نظرية الخليل وصلتها بأوزان الشعر الشعبي

أقام الخليل بن أحمد(ت 175 هـ) نظريته في العروض العربي بناء على استقراء شبه كامل للشعر العربي كما وصل إليه في عصره . ومن المؤكد أنه لم يكن إذ ذاك قد شهد مخاض الشعر الشعبي وإن كان من المحتمل أن يكون عرف طورا من أطوار نشأته الأولى بالبصرة التي كانت تعج بالعجم من كافة الأمصار الإسلامية في القرن الثاني الهجري. ولقد استحدثت بعد الخليل أوزان في الشعر الشعبي عرف بعضها بأسماء كالمواليا والقوما والكان وكان، وكانت في أول نشأتها مرتبطة أشد الارتباط بأوزان الخليل ولم تخرج كثيرا عن مبادئ نظريته في العروض.
وكان أن اتخذ هذا الشعر من الموسيقى حليفا دائما له؛ فلم يكد الناس حتى زماننا هذا يستمعون إليه إلا من خلال الغناء وحده، ثم إنه كان من أثر هذا الحلف الوثيق أن بات الشعر الشعبي أكثر جرأة على ارتكاب جوازات جديدة من الزحافات والعلل التي لو وقعت في الشعر الفصيح لُعدّت من الكسر . وسأحاول فيما يلي رصد ما توصلت إليه من مظاهر انحراف بعض الأوزان من الشعر الشعبي واختلاف جوازاتها عن مثيلاتها من أوزان الشعر الفصيح ليتبين لنا مدى الافتراق بين النوعين:
أولا: تشتيت الوتد:
إن من أجرأ هذه الجوازات ما نلمسه من تفتيت لنقرتي الوتد في النسق الوزني وتشتيتها إلى ثلاث نقرات متتابعة وذلك من نحو ما نجده في أغنية "زوروني كل سنة مرة" التي ألفها محمد يونس القاضي على مجزوء الوافر ولحنها سيد درويش، وفيما يلي تقطيع للشطر الأول منها
زُ/رو/ني/كل|لِ/سَ/نَ/مر/را
فأنت تلاحظ أن الوتد قد توزع على ثلاثة مقاطع قصيرة هي اللام والسين والنون بدلا من مقطعين قصير فطويل، وهو ما يستحيل وقوعه في الشعر الفصيح ، ومع ذلك نجده مقبولا في هذه الأغنية .
ولقد لاحظت هذه الظاهرة في أبيات من البحر البسيط لبيرم التونسي لحنها الشيخ زكريا أحمد، ومنها قوله:
الأوله في الغرام والحب شبكوني
والثانية بالامتثال والصبر أمروني
فالباء والشين والباء من قوله (والحبِّ شَبَكوني) هي ثلاثة مقاطع على الوتد نشأت من جراء تفتيته. وكذلك الحال في الراء والهمزة والميم من قوله في الشطر الثاني (والصبرِ أَمَروني) .
كما لاحظتها في موال من غناء محمد عبد الوهاب ، قوله :
مسكين وحالي عدم من كتر هجرانك
يللي هجرت الوطن والأهل علشانك
ففي قوله (والأهل علشانك) ثلاثة مقاطع قصيرة انحل إليها الوتد إلى ثلاثة مقاطع قصيرة بدلا من مقطعين قصير فطويل.
وقد انتبه الأستاذ مسعود شومان إلى هذه الظاهرة نسبيا عند تقطيعه لأبيات بيرم ومنها الشطر التالي :
إللي المرة معوماه كالفلك على ماجي
وقراءتي لهذا الشطر( إن كانت صحيحة) تبين تفاعيله على النحو التالي:
إللي المَرم/عوّماه/كالفُلكِ عَلَ/ماجي
وتفعيله: مستفعلن فاعلن مستفعِلَلُ فَعْلن
بينما كان تفعيله لدى الباحث الفاضل (وفقاً لقراءته للشطر) على هذا النحو:
مستفعلن فاعلان مستفعللن فعلن
وفي قراءتي للشطر يظهر جليا الانحراف في تحديد مقاطع الوتد على النحو الذي لمسناه في الشاهدين السابقين ؛ بينما يبدو لي في قراءة صاحب البحث ما يؤدي إلى ظهور كسر في وزن الشطر عند بيرم وهو ما أنزهه عن الوقوع فيه.
( انظر دراسة الأستاذ مسعود القيمة بموقعه الخاص على الرابط التالي :
( http://masoudshoman.jeeran.com/beram1.doc

ومن الممكن لنا أن نتلمس التبرير الملائم لظاهرة تفتيت الوتد في كونه لم يخالف شروط الكم الموسيقي الذي يتساوى فيه زمن مقطعين قصير فطويل بزمن ثلاثة مقاطع قصيرة ، وذلك من خلال المعادلة التالية : المقطع الطويل = مقطعين قصيرين . غير أن هذه المعادلة لا تعمل في الشعر الفصيح إلا في السبب الثقيل من بحري الوافر والكامل فيما يعرف بزحافي العصب والإضمار ، وكذلك في بحر الخبب، ولا مكان لها في الوتد على الإطلاق.
ثانيا : قطع الوتد:
وظاهرة قطع الوتد معروفة في بعض ضروب الشعر الفصيح ، وهي تعني حذف المقطع القصير من وتد تفعيلة الضرب . غير أنا نلاحظ في كثير من نماذج الشعر الشعبي أن هذه الظاهرة تقع في حشو بعض أبياته نحو ما غنته فيروز من بحر الرمل، قولها:
في لنا يا حبّْ خيمة عالجبل===ناطْرة تانزورَها بليلة غزل
راكْعة الغيماتْ عند حدودِها===وتارْكة النجماتْ عاسطحا قُبل
ففي الكلمات التي شكلنا بعض حروفها بعلامة السكون مواضع للوتد جرى فيها حذف مقطعه القصير، وهو ما يمكن أن يعود إلى وضعه الصحيح بحذف السكون واستبداله بالحركة نحو: يا حبُّ، ناطِرة، راكِعة، وتارِكة. فالمسألة تتعلق إذن بالإنشاد ، وهي شائعة في إلقاء بعض المنشدين لقصائد من الفصيح وكذلك في الغناء نحو ما تلاحظه في البيت التالي، وهو من البسيط :
يا نازح الدارْ قد هاجت بنا فينا===أشواقنا لليالٍ في مغانينا
فالوقوف على الراء من كلمة(الدار) يقطع وتد (فاعلن)الواقعة في الحشو، إلا أن هذا المسلك لا يعمل على كسر الوزن بل ربما عمل على تنويع الإيقاع فيه.
ثالثا :تبادل المقطعين الطويل والمديد:
يتألف المقطع الطويل من حرفين متحرك فساكن، نحو(كَمْ، ما، لَوْ) وأما المديد فيتألف من ثلاثة أحرف متحرك فساكنين، نحو (بَحْرْ،بابْ،بَيْتْ). وقد لاحظنا كيف أن المقطع المديد كان بالإنشاد يعمل على قطع الوتد في حشو بعض الأبيات، إلا أنه في هذه الظاهرة الأخيرة أصبح يتبادل المواضع مع المقطع الطويل؛ حيث المقطع الطويل = المقطع المديد وهو ما لاحظناه في تفاعيل الشطر الذي أورده الأستاذ مسعود من أبيات بيرم التونسي ، وفيه حلت (فاعلان) محل (فاعلن) دون أن نشعر بحدوث أي خلل في إيقاع البيت.
وأخيرا ، فأنا أتفق مع الأستاذ مسعود شومان في بحثه المشار إليه أعلاه بأن" دراسة الإيقاع في الشعر الشعبي تحتاج إلى أدوات تحليل جديدة تكون قادرة على وصف هذا الإيقاع" ، وحبذا لو طبقنا هذه الأدوات على كافة نماذج الشعر الشعبي والعامي بمختلف لهجاته من المحيط إلى الخليج ، وتحديد صلتها بشواهد من الشعر العربي الذي اشتقت منه .