن النثر".(14) وعلى هذا النحو، يعود مجددا الى الاسس القديمة المعتمدة في تمييز الشعر عن النثر، أي الوزن، لكنه لا يقف عند هذه الأسس بل يتناول مكونا آخر يعتقد أنه فاصل بين الشعر والنثر هو مكون العاطفة والانفعال، ونظرا لاستحالة التمييز اعتمادا على هذا المكون، فإنه لا يجد محيصا عن قرن المكون أعلاه بمكون الوزن.

وإذا سلمنا بأن الموسيقى توجد أصلا في لغة الحديث اليومية، فان الفارق بين الشعر والنثر سرعان ما يتلاشى وينحل، لذلك يذكرنا النويهي بمبدأ النظام، وجريان الأقوال الوزنية وفق قوانين معلومة يتميز بموجبها الكلام الموزون المطابق للشعر في هذا التصور، مثلما يتضح من هذا التذكير: "والنثر أيضا يدخله تراوح، لكن التراوح الذي يحدث في النثر يأتي على غير نظام، يأتي كيفما اتفق بلا ترتيب ولا اطراد. أما التراوح الذي يأتي في الشعر فيتبع نظاما فيه ترتيب وتكرار، أو قل فيه ايقاع مطرد".(15)

ويثير انتباهنا أيضا الربط بين الانساق الوزنية والأحوال النفسية الشعورية، لأن هذا المكون الأساسي يتموضع في الكتابة بوصفه مكونا ضروريا: "فالوزن في الشعر ليس شيئا زائدا يمكن الاستغناء عنه، وليس مجرد شكل خارجي يكسب الشعر زينة ورونقا، وطلاوة وحلاوة..".(16)

وفي سياق الدفاع عن الشعر الجديد، مع الاحتفاظ بالوزن، يتبنى د. النويهي تصورا مختلفا للانتظامات الوزنية قائما على أساس النبر بوصفه جوهر اعادة بناء علم العروض وفق رؤية معتدلة تمارس التجديد بقدر مدورس كما يظهر من التلميح التالي: "ما ان نفكر في احتمال نظام ايقاعي آخر حتى يبدر الى خاطرنا نظام النبر على المقاطع".(17)

أما د. ابراهيم أنيس، فيؤكد، بصورة ضمنية وكما يتضح من خلال عنوان كتابه: "موسيقى الشعر« أيضا فرضية الموسيقى، والربط بينها وبين الشعر من خلال الوزن، لنحصل على تركيب: موسيقى الوزن الذي يماثل في هذا البناء العروضي الجديد موسيقى الشعر الموظفة لتجديد قوانين اشتغالها مصطلحات من قبيل الجرس والتوالي والتردد والانسجام: "وللشعر نواح عدة للجمال، أسرعها الى النفوس ما فيه من جرس الألفاظ، وانسجام في توالي المقاطع وتردد بعضها بعد قدر معين منها، وكل هذا ما نسميه بموسيقى الشعر".(18) يبنى الشعر، إذن، على أساس الانتظام والتكرار. ويبدو أن محاولة بناء العروض إنما تدور في فلك تأصيل الأصول، فالمبادئ الجديدة والاجراءات المقترحة تبعا لأوضاع المعرفة اللسانية الجديدة، إنما توظف للشرح والتفسير، والابقاء على البناء القديم. إننا نقف مجددا في هذه المحاولة العروضية على فرضية الحفاظ على التعريف القديم للشعر، بل واعتباره بدهية ومسلمة في تعيين هذا الشكل الكتابي وتمييزه عن النثر: "كان القدماء من علماء العربية لا يرون في الشعر أمرا جديدا يميزه عن النثر إلا ما اشتمل عليه من الأوزان والقوافي".(19)

ومن هنا، لا نعجب من الخلاصة التي يتوصل اليها عندما يقارن بين التعريف العربي القديم للشعر وبين التعاريف الحديثة، مفضلا التعريف القديم الذي يجعل من الوزن والقافية حدين مميزين مشكلين للخلفية الموسيقية الناظمة للرؤية العروضية المقترحة. وإذا كانت الخصائص الموسيقية حاضرة في الشعر والنثر على حد سواء فإن التوسل بالنظام هو المحدد للفروقات: "ففي كل هذا موسيقى ولكنها في الشعر أرقى، بل هي في الشعر أسمى الصور الموسيقية للكلام وأدقها، لأن نظامها لا يمكن الخروج عنه".(20)

إن أفق التجديد الوزني الذي يفتحه د. ابراهيم أنيس في كتابه جد ضيق لأنه لم يتجاوز الاطار العروضي القديم، ذلك أن كتابة الشعر خارج الوزن التقليدي، في تقديره، تكاد تكون مستحيلة. ووفق هذه الرؤية التقليدية، فإن ما قام به الشعراء في التجارب الرومانسية، بل وما قام به الشعراء المجددون اللاحقون، لا يعدو أن يكون تنويعا على الأصل: "أما في أوزان الشعر وقوافيه فلا نكاد نظفر من شعرائنا المحدثين بجديد، فقد غلبت عنايتهم بالأخيلة، وحرصهم على البراعة في المعاني، وأهملوا الموسيقى الشعرية".(21) ومع هذا الحكم القيمي، يشترط شروطا لابد من الالتزام بها وعدم تجاوزها في المحاولات التجديدية على الرغم من اشارته الى العلاقة المتينة بين اللفظ والمعنى، واحتمالات التحولات من الجرس الى الموسيقى الى المعنى الى الأخيلة. ومع اعتقادنا بأن محاولة د. ابراهيم أنيس تبقى في اطار النظرية التقليدية، فان رغبته في التجديد، واعادة قراءة تمظهرات الوزن في القصائد الشعرية بطرق مختلفة عما قرره الخليل بن أحمد الفراهيدي في علم العروض، تبدو واضحة جلية في كتابه: "موسيقى الشعر". لذلك وجدناه ينتقد كثرة المصطلحات وجدواها الاجرائية. علاوة على خطأ الأسس العلمية التي بنى وفقها الخليل علمه: "ولقد نهج الخليل في عروضه نهجا خاصا غير مؤسس على الأسس العلمية من الناحية الصوتية".(22) ويزداد الأمر تعقيدا إذا ما أمعنا النظر في الواجب في الانتظامات الوزنية والمباح والممنوع فيما يعرف بالزحافات والعلل، وتحول سريع من الوصفية الى المعيارية: "من كل هذا ترى أن العروض كما وصفه لنا القدماء قد لحق به غير قليل من الصناعة، وان قواعده قد عقدت وأسرف في تعقيدها".(23)

ويطرق ابراهيم أنيس مسألة شائكة تتعلق بطبيعة النظم العربي. ذلك أن أبحاث علماء العروض في لغات وآداب أجنبية مقارنة قد أفضت الى انساق كمية ومقطعية ونبرية. وفي اطار تجديد الدرس العروضي العربي كان اسهام المستشرقين في اعادة قراءة علم العروض، واقتراح طرائق في التحليل الوزني مغايرة، ملحوظا. ولذلك: "فلما بدأ المستشرقون يبحثون في الشعر العربي عدوه من الشعر الكمي، وحللوا الأبيات الى مقاطع بدلا من تحليلها الى تفاعيل كما صنع القدماء من علماء العرب".(24) ومن أهم مبررات التقريب بين الشعر الموسيقي في اللغة العربية، ارتباط نشأة الشعر بالانشاد بوصفه تحقيقا فعليا للوجود الخطي الحروفي: اللفظي والتركيبي والنصي. وتلعب المكونات الخطابية دورا بارزا في تحديد طبيعة الانشاد وشكله بما أنه ادراج لما هو شفهي فيما هو مكتوب: "وتختلف النغمة الموسيقية في الانشاد الجيد عند الاستفهام، وعند التعجب وعند الجمل الاخبارية التي يراد بها الاخبار عن أمر من الأمور او حدث من الأحداث، وهكذا تظل النغمة في صعود وهبوط مع الانسجام في درجة الصعود والهبوط بحيث اذا انتهى المعنى هبط الصوت وأشعر بانتهائه، واذا كان للمعنى بقية صعد الصوت واشعر السامع بوجوب انتظار باقيه".(25) وعلى هذا النحو، تتقدم الأساليب الانشائية كموجب لطريقة الانشاد ونوعيته مما ينقل مركز الملاحظة والمراقبة النظرية العلمية من اللغة الى الخطاب، غير ان ما نجد من هذه الخلاصة المنطقية تصور الانشاد نفسه، والذي لا يتعدى التعبيرية في اطار ما هو منسجم ومنتظم: "وهكذا تظل النغمة في صعود وهبوط". ان الربط بين الاسلوب وطبيعة الانشاد المستند الى المدة والدرجة والحجم هي التي دفعت د. ابراهيم أنيس الى تبني النبر كأساس موسيقي متضافر مع الوزن المكون الضروري في اقتراحه البديل.

وسنحاول الوقوف عند طرح أكثر جرأة ومغامرة، يجسده اقتراح د. كمال أبوديب. ولا ريب ان الاهداف التي يحددها في محاولة لتأسيس علم العروض بديل عن علم العروض التقليدي الذي أسسه الخليل، تبشر بآمال وطموحات كبيرة في خلخلة الانساق الوزنية، والانتقال بالتالي الى كشف محدودية الفرضيات القديمة، وطبيعة الرهانات والمصادرات. وفي استخدام نعت المغامرة لوصف المقاربة العلمية ما يجعلنا نقيس حجم الاحساس بنسبية الخلاصات والنتائج وان كانت اللغة التي تعرض بها البدائل لا تخلو من ادعاء وانفعال. ويهمنا ملاحظة تراوح موقف د. كمال أبوديب بين الدفاع عن العروض التقليدي، اذا تعلق الأمر بمناقشة من سبقه من المستشرقين، وفي مقدمتهم فايل الذي يحاول الناقد سعد مصلوح انصافه. وبين اثبات قصور علم العروض من خلال الاشارة الى تعقد المصطلحات، كما فعل د. ابراهيم أنيس ود. النويهي. وضمن هذا المنحى المتراوح، يمكن أن نقدر، حقيقة، تصريح الباحث بالدور العلمي الاشعاعي لمؤسس علم العروض، عندما يقول: "كان العقل الذي اهتدى أولا الى ادراك التشكيلات الايقاعية وأنماطها في القرن الثاني للهجرة، عقلا مكتنها مثقبا، يعود الى الجذور".(26) ولذلك يشدد على ضرورة الفصل بين موضوع الوصف: الشعر الجاهلي والاسلامي، وما تم استخلاصه من قواعد في اطار علم العروض، مما يدفعنا الى التساؤل عن المادة الشعرية التي ينطلق الباحث من وصفها والبرهنة عن اقتراحاته التي يريد لها أن تكون بديلا جذريا لعلم العروض الخليلي، خصوصا وأنه يذكرنا بطبيعة محاولته: "أود أخيرا أن أؤكد نقطتين: 1- ان بحثي ليس بحثا تاريخيا، ومن هنا لم أتناول كل قضايا الايقاع، ولم أكتنه ايقاع الشعر الحديث..."(27) لكن عوض ذلك لا يهتم بتحديد المتن الشعري موضوع استنباط القوانين. وهذا الغياب، في اعتقادنا، هو الذي تمخضت عنه عملية المطابقة بين الوزن والايقاع، كما يتضح من الضرورة الملحة كما يصوغها: "ينبغي إذن، اعادة صياغة الأساس النظري المطروح في (3) لتقرير ان الايقاع في الشعر العربي ينبع من الحدوث التتابعي لاثنين من ثلاثة نوى مكونة هي (--0) و(-0).(28)

وعلاوة على مطابقة الايقاع والوزن، يضمن د. كمال أبوديب العروض في الموسيقى تارة، وفي الرياضيات تارة أخرى: "هذا الانتظام الرياضي المدهش هو سر الايقاع العربي. من الواضح أن لكل بحر قيمته الرياضية المتميزة".(29)

وفي هذا الموطن بالتحديد، نسجل نتائج غياب تحديد المتن الشعري موضوع البحث في الأنساق الوزنية، كما تفصح عنه عبارة الايقاع العربي التي تشمل ما استنبط منه الخليل قواعد علم العروض، وما أنجز من بعده من القديم والحديث. وهنا يخالف الباحث ما قرره بداية: "مغامرة فصل حاد بين الواقع الشعري الفعلي وبين الصورة التي أبرز فيها هذا الواقع".(30)

ويستخدم لتوضيحه مصطلح الوحدة الايقاعية، ومصطلح القيمة العددية، مراهنا على الاحتمالات الوزنية للنظام الذي يقترحه بديلا جذريا، كما يوحي بأن الخلفية المعرفية لهذا الاقتراح العروضي هي الخلفية العلمية الوضعية، محاولا الوصل بين طرائق الانتظامات التكرارية داخل الانساق، وطرق التفكير في العالم لنصل الى المقابلة التعارضية بين العقلانية الوضعية والروحانية الصوفية من غير استيفاء الحقلين ما يستحقان من بحث وتمحيص واستقصاء. غير أنه، وعلى الرغم من محدودية المطابقة بين الوزن والايقاع، فان ما يطرحه من ضرورة اعادة الاعتبار لدور النبر في بناء الشعر العربي، من غير ان يسمح بتجاوز النظرية التقليدية، يعتبره توسيعا لابد منه، يجعل الايقاع اكثر مرونة مع الرغبة في صياغة ايقاع عام جامع تشترك فيه جميع اللغات: "ولا تزال دراسة الايقاع تجري في اطر ضيقة تتحدد بالشعر المكتوب بلغة معينة، ولا تتجاوز ذلك الى صياغة أسس عامة للايقاع الشعري باعتباره عنصرا حيويا لا يمكن أن يخلو منه شعر في أي لغة كتب".(31)

إن الاصطلاحية التي يوظفها د. كمال أبوديب في محاولة تأسيس علم عروض جديد هي، في اعتقادنا، تنويع وتفسير لما اشكل من اصطلاحية الخليل. وأما استثماره للمعارف الصوتية والفونولوجية والموسيقية والرياضية، وان كان يصف محاولته بالاختلاف والمغايرة، فانه لا يعدو أن يعتبر، بناء على صيغ التضمين المختلفة، تطويرا داخل النظرية التقليدية. وإذا كان الأمر في هذا الاقتراح العروضي الجديد لا يزال ملتبسا من حيث المصطلح والاجراء والاختبار فان الامر سيزداد صعوبة اذا ما انتقلنا الى تعميم الاقتراح وجعله انسانيا شموليا، فيما أطلق عليه: "علم الايقاع المقارن". إن من شأن التعميم أن يدفعنا الى القول ان الباحث سرعان ما وجد نفسه ينساق من الوصفية والاستقراء اللذين ألح وشدد عليهما في بداية البحث، الى المعيارية على الرغم من التخفيف من حدتها من خلال الحديث عن الاحتمالات الايقاعية للاقتراح البديل. وفي معرض المقابلة بين علم الخليل التأسيسي، وبين محاولات بعض الباحثين المحدثين الذين يتبنون النظرية الكمية، يقرر بأن الضعف والوهن كان حليفها نظرا لصحة الأساس التصنيفي المتجسد في اعتبار الشعر العربي شعرا كميا. وذلك ما يجزم به قائلا: "لقد أدت النظرية الكمية حتى الآن الى تعسف وقسر يتجاوزان بدرجات كل وجوه القسر التي وردت في عمل الخليل".(32) وفي اطار ابراز قصور الفرضية الكمية يتنبه الى اختلاف طبيعة ووظيفة المصطلح في الموسيقى منه في الشعر، كما يشير صراحة، فيما يأتي: "هناك فروق جذرية بين مفهوم الكمية في الموسيقى ومفهوم الكمية في الإيقاع الشعري. الوحدة الوزنية في الشعر بخلاف المقياس الموسيقي".(33) ويخلص من كل ذلك الى ان: "التحليل الكمي لإيقاع الشعر العربي الذي يعتمد على المزدوجة (قصير- طويل) قاصر لا يمكن تطويره".(34) ويورد بديلا عن هذا التحليل متمثلا في: "التفسير حسب النظرية النبرية« على أساس كونه: "منطقيا دقيقا". غير انه سرعان ما يعدل عن هذا الاختيار، مقترحا طرح مسألة الكم طرحا جديدا، جامعا بين النظرتين: الكمية والنبرية. وهذا مأزق يواجهه في محاولته بناء الايقاع العام. وننتقل الى معرفة صياغته النهائية للبديل العروضي: "ولعل أهم ما يعد به النظام المقترح هو امكان تناول ايقاع الشعر العربي من حيث هو حيوية نغمية موسيقية، ترتبط ارتباطا حميما بموسيقية اللغة وتركيبها الايقاعي، من جهة، وبطبيعة التشكيلات الموسيقية التي نمتها الفعالية الفنية العربية، من جهة اخرى".(35) ليعود، مجددا، الى المطابقة والتقريب بين الموسيقى والشعر: "الايقاع الشعري في معظم أنماطه، يشارك الايقاع الموسيقي في هذه الخصيصة الاساسية".(36)

واستنادا الى هذه المعطيات، يوضح د. سعد مصلوح البون الكبير، في موقف د. كمال أبوديب بين التصريح بالرأي والممارسة التطبيقية نظرا لغياب المراقبة الصارمة، كما يتضح من رفض نظرية الكم ثم اثباتها، أو التفريق بين حضور المصطلح في الموسيقى وحضوره في الشعر. ولذلك يؤكد د. سعد مصلوح بأن: "حمل الكم العروضي على الكم الموسيقي هو العمود والمرتكز الذي تستند اليه جميع آراء أبوديب وحججه في هذه القضية".(37)

ولا بأس أن نتوقف، أيضا، عند محاولة د. شكري عياد، الذي يثبت، في البداية، تعدد الدراسات العروضية التي أنجزها باحثون عرب أمثال د. محمد مندور، ود. ابراهيم أنيس، ود. محمد النويهي. اضافة الى ثلة من المستشرقين امثال فايل، وفرايتاج، وجاكوب...

ومن المفيد التنبيه الى أن د. محمد شكري عياد يفضل ان يطلق على مقاربته نعت المشروع، إيمانا بمخاطر البحث في هذا التخصص الذي لم يتأسس بعد بالصورة المطلوبة اذا ما قارناه بعلم العروض في لغات أجنبية كالانجليزية او الفرنسية تمثيلا. وهذا الواقع هو الذي جعله يعتبر: "الغرض من هذا المشروع إذن هو مواصلة الدراسة العلمية للعروض العربي من حيث توقفت: بتحديد المفاهيم الحديثة في هذه الدراسة تحديدا اكثر دقة، وعرض النظريات عرضا اكثر استيفاء، ومناقشتها مناقشة اكثر تفصيلا".(38)

ولعل أهم ما يلفت النظر، في بداية البحث، فرضية تضمين علم العروض في علم النحو، ويبدو، في تقديرنا، ان هذا التضمين يتعارض مع الاحتراز أعلاه الذي يستلزمه التأسيس الذي يقتضي بدوره، رسم حدود واضحة للعلم في استقلاله عن بقية العلوم، وان كان يتبادل معها التأثير والتأثر عكس ما هو وارد في التأكيد التالي: "ان قواعد العروض يمكن أن تلحق بالنحو، وتدرس على انها جزء متمم له، ولكن تعميق البحث في هذه القواعد لا يكون بتفصيل القواعد نفسها، فان ذلك مدعاة للتعقيد والعقم، وانما يكون بوضع هذه القواعد في سياق أكبر منها".(39)

ان الباحث يتبنى المنهج التاريخي النقدي في اعادة قراءة الأسس الفكرية والاصطلاحية لعلم العروض كما وصلنا عن الخليل، فينتهي الى أن التقسيم الى حركة وسكون لا يتناسب والمعطيات الصوتية في علم الأصوات الحديث فيما يخص الصوائت والصوامت، كما يبرز عدم استيفاء العروض الخليلي للمنجز الشعري القديم، لذلك يؤكد: "إننا بحاجة الى عرض العروض الخليلي، نفسه على استقراء جديد للشعر القديم، وهذه العملية أشبه بنقد داخلي لعلم العروض التقليدي، تكشف مقدار ما فيه من رصد للوقائع، ومقدار ما فيه من أوضاع قياسية".(40) ولعل من أهم النتائج التي تمخضت عنها هذه المراجعة العروضية ابدال التحليل القديم الى حركات وسكنات، وتفاعيل، وبحور بتنويع المصطلحات واستعمال الحديث منها: "وقد هيأ لهم اعتبار المقاطع أساس الاوزان العربية وضعا جديدا للعروض العربي يكشف عما فيه من مراعاة النسب، ولم يكن التقسيم الى أسباب وأوتاد أو الى متحركات وسواكن قادرا على كشف هذه النسب، التي لا تقوم أوزان الشعر، في أي لغة من اللغات بغيرها".(41) كما تقدم البعض أمثال د. محمد مندور وابراهيم أنيس وفايل... بفرضية النبر كأساس في بناء النسق الوزني، زيادة على كم المقاطع، مع ما يثيره تعريف النبر نفسه من اشكالات سواء على المستوى اللغوي او الشعري بالنسبة للغة العربية بخاصة. ويستنتج د. محمد شكري عياد، بعد التاريخ لمفهوم النبر ومواقعه في الشعر الى الخلاصة المركزية التالية: "ولا تخلو لغة من نبر، كما لا تخلو لغة من تنغيم (وبدهي أيضا ان المقاطع في أي لغة لا بد أن تستغرق كما من الزمن في النطق بها).(42) وعندما يعالج قضية تصنيف النظم العربي بالنظر الى الاقسام الثلاثة الكبرى: الكمي والمقطعي والنبري، يعتمد على مسألة الاشتقاق في اللغة العربية، ووظائف الحركات القصيرة والطويلة، للقول بأن النظم العربي نظم كمي: "ونحن أميل الى اعتبار اللغة العربية لغة كمية، للدور الذي تلعبه حروف المد في تغيير المعنى، وذلك واضح في اشتقاق اسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر والصيغ المزيدة في الأفعال".(43).

ومجمل القول ان الباحث لا يحيد في مشروعه العروضي هذا عن الاتجاه العام في دراسة الاوزان العربية، إذ يضمن بدوره الشعر في الموسيقى، مع التخصيص: موسيقى الشعر. علاوة على استخدام الوزن والايقاع بوصفهما مترادفين، كما يعتمد على الاجراء الاساس في التتالي القائم وفق مبدأ "الانتظام". وهذه الفرضيات نجدها مجتمعة في الكلمة التالية: "فالوزن او الايقاع يعرف اجمالا بأنه حركة منتظمة"(44) ومن بين ما يترتب عن هذه الفرضيات، حصر تعريف الايقاع، على الرغم من التفريع الثنائي حسب مبدأ "التساوي« كقانون إلزامي ومبدأ "التناسب" كقانون اختياري "ونستطيع ان نتبين نوعين من الايقاع الشعري: نوع يقوم على وحدات متساوية في مجموعها، وان لم تكن ثمة نسبة محددة بين الاجزاء التي تتكون منها هذه الوحدات، ونوع يقوم على وحدات يتألف كل منها من اجزاء بينها نسب محددة".(45) والملاحظ ان الخلاصة التالية التركيبية، تجعل د. محمد شكري عياد، يعيد النظر في تصنيف النظم العربي، اذ يخلص ، هذه المرة ، الى الجمع بين النسق الكمي والنسق النبري: "فالايقاع الشعري إذن يقوم على دعامتين من الكم والنبر، مهما تختلف وظيفة كل منهما في أعاريض اللغات المختلفة".(46) وان كان يعود، مرة أخرى لإبراز الموقف السابق القاضي باعتبار الكم أساس النظم العربي: "ان العروض العربي كما نرجح عروض كمي. أي أنه يقوم على التزام ترتيب معين ونسب ثابتة بين المقاطع الطويلة والقصيرة".(47) وعلى الرغم من حرص الباحث على الربط بين الصوت والمعنى فانه لا يخرج ، بدوره، عن اطار التعبيرية.

ولعل الاستنتاج الذي نخلص إليه من خلال بحث الأسس التي تستند اليها هذه الأبحاث العروضية، هو عدم قدرتها على الخروج عن الاطار الابستيمولوجي لعلم العروض، كما أسسه الخليل بن أحمد، أي انها تنحصر في اطار الوزنية. ومن ثم يمكن الحكم عليها بأنها تندرج في اطار النظرية التقليدية، مما يعني انها في أوضاعها الراهنة لا تستطيع التصدي للقضايا الايقاعية والتخييلية التي تطرحها قصيدة النثر. والبديل، في اعتقادنا، الذي يمكن من الخروج من هذه الوضعية المتأزمة، هو الانتقال من النظرية التقليدية الى النظرية الحديثة، أي الشعرية التي يدافع عنها هنري ميشونيك، والتي يتقدم في اطارها بطرح جديد للايقاع يتجاوز ما هو متداول في علم العروض.