- كان الاهتمام بالنظم الشفوي في الغرب ثمرة من ثمرات دراسة شعر هوميروس، إذ حاول الدارسون معرفة الطريقة التي نظم بها شعراء الملاحم ملاحمهم. وقد فتحت نظرية ملمان باري في النظم الشفوي آفاقا جديدة في دراسة الملاحم، وحقق مستخدموها نتائج باهرة في التعرف على تقنيات بناء الشعر الملحمي.تنبّه عدد من دارسي الشعر الجاهلي إلى إمكانية الاستفادة من هذه النظرية في الكشف عن طريقة النظم التي اتّبعها الشاعر الجاهلي، فكتب جيمس مونرو مقالته حول النظم الشفوي في الشعر الجاهلي جيمس مونرو (النظم الشفوي في شعر ما قبل الإسلام-مشكلة الموثوقية، ترجمة وتقديم: إبراهيم السنجلاوي ويوسف الطراونة، مكتبة الكتاني، إربد، 1987).وقد حلّت هذه النظرية مشكلة الموثوقية التي أثارها مرجليوث وطه حسين في النصف الأول من القرن العشرين، كما أنها أحدثت ضجة كبيرة بين الباحثين باتباعها منهجا جديدا مبنيا على دراسة القصائد الجاهلية نفسها وتحليلها. وصار من الممكن في ضوئها التمييز بين الشعر الجاهلي المبني على النظم الشفوي، وشعر العصور التي تلته، والتي انتشرت فيها الكتابة.بدأت قضية موثوقية الشعر الجاهلي عند ابن سلام الذي ميّز الشعر الصحيح من المنحول. ولمّا أثيرت هذه القضية في القرن العشرين بنى الذين ردّوا على تشكيك طه حسين في الشعر الجاهلي ردودهم عبر تقديم أدلة خارجية في الأغلب، أما بعض الحجج المبنية على أدلة داخلية فاتخذت من النصوص الأدبية مصادر للمعلومات التاريخية، لكنها لم تنظر إلى قوانين النَّظم الداخلية في بناء القصيدة. ما يعني الحاجة إلى نهج جديد ينبني على دراسة القصائد الجاهلية وتحليلها في ضوء نظرية جديدة هي نظرية النظم الشفوي. وهذا ما فعله مونرو الذي افترض أنّ الشعر الجاهلي شعرٌ شفوي، ثم حاول إثبات فرضه عبر تطبيق نظرية النظم الشفوي المعاصرة على هذا الشعر، ومقابلة الطبيعة الشفوية للشعر الجاهلي بطبيعة الشعر الإسلامي اللاحق.تلخّص نظريةُ النظم الشفوي طبيعةَ الشعر الشفوي، وأساليبه الفنية التي تميّزه بوضوح عن الشعر المكتوب. وتتمثّل هذه النظرية في أنّ الشاعر الشفويّ ينظم خلال عملية الأداء نفسها، أي أنّه يرتجل، وهو يفعل ذلك بسرعة فائقة إذا أراد أن يشدّ انتباه الجمهور الذي يواجهه مباشرة. كما أنه يمتح من ذخيرة واسعة من الصيغ التراثية التي سبق له أن تمكّن منها وأجاد استخدامها. ويعرّف ملمان باري الصيغة بأنها مجموعة من الكلمات التي توظف بانتظام تحت الشروط الوزنية نفسها، لتعبّر عن فكرة جوهرية. ويُعَدّ تكرار الصيغ في القصيدة مؤشرا قويا على أنها نُظمت شفويا. والقصيدة التي تُنظم شفويّا تظلّ في حال سيولة، ويُعاد خلقها في كلّ أداء جديد. مع ملاحظة أنّ لغة الشاعر الجاهلي متكلّفة، وذات معجم خاص يرتقي فوق اختلاف اللهجات. يذهب مونرو إلى أنّ اختلاف روايات القصيدة الواحدة في الشعر الجاهلي يدلّ على طبيعته الشفوية، فالشاعر الذي ينظم شعره شفويا قد ينسى بعضه عندما يعيد إنشاده، فيعبّر عن هذا «البعض» بصيغ أخرى، ما يجعل القصيدة الواحدة تتعدّد صورها. وقد كان العرب في إنشادهم الشعر يلوّحون بالأقواس والعصيّ، ويفسّر الباحث هذه العادة بأنّ مثل هذه الأدوات مساعدات إيقاعية كان الشعراء يستعملونها ليضبطوا إيقاع قصائدهم المنظومة شفويا.إضافة إلى هذه الدلائل الخارجية التي أوردها، يقدّم مونرو دليلا داخليا على شفوية الشعر الجاهلي؛ فإذا كان الشعر عموما مبنيا على شكل أو آخر من أشكال التكرار، فإن الخاصية المميزة للشعر الشفوي هي أنّ مجموعات لفظية معينة (قوالب صيغية) تتردّد بكثرة في هذا الشعر، وهذا ما يبرز في الشعر الجاهلي. ففيه قوالب صيغية تتكرّر حرفيا؛ كقول كل من امرئ القيس ولبيد «عفت الديار» في أكثر من نصّ شعري. وكتكرار جملة: «وقد أغتدي والطير في وكناتها» في شعر عنترة وامرئ القيس أكثر من مرة. كما يَرِدً نظام القالب الصيغي نفسه بتكرار الصيغة مع استبدال لفظ منها، يكون مساويا في القيمة الإيقاعية للمستبدل منه، ما يؤدي إلى خلق قالب جديد مشتق من قالب أصلي. والشاعر الجيد لا يكرّر القالب الصيغي حرفيا. فقد ورد عند زهير: «لا رشاء له»، كما ورد القالب نفسه مع بعض التغيير في قوله: «لا فكاك له». وهو قالب جعله النابغة: «لا ارتجاء له». مع التأكيد أن كل صيغة من الصيغ الثلاث قد تكررت أكثر من مرة عند كل منهم. ويتحدث مونرو، إلى جانب نظم القوالب الصيغية، عن بنية القالب الصيغي، كما يتطرق إلى المفردات التقليدية التي ترتبط اشتقاقيا، وهي تنقل أفكارا جزئية ورئيسة ذات دلالات تراثية محددة في الشعر الجاهلي: كذكر «الوحي» عند الشاعر الجاهلي في معرض الوقوف على الطلل. ويشير بعض المهتمين بالموروث الشعري الشفوي إلى أنه يمكن الكشف عن تمايزات محلية وإقليمية وقبَلِيَّة وحتى فردية في أسلوب الشعر الشفوي، على الرغم من الصبغة المشتركة للمخزون الصيغي في أي تراث، والتشابه الظاهري لمخزونه التراثي المشترك. وتدعم دراسة القوالبُ الصيغية في الشعر الجاهلي هذه النظريةَ بقوة، لكن السؤال هنا: كيف استطاع الشاعر الجاهلي اكتساب ذخيرة واسعة من القوالب الصيغية، بحيث تكون كافية لينظم شعرا على خمسة عشر وزنا؟ أي هل كان الوزن الشعري يمتلك ذخيرته المميزة من القوالب الصيغية، أم إنّ القوالب الصيغية وُجدت سابقة على الأوزان؟ وقد بينت دراسة مونرو أنّ نظام القوالب الصيغية هو الذي يحدّد البحر في الشعر العربي. ومن منظور النظرية المركزية للقوالب الصيغية، يبدو واضحا أن التعقيد الفني للعروض العربي هو استجابة لنظام القوالب الصيغية بكل بساطة.كشف مونرو عبر تحليل القوالب الصيغية في كل بحر من بحور الشعر العربي منفردا، عن قاعدة عامة، هي أنّ مترادفات معينة تنحو إلى الورود المتكرر في أوزان شعرية معينة، في حين أن مترادفات أخرى لا تنحو هذا النحو، ما يفضي إلى ظاهرة الاقتصاد اللغوي عند الشاعر الجاهلي. ولما كانت القوالب الصيغية سابقة في الوجود على البحور، وموجودة في ذهن الشاعر –على نحو غير واعٍ غالبا- قبل أن ينطق فعليا ببيت من الشعر وبمساعدة الإيقاع، فإن الشاعر حينئذ ينظم هذه القوالب الصيغية لينتج وزنا معينا. ولعل فهم هذا المبدأ يقود إلى تفسير الاختلالات الوزنية في الشعر العربي بطريقة أسهل بكثير من التصنيفات المرهقة التي طورّها العروضيون العرب في العصور الوسطى. وهي تصنيفات تصف الزحافات المسموحة في كل بحر من دون أن تفسّر السبب الأساسي لذلك، والمتمثل في أنّ عملية تبديل الكلمات المتساوية صوتيا ضمن الصيغ النحوية الشائعة في اللغة العربية تفضي إلى ظهور صيغة أو بنائية تحتوي على اختلالات وزنية طفيفة. ولما كان الشعراء الشفويون ليسوا مجرد آلات، فإن هذه العملية تنحو لأن تَحْدُثَ بشكل متكرر، إذا ما وضعنا في البال أن هؤلاء الشعراء لا وقت لديهم لصقل نصوصهم أو تنقيحها.عمد الباحث إلى الكشف عن نسبة القوالب الصيغية المكررة في الشعر الجاهلي، وذلك من خلال مختارات ممثلة للشعر الجاهلي مؤلفة من أشعار الجاهليين الستة الكبار: النابغة، وعنترة، وطرفة، وزهير، وعلقمة، وامرئ القيس، إضاقة إلى شعر لبيد، والمختارات العامة «المفضليات». وكانت العينة المختارة من البحر الطويل والكامل والوافر والبسيط على التوالي، بعد أن أظهرت إحصاءات سابقة أنّ حوالي 95 في المئة من شعر ما قبل الإسلام قد جاء على هذه البحور الأربعة. وأهم النتائج التي استخلصها مونرو بعد التحليل الإحصائي، أن معدل القوالب الصيغية المشتركة في العينات الأربع المدروسة -التي تشكل أكثر من 95 في المئة من الشعر الجاهلي، بلغ حوالي 87 في المئة، في حين بلغ حوالي 9 في المئة فقط من شعر المحدثين الذين يعرفون القراءة والكتابة. وهو ما يؤكد أن الشاعر الجاهلي يستخدم القوالب الصيغية أكثر من ما يستخدمها الشاعر المحدث بأضعاف. وتتوافق نتيجة هذه الدراسة مع النتائج التي انتهت إليها الدراسات الشفوية على الآداب الأخرى.ومن النتائج أن القوالب الصيغية التي استخدمها الشاعر الجاهلي تنتمي إلى مخزون جمعي. لكن هذه الحال لا تنطبق على الشاعر المحدث، ما يثبت أن الشاعر الجاهلي قد استخدم وسيلة فنية تعتمد على القالب الصيغي أكثر من اعتمادها على الكلمة المفردة. وهذا ملمح يميز الشعر الشفوي التقليدي، ويفسّر صعوبة التمييز بين أسلوب شاعر وآخر من الشعراء الشفويين. وعلى العكس من ذلك يمكن التمييز بسهولة بين أسلوب شاعر محدث، كالمتنبي مثلا، وشاعر آخر كأبي نواس، لأن قصائد الشعراء الذين يعرفون الكتابة تعتمد على ابتكاراتهم الخاصة في الأسلوب أكثر بثلاث مرات من الشعراء الشفويين.وخلص مونرو إلى أنه ينبغي النظر إلى شعر ما قبل الإسلام بناء على الشواهد الداخلية، بأنه شعر موثوق بصحته، بعد أن أصبح واضحا أنّ ما حُفظ منه من المحتمل ألاّ يكون تسجيلا دقيقا لما قاله شاعر عظيم يوما ما، ولكنه يعطي صورة قريبة إلى حدّ كبير، حرّفتها ظروف النقل الشفوي التي قامت فيها عمليتا التذكر والتخلص من الرواسب الوثنية بدور فاعل. وينبغي أن تُقْبَل الروايات المتعددة للقصيدة الواحدة على أنها صحيحة، ذلك أن البحث عن نص أصلي دقيق في حالة الشعر الشفوي يبدو «مطاردة يائسة».ومما خلص إليه أيضاً أن نظرية النظم الشفوي تتيح الفرصة للبتّ بشأن القصائد المشكوك بموثوقيتها، وذلك بإخضاعها إلى تحليل القوالب الصيغية، فإذا ثبت أنّ اشتراك القصيدة المشكوك بصحتها مع القوالب الصيغية الأكثر استخداما عند الشاعر المنسوبة إليه القصيدة كان قليلا، فإنه يمكن قبول افتراض انتحالها من قِبَل شاعر إسلامي متعلم، وإلا فالعكس صحيح.قد يخطر في أذهان بعضنا أن هذه النظرية تحيل الشعر الجاهلي إلى ضرب من الآلية وتجميع الصيغ، وتجرّد الشاعر الجاهلي من الإبداع. لكن النظم الشفويّ لا ينفي الإبداع عن الشاعر، فالشاعر لا يتقيّأ ما يحفظه من مخزون صيغي، بل يوظفه للتعبير عن فكرته، ويجعل لهذه القوالب مذاقا خاصا، وقد يخلق نظما صيغية جديدة غير تلك التي حفظها.

إنتهى النقل


----




بعض ما تم تناوله في الرقمي على أنه مجرد تمرين كثيرا ما أجده أساسا لنظرية أو كتاب. ومن ذلك التمرين :
http://www.arood.com/vb/showthread.php?t=4754
الذي يتقاطع مع لب طرح الدكتور كمال أبو ديب.
على أن هذا النص الذي نبه نشره أستاذي لحسن عسيلة في صفحته يتقاطع بشكل كبير جدا مع موضوع تم التطرق له مرار في العروض الرقمي بل أفرد له فيه منتدى خاص بعنوان ( بحور وتراكيب )
http://arood.com/vb/forumdisplay.php?f=191
وكلمة تراكيب في الموضوع مطابقة في المعنى تماما لكلمة ( قوالب صيغية )
أرأيتم يا أهل الرقمي ؟