أثمة حاجة بعد للخط العروضي ؟
تأملات في الخطوط المتبعة في الكتابة العربية

من الَمعروف أنّ الرَسم الكِتابيّ المُتَّبَع لَدَينا منذ ما قَبل الإسلام كان مأخوذا عن الخَطّ النَبَطيّ المُشتَق بِدَوره من الخَطّ الآراميّ . وقد طَوّر العَرَب الخَطّ النَبَطيّ حين رأوا أنّ نِظامه الأبجدي كان مُفتَقِرا إلى رُموز لحُروف المَدّ والحَرَكات القَصيرة ، فاستَعاروا لحُروف المَدّ رُموز الألِف والواو والياء الصِحاح ولم يَعبأوا بوَضع رُموز للحَرَكات القَصيرة إلى أن وَصَل الأمر إلى أبي الأسوَد الدُؤَلي ( ت 69 هـ ) وقد رأى ما آلت إليه حال العَرَبيّة من تَفَشّي اللَحن نَتيجة لاختِلاط العَرَب بالأعاجِم فقام عام 67 للهِجرة ، بتَكليف من زِياد أمير العِراق ، بنَقط أواخِركلمات المُصحَف بمِداد مُختَلِف نَقط إعراب . ثمّ استَمَرّ الأمر على ذلك بين كُتّاب المَصاحِف حتى جاء الخَليل بن أحمَد ( ت 175هـ ) فأحدَث أول عَمَليّة إصلاح جَوهَري للكِتابة عبر ابتِكاره لثَماني عَلامات للتَشكيل هي الفَتحة والكَسرة والضَمة والسُكون والشَدّة والمَدّة وعَلامة الصِلة والهَمزة ، فاستَغنى كُتّاب المَصاحِف بهذه العَلامات عن نَقط أبي الأسود . ولم يَقِف الأمر عند هذا الحَدّ فقد زاد العُلَماء بعد ذلك عَلامات لضَبط المُصحَف على ما يُوافِق قِراءة حَفص ، فتمّ بذلك وقاية كِتاب الله من اللَحن وعُصِم من الزَلَل في القِراءة .
لكنّ هذا التَطَوُّر في الكِتابة لم يَمَسّ رَسم المُصحَف الذي لم يكن يُقاس عليه ، فكان أن عَكَف عُلماء الرَسم على تَطوير خَطّ آخَر اصطَلحوا فيه على قَواعد لرَسم الكَلِمات كما تُلفَظ ، آخِذين في الاعتِبار حالَتَي الابتِداء والوَقف عليها . وقد صار هذا الخَطّ يُعرَف بالخَطّ القِياسي أو النَحوي أو الإملائي تَمييزا له عن خَطّ المُصحَف الذي ظَلّ وَقفا عليه وبات يُعرَف بالخَطّ العُثمانيّ أو التَوقيفيّ أو الاصطِلاحيّ .
ومع أنّ الخَطّ القِياسيّ لم يَتَخَلّص تَماما من كَثير من مَظاهِر القُصور في الخَطّ النَبَطيّ المَوروث إلا أنّه أفاد كَثيرا من عَلامات التَشكيل الثَمانية التي وَضَعها الخَليل وإن كانت هذه العَلامات قد شَكَّلَت عبئا إضافيّا على النُسّاخ نَتيجة تَكَبُّدهم عَناء وَضع عَلامة أو أكثر فَوق كلّ حَرف . ولقد كان من المَزايا التي تَرافَقَت مع ظُهور الطِباعة وتَطَوِّرها في العَصر الحَديث أن أصبح من المُمكن تَزويد لَوحة المَفاتيح برُموز الهَمزة في جَميع أشكالها بالإضافة إلى رَمز المَدّة ، وبذلك تَمّ اختِزال عَلامات الخَليل لتُصبِح ستّة بَدلا من ثَمانية .
وفي مُحاولة منّي حَديثة لتَجَنُّب مَشاقّ التَشكيل الكامِل الذي واجَهتُه عند تَحقيقي لكِتاب العَروض للزَجّاح عَمَدت إلى مَزيد من الاختِزال لما تَبَقّى من عَلامات الخَليل مع الاقتِصاد في استِخدام الحَرَكات القَصيرة الثلاث وذلك على النَحو الذي أشَرت إليه في حاشية مُقَدِّمتي للتَحقيق بقَولي :
" اتّبَعت لضَبط هذا النَصّ أقصى دَرَجات الاقتِصاد في استِخدام عَلامات الشَكل ، فاستَغنَيت عن عَلامة السُكون باعتِبار أنّ تَعرية الحَرف من الحَرَكة يَدُلّ على سُكونه ، ولم أثبت رَسم الحَرَكات القَصيرة قبل أحرُف المَدّ باعتِبار أنّ هذه الحُروف هي حَرَكات خالِصة في ذاتها . ولم أُثبِت الشَدّة التي تُشير إلى الإدغام وخاصّة في الحُروف الشَمسيّة بعد لام التَعريف لعَدَم اللَبس في ذلك لمن لِسانه العَرَبيّة ، وكذلك امتَنَعت عن تَشكيل الحَرف السابِق للتاء المَربوطة لأنّه لا يَتَجاوز الفَتحة ، وقََّللت ما أمكَن من إثبات الحَرَكات التي تَدُلّ عليها بوُضوح أحكام رَسم الهَمزة . ولم يُشَكِّل خُلوّ لَوحة المَفاتيح من رَمز الوَصل قُصورا في عَمَليّة الشَكل ؛ لأنّ خُلوّ الألِف منه قبل لام التَعريف وفي أوَّل الكَلِمات التي تَبدأ بصامتَين نَحو ( استَفهم واستِفهام ) ، لا يَعني التِباسه بحُروف المَدّ التي لا تَبدأ بها الكَلِمة في العَرَبية . وعلى نَحو من هذا يُمكن النَظَر إلى الألِف الفاصِلة للتَفريق بين واو الجَمع وواو النَسَق على قَول جَماعة من الكوفيّين . أما فيما يَتَعَلّق بعَلامات الإعراب فلم أُثبِت منها إلا ما بدونه يَغمُض المَعنى ويَلتَبِس على القارئ العاديّ " .


الخط العروضي :

وثَمة رَسم أخَر لا يُقاس عليه أيضا ؛ لأنه مَقصور على كِتابة الشِعر بما يُساعِد على بَيان عَروضه ، وهذا الرَسم هو الذي يُسمي الخَطّ العَروضيّ . ورُبّما يَتساءل المَرء عن السَبب الذي من أجله ابتَكَر الخَليل هذا الخَطّ في وَقت كانت فيه جُهوده مُنصَبّة على تَطوير الخَطّ النَبَطيّ إلى أن أصبح أكثَر قُدرة ومَنطِقيّة في وَصف جَميع وَحَدات اللُغة الصَوتيّة للعَرَبيّة .
وللإجابة على هذا التَساؤل يُمكن القَول إنّ الخَليل كان في فِكرة الخَطّ العَروضيّ يَهدِف إلى تَوخّي سَبيل مُباشِر وبَسيط لإثبات كِتابة كل ما هو مَنطوق بدون أن يَتَكلّف كِتابة ما لا يُنطَق ، الأمر الذي يُؤكّد على أنّ نَظرته للخَطّ الإملائي كانت لا تَزال مُحاطة بالشَكّ في قُدرته على وَصف عَروض الشِعر وذلك لما رآه من عَجزه عن التَخُلّص تَماما من رِبقة التَرِكة التي خَلّفها الخَطّ النَبَطيّ .
وخِلافا للخَطّ القِياسي نُلاحِظ أنه يُراعى في الخَطّ العَروضيّ الاهتِمام بكِتابة الكَلِمة وَفقا لوَزنها العَروضيّ بغَضّ النَظَر عن كَون هذا البِناء يَتَضَمّن جُزءا من هذه الكَلِمة أو يَمتَدّ لأكثَر من كَلِمة واحِدة تُشَكّل حُروفها مُجتَمِعة كَلِمة جَديدة فتَبدو مُغايِرة للكِتابة المألوفة . فإذا أضَفنا إلى ذلك ما ذَكَره العَروضيّون من شُروط لهذه الكِتابة نَحو سُقوط كلّ ما لا يَظهَر على اللِسان في مِثل ألِف
" قال ابنُك " أو ألِف ولام " قال الرَجُل " وإثبات ما لايَظهَر في الخَطّ القِياسيّ كفَكّ التَضعيف في الحَرف المُشَدّد وكِتابة التَنوين نونا ساكِنة زاد الأمر إذن غَرابة وبُعدا عن الأُلفة في هذا الخَطّ . بل إنّ الأمر ليَشتَطّ في بُعده عن المألوف في الكِتابة حين يَلجأ بَعض العَروضيّين إلى كِتابة بَعض أحرُف الكَلِمة مُراعاة لقَواعد الإدغام وهو ما لَفت نَظري في بَعض كُتُب العَروض كإقناع الصاحِب وعَروض الرَبَعيّ .
وسأورِد فيما يَلي بَيتا لطَرَفة بن العَبد أثبِته أوّلا بالخَطّ القِياسيّ ، على نَحو يُظهِر تَقطيعه وَفقا لوَزنه العَروضيّ ، ثم أُتبِعه بخَطّه العَروضيّ ، يَليه تَفعيله ، قال طَرَفة :
سَتُبدي/ لَكَ الأيّا/مُ ما كُنـ/ـتَ جاهِلاً ========= وَيأتيـ/ـكَ بِالأخبا/رِ مَن لَم/ تُزَوِّدِ
سَتُبدي لَكَلأيْيا مُماكُنْ تَجاهِلَنْ==========وَيأتي كَبِلْلأخْبا رِمَلْلَمْ تُزَوْوِدي
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ==========فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فمن هذا المِثال إذن يَتَبَيّن لنا سُهولة الخَطّ القياسيّ ومُرونته في إظهار الوَزن العَروضيّ للشِعر ، إذ نَراه يَقسِم شَطرَي البَيت إلى الأجزاء التي يَتَألّف منها وَزنه ، ولا نُضطَر مع ذلك إلى تَغيير مألوف الكِتابة لتَتَطابَق الأحرُف في الكَلِمات مع وَزن التَفعيلة العَروضيّة . ومن المُمكن أن يَرمز فيه إلى الحُروف المُتَحَرّكة والساكِنة على النَحو الذي تَتَبَيّن منه المَقاطع اللُغوية للبَيت كما يلي :
55|5| / 55|5|5|/55|5|/55|55|| 55|5|/55|5|5|/55|5|/55|55|
حيث يُرمز للمُتَحَرّك بالرمز ( 5 ) وللساكِن بالرَمز ( | ) كما قال ابن عَبد رَبّه في أُرجوزته العَروضيّة :
فما لَها من الخُطوط البائنةْ دَلائلٌ على الحُروفِ الساكِنةْ
والحَلَقاتِ المُتَجَوِّفـــاتِ عَلامةٌ للمُتحَرِّكـــــــاتِ
ونحن نَرى مثل ذلك عند الأوروبيين في وَزنهم لأشعارهم ، حيث نُلاحظ أنّهم يَفصِلون بين التفاعيل feet بخُطوط مُفرَدة single lines وبين الشَطرين بخَطّ مُزدَوج double line , وفي الوَقت ذاته يُحافِظون على نَسَق الكِتابة العادية بلا تَغيير يُذكَر في الخَطّ .
وفيما يَلي مِثال على ذلك من قول شكسبير :

U ` U ` U ` ` U U ` U
To be, | or not | to be || that is | the ques tion …
الخَط القياسي إذن قادِر على التعبير عن الوَزن بنَفس دِقة الخَطّ العَروضي وخاصّة حين نُعنى بتَشكيله تَشكيلا كاملا . ومَسألة التَشكيل الكامل باتت نِسبيّة في ظِل تَوَفّر قَواعِد مُعيّنة تُقَلّل من عَدَد الحُروف التي يَلزَمها التَشكيل ، كما أن من المُمكِن تَعريف الحاسِب الإلكتروني بهذه القَواعِد في أيّ بَرنامَج لوَزن الشِعر بحيث يُمكن بأَقلّ قَدر من التَشكيل تَحديد الشَكل المَقطَعيّ للبَيت الشِعريّ ومن ثم التَعرّف على وَزنه وبَيان زِحافاته . كلّ هذا من غَيرأن نُضطَر إلى إعادة كِتابة كلّ بَيت من الشِعر كِتابة عَروضيّة ، لأنّ النِظام قادر على التَعَرّف على الوَزن ومُتَغَيّراته من خِلال استيعابه لهذه القَواعِد . أفتبقى إذن ثَمّة حاجة للخَطّ العَروضيّ ؟