لم أطلع على هذه المقالة لأستاذتي ثناء صالح إلا قبل قليل. فليتها تواصل هنا وهناك.

http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=83910


لا نظرية فوق النقد
عندما تتطور نظرية علمية ما، فإن مسار تطورها يتبع بشكل عكسي مسار ثغراتها.وهذا يعني أن النظرية لا تولد كاملة ،بل تولد وهي محملة بما هو زائد أو ناقص عن مكوناتها من الافتراضات الذهنية التي علقت بصياغتها في عقل مبدعها ،فتكون النظرية العلمية في هذا الوقت المبكر من تاريخها أشبه بمادة خام مجهزة للصناعة. ثم إذا أخذت النظرية تتعرض لنار النقد والنقد الذاتي، بدأت فيها عملية التنقية والتصفية، حتى تكشف أخيراً عن طبيعتها الحقيقية التي ستأخذ طريقتها الخاصة والمميزة في التبلور، والذي سيحدث حتماً شاء صاحبها أو أبى .

وإن أهم المعوّقات النفسية البشرية التي قد تؤخِّر النظرية عن الوصول إلى تلك المرحلة من التبلور بشكل سلس وسريع، هو محاولة تهريبها من ناري النقد والنقد الذاتي ، سواء من قبل مبدعها نفسه انتصاراً لرأيه على حساب الحقيقة، أو من قبل المدافعين عن النظرية بوصفهم حاشية الملك الحريصين على بقاء الحاشية.
وكما هو دور حاشية الملك في حال كفاءة أفرادها أو عدم كفاءتهم، ينعكس دور الحاشية بالتصفيق أو بالتدقيق .
ولربما يمنع صوت التصفيق (الملك) من الإنصات الجيد لمعارضةٍ ما، كان الإنصات إليها سيحثه على الإصلاح الذاتي قبل أن يقوم به سواه.


ويساهم في توجيه انتباه المبدع لصوت التصفيق لا لصوت النقد، أنَّ سيكولوجية الإبداع تتضمن شعور المبدع بتميزه وتفوقه في قدراته العقلية في قرارة نفسه.
وهذا الشعور يرسّب عنده قناعة بأن رأيه هو المصيب دائماً. ويعزز شعورَه هذا أن يخوض حواراتٍ هامشيةً هو المنتصر فيها مع ناقدين غير متمكنين. فهذا يفقده ثقته بجدارة ناقدي نظريته بنقدها . ثم ينعكس ذلك سلباً على أدائه عندما يسمع بوجود من ينتقد نظريته، إذ يستعلي نفسياً عن الإنصات الحقيقي إلى ذلك النقد، أو إلى وجهات النظر الأخرى، حتى ولو اضطر لإظهار سلوك الإنصات ظاهراً.
ويكون هذا الوضع أكثر صعوبة عندما تكون النظرية في العلوم الإنسانية لا العلوم الطبيعية أو الأساسية. ففي العلوم الإنسانية ومنها (علم العروض الرقمي) يتوقف التفاعل الإيجابي بين مبدع النظرية وناقدها على مستوى التفهم الذي يبديه كل منهما تجاه طرح الآخر، والذي يجب أن يتجلى أخيراً بالتسليم بالبرهان العقلي
.

وهكذا، فبدلا من خضوعهما كليهما لسلطة (البرهان) التي تعني التجرد والموضوعية -كما هو الأمر في العلوم الأساسية - يبدأ الطرفان( المدافعون عن النظرية ونقادها ) بتبادل الاتهامات التي تدور في معظمها حول التهافت واللاموضوعية، أو ما يمكن تسميته (بالنقد الانطباعي) الذي لا يصلح حتماً وبأي شكل من الأشكال لنقد العلم.

فمع عدم القدرة على تقبل النقد الذي سيساهم في إنضاج النظرية من جهة المدافعين عنها، ستعلو الأصوات بكلام دفاعي هلامي غير دقيق لا يهدف إلا لتحويل مجرى الحديث عن الثغرات الحقيقية، والتي تنطوي عليها النظرية، ليصب في هوامش خلافية غير ذات أهمية.
وهكذا وبتوجيه أصابع الاتهام لناقد النظرية وإحباط مهمته، يكون المدافعون عنها قد وقفوا عقبة في طريق تبلورها ونضجها .


إن الفهم غير الصحيح لوظيفة النقد والنقد الذاتي، وأهميتهما كنشاط عقلي بشري ترتكز عليه كل عمليات التطور والتنمية البشرية ،من قبل المدافعين عن جمود النظرية بادعائهم كمالها وترفعها عن النقد ، يحوّل مساحة الحوار النقدي من مختبر حقيقي بُنِيَ أصلاً لتمحيص وتدقيق شروط النظرية الإنسانية بهدف بلورتها وإنضاجها، إلى منبر للكلام الدعائي المتأرجح، يستعرض فيه كلا الطرفين(المدافعين والناقدين ) عناوين ذاتية انزياحية، لا يملك أي طرف منهما الرغبة في الغوص في مضامينها.


بضاعة الاتهامات الجاهزة

إن المياه الجارية المتدفقة بقوة تمنعنا من رؤية ما في قاع النهر من حجارة أو طحالب. بينما تصفو المياه الراكدة لتشف عما في القاع من تلك المرئيات المترسبة منذ زمن.
فعدم تجدد المياه وإن كان يُمكِّنك من مدِّ يدك لتناول ما ترغب به من رواسب القاع، إلا أنه يحرمك من متعة الانتعاش بحيوية التدفق، وترقب ما قد يحمله التيار المتجدد من كائناته الحية . وهكذا يبدو الأمر تماماً، مع بضاعة التهم الجاهزة المترسبة في قاع حوض العروض الرقمي ، من أمثال تهم( التأثر بالتفاعيل، والنقد الانطباعي، والرؤية التجزيئية، واللامنهجية ...) ، ....يتبع