في العروض – وربما في سواه – فإن كثرة المعلومات بلا منهج لاوخاصة إذا كانت مجمعة مثل شعير البياع تجعل من يتجاوز بها العروض إلى علم العروض يقع في [[ أخطاء – والقوسان إشارة مني إلى ما لاحظته منها]] كثيرة وقد يعوض عن غياب المنهج باستعمال لغة واصطلاحات جديدة تزيد الأمر ((تخبيصا))
هذا مقنطف من مقال للأستاذ جوزف بوشرعة يمثل ذلك ((التخبيص))
https://mana.net/15471#respond
********************************************************
المقتطف من المقال

فجوات العروض الخليليّ
يمكن حصر الفجوات القائمة في النّظريّة الخليليّة في علم العروض بثلاث: الفجوة الاختزاليّة، الفجوة التّنظيميّة، والفجوة الاشتقاقيّة.
1- الفجوة الاختزاليّة
تظهر الفجوة الاختزاليّة على مستوى المقاطع حيث تتمثّل باختزال القيمة الصّوتيّة للحركات في اللّغة العربيّة. إذ يعمد الخليل إلى حصر المقاطع العربيّة في نوعين: [[المقطع القصير (/)، والمقطع الطّويل (/0) –{ يرجع إلى ثغرة العروض}. ويبدو أنّ الفجوة الاختزاليّة تقوم تحديدًا في المقطع الطّويل [[حيث لا يتمّ التّمييز بين المقطع المتوسّط والمقطع الممتدّ، فيجمعانِ جمعًا رياضيًّا في ما يُسمّى المقطع الطّويل]]. والحقّ أنّه يمكن حصر المقاطع العربيّة في ثلاثة أنواعٍ:
– المقطع القصير (صامت + صائت) (CV)
– المقطع المتوسّط (صامت + صائت + صامت) (CVC) ]]
[[– المقطع الممتدّ (صامت + صائت طويل) (CV)
فالمقطع الممتدّ هو مقطعٌ طبيعيٌّ، أي إنّه جزءٌ جوهريٌّ من الكلمة، نحو: في، ما، لا، (أ)بي، دو(د) إلخ…. ولا يمكن تغييره (أو حذفه) إلاّ تبعًا لحالاتٍ صرفيّةٍ (كالجزم، نحوَ لم أرَ، أو النّصب لن يشكيَ)، حيث تحدّده في العربيّة أحرف العلّة الثّلاثة (ا، و، ي)، وتحديدًا إذا اتّخذت حركةً متجانسةً معها (كقولك رُوح، لا نَوْم، أو رحِيم، لا كقولك عَيْب) وإلاّ لأصبح شبه صائتٍ أو شبه صامتٍ «Semi-vowel/semi-consonant». أمّا المقطع المتوسّط فهو الذي يتألّف من حرفٍ متحرّكٍ يليه حرفٌ ساكنٌ، نحو: شَوْك، شَكٌّ، قَلْبٌ، لَوْ إلخ…. [[وهذا المقطع الصّوتيّ هو أقلّ طولاً نسبيًّا من المقطع الممتدّ، لكنّ ذلك لا يجعله لا ممتدًّا ولا قصيرًا بل متوسّطًا ما بين الإثنينِ. ]] بينما يتمثّل المقطع القصير بالحرف المتحرّك (بَ، لَكَ، ضَرَبَ، إلخ…)، حيث إنّ مدّة النّطق به هي أقصر من النّطق بالنّوعَيْن السّابقين. وثمّة مقاطعُ مصطنعةٌ تولّدها حساسيّة الشّاعر، وهي مؤلّفةٌ من (صامت + صائت طويل + صامت) (CV:C)، أو (صامت + صائت قصير + صامت + صامت) (CVCC)، حيث تساوي هذه المقاطع الطّويلة المقطع المتوسّط والمقطع الممتدّ مجتمعينِ، كقول أبي العلاء المعرّي (من السّريع):
بِتُّ أسيرًا في يَدَيْ بُرهَةٍ، تسيرُ بي وقتيَ، إذ لا أسيرْ (CV:C) (المعرّي، 2000، ص 460)
وقد عرف العروضيّون هذا المقطع، وعدّوه في نظامهم من علل الزّيادة (التّذييل والتّسبيغ) التي تلحق الضّرب في البيت الشّعريّ الكلاسيكيّ. ويبدو أنّه مع تطوّر أشكال التّعبير الشّعريّة ظهرت مقاطعُ مصطنعةٌ جديدةٌ لم تعرفها القصيدة العربيّة. ولهذا السّبب يشير روجر فينش «R. Finch» إلى وجود ثنائيّةٍ باطلةٍ تهيمن على دراسات علم العروض العربيّ (أي ثنائيّة الطّويل/القصير)، بينما يكمن الصّواب في اعتماد ثنائيّة المفتوح/المغلق، ويقترح تقسيم الشّعر الكمّيّ إلى قسمينِ: كمّيّة المدى «durational»، وكمّيّة التّناسب «proportional»، حيث ينتمي الشّعر العربيّ إلى النّوع الأخير (Finch, 1984, p. 48). ولكنْ هل سيلغي هذا التّقسيم الفجوة القائمة؟ لا أعتقد ذلك.
وهكذا إنّ احتساب المقاطع الطّويلة خاضعٌ لعمليّةٍ اختزاليّةٍ. وأضف إلى هذا الاختزال اختزال المقاطع نفسها حيث «يتألّف المقطع العروضيّ من حرفينِ على الأقلّ وقد يزيد إلى [[خمسة أحرفٍ»]] (عتيق، 1987، ص 18). وقد أشرت إلى هذه المسألة في سياق الكلام عن أسس علم العروض، إذ أقام الخليل معادلةً بين الحركة والسّكون، وهذا الأمر يرتبط [[بسوء تنظيم المادّة]].
2- الفجوة التّنظيميّة
ترتبط الفجوة التّنظيميّة ارتباطًا شديدًا بالفجوة الاختزاليّة وتتجاوزها. فقد لاحقت مشاكل التّنظيم علم العروض منذ نشأته، وتتمثّل إحداها بقيمنة السّكون، أي إعطاء قيمة للسّكون بوصفها مادّةً قائمةً في ذاتها بدلاً من كونها وسيطًا للمادّة. وتبرز هذه القيمنة في تحديد المقطع العروضيّ في النّظام الخليليّ المُشار إليه أعلاه، فالسّكون ليست بذاتها وحدةً للقياس منفصلةً عن الصّوت، بل إنّها الوسيط الذي يجري فيه الصّوت. [[كما تظهر فجوة التّنظيم في ابتكار عددٍ كبيرٍ من الزّحاف ]] والعلل، وهي مشكلةٌ تنظيميّةٌ حاول البعض حلّها من ضمن العروض الخليليّ (موسى، 1998، ص 31-66). لكنّ محاولات التّصحيح من ضمن النّظام الخليليّ لا يمكن الاستناد عليها لحلّ مشكلة التّقييس التي اعتمدها الخليل في نظريّته والمتمثّلة بوضعه تفاعيلَ أساسيّةً تامّةً ليقاس عليها الوزن الصّحيح، حيث ثمّة أصلٌ وفرعٌ يتحكّمان بالنّظريّة الخليليّة. كما يبرز ذلك في سياق الدّوائر العروضيّة، فدائرة المختلف مثلاً تبدأ بالطّويل، «وقُدِّمَ الطّويل فيها لأنّ أوّله وتدٌ وأوّل كلُّ واحدٍ من البحرين الآخرين سببٌ، والوتد أقوى من السّبب فوجب تقديمه عليه» (التّبريزيّ، 2008، ص 37). ويبدو أنّ هذه الفجوة التّنظيميّة ترجع إلى أسسٍ فلسفيّةٍ انطلق منها الخليل في أثناء وضع نظامه العروضيّ، وبذلك نصل إلى الفجوة الاشتقاقيّة.
3- الفجوة الاشتقاقيّة
إنّ منبعَ هذه الفجوة هو[[ نمط تفكيرٍ قروسطيٍّ مهووسٍ في تحديد الأصول،]] ولعلّ فكرة تحديد الأصول هي التي دفعت الخليل إلى استحداث الدّوائر. وفي النّظام العروضيّ الخليليّ ثمّة خمس دوائرَ: دائرة المختلف (الطّويل، والمديد، والبسيط)، دائرة المؤتلف (الوافر والكامل)، دائرة المجتلب (الهزج، والرّجز، والرّمل)، دائرة المشتبه (السّريع، والمنسرح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمجتثّ)، دائرة المتّفق (المتقارب، وقد ضمّ إليها المحدثون المتدارك) (قاسم، 2002، ص 120-122). وقد أدّى هذا النّظام الاشتقاقيّ إلى توليد أوزانٍ شعريّةٍ جديدةٍ (تمامًا كنظام التّقاليب الذي اعتمد الخليل في معجمه كتاب العين وأدّى إلى توليد جذورٍ جديدةً دُعيت مُهملةً)، إذ يقول التّبريزيّ في المضارع:
«ولم يُسمع المضارع من العرب ولم يجئ فيه شعرٌ معروفٌ، وقد قال الخليل: وأجازوه.» (التّبريزيّ، 2008، ص 82)
لكنّ الخليل قد فتح بذلك النّظام بابًا جديدًا أمام التّجديد، فقد استحدثت الدّوائر أوزانًا جديدةً [[لينظم عليها الشّعراء قصائدهم، كالأوزان المهملة أو المستحدثة من قلب الدّوائر العروضيّة (المستطيل، الممتدّ، المنسرد، وغيرها)]]. كما أتاح التّفنّن في القصيدة، حيث ظهرت أساليبَ شعريّةً جديدةً، كالتّشريع، وهو «أنْ يبنيَ الشّاعر بيته على وزنين، من أوزان القريض، وقافيتين، فإذا أُسقط، من أجزاء البيت، جزءًا أو جزأين صار ذلك البيت من وزنٍ آخر غير الأوّل» (عتيق، 2014، ص 105). إنّما كلُّ ما له بدايةٌ له نهايةٌ، إذ لأنّ النّظام الاشتقاقيّ التّوليديّ الذي طرحه الخليل انطلق من مادّةٍ محدّدةٍ فكان لا بُدَّ من امتدادات وتغييرات هذه المادّة أنْ تكون محدودةً. لهذا السّبب يكون التّجديد من ضمن النّظام الخليليّ ضيّقًا بل محدودًا.
نحو تطوير علم العروض العربيّ
وهكذا نصل إلى السّؤال المحوريّ في هذا المقال: هل يمكن إصلاح علم العروض العربيّ؟ ليس الجواب على هذا السّؤال أمرًا سهلاً، إذ يتضمّن مقدّماتٍ عديدةً. والحقّ أنّ العديدَ من الأكاديميّين والمستشرقين قد حاولوا إمّا التّفكّر من ضمن النّظام الخليليّ، إمّا تجاهله بالكامل، وإمّا محاولة الاستفادة من النّظريّة الخليليّة والمعطيات التي جمعها الخليل لوضع نظريّته. فالثّابت أنّ محاولات استبدال العروض الكمّيّ هي محاولاتٌ تأبى الخضوع لها طبيعة اللّسان العربيّ، لذا يكون الانطلاق من عمل الخليل ضرورةً. ولكنْ أين يكمن التّطوير؟
حتمًا ينطلق التّطوير من فجوات النّظريّة الخليليّة، وتحديدًا من الفجوة الاشتقاقيّة التي شكّلت منطلق عروض الخليل. وفي هذا الإطار يكتب إبراهيم أنيس:
«والغريب في أمر الخليل ومن نحا نحوه أنّهم افترضوا للأوزان أصولاً تطوّرت أو تغيّرت حتّى صارت إلى ما روي فعلاً في الأشعار. فقد افترضوا أنّ أصل البحر المديد هو:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن
مُدّعينَ أنّه ورد في الشّعر وقد سقطت منه التّفعيلة الأخيرة، ولعمري كيف تصوّروا هذا؟ ومن أينَ جاؤوا بمثل هذا الادّعاء! كما افترضوا أنّ الأصلَ في بحر الوافر:
مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن
[[غيرَ أنّ هذه التّفعيلة الأخيرة في هذا الوزن لم تردْ على هذه الصّورة أبدًا. وكذلك افترضوا أنّ بحر الهزج كان في الأصل – {يراجع هرم الأوزان – بحور المحور 12}}:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
لكنّه لم يردْ إلاّ مجزوءًا أي سقطت منه التّفعيلة الأخيرة. وقالو شيئًا مثل هذا عن البحر السّريع فزعموا أنّ أصله:
مستفعلن مستفعلن مفعولات
لكنّ تفعيلته الأخيرة لم تردْ إلاّ مقصوصة الأطراف وفي صورة “فاعلن”. هذا وقد جاء الخليل بوزنيْنِ غريبَيْنِ أنكرهما الأخفش، وأكّد عدم ورودهما عن العرب وهما بحرا المضارع والمقتضب.» (أنيس، 1952، ص 51-52)
فالاشتقاقيّة هي التي تميّز النّظريّة الخليليّة في العروض العربيّ. وهذه الاشتقاقيّة هي التي يمكن تجاوزها إذ ما أراد المرء التّجديد أو الإصلاح العروضيّ. كذلك تفصل الاشتقاقيّة النّظريّة الخليليّة في العروض عن قيمة العمل الوصفيّ الذي قام به الخليل. لذا لا بُدّ من التّخلّص من النّظام الاشتقاقيّ الذي يهيمن على العروض العربيّ،[[ والإقرار باعتباطيّة الوحدات النّغميّة العربيّة أو التّفاعيل.]] إنّ الأوزانَ وعدد التّفعيلات هي أمورٌ اعتباطيّةٌ، وليس ثمّة من مغزًى عروضيٍّ في البحث عن أصولها، هذا إنْ امتلكت أصولاً. فالنّظام الاشتقاقيّ يطرح أصولاً وهميّةً من ابتداع صاحبه، أي الخليل، ثمّ يسقطها على العروض،[[ ويسدّ فجوات هذا النّظام بتقييس بحورٍ شعريّةٍ مستحدثةٍ ]] بدلاً من الاعتماد على العمل الوصفيّ المحض القائم على المعطيات المتوفّرة. بخاصّةٍ أنّ علم العروض هو علمٌ موضوعه حيٌّ، أي خاضعٌ للتّحوّلات والتّغيّرات وليس مادّةً جامدةً. ففي المسار التّاريخيّ للشّعر العربيّ خضعت القصيدة العربيّة لتبدّلاتٍ، وستخضع لها طالما لا يزال اللّسان العربيّ يُدرّس ويُعلّم ويُكتب به…، لأنّ معينَ هذه التّحوّلات هو الإنسان في أزمنته وأمكنته وتجاربه. [[لذا ستظهر أشكالٌ لامتناهيةٌ من القصيدة العربيّة، وأنغامٌ وتفاعيلُ مستحدثةٌ]] تألف لها الحساسيّات الفنّيّة الجديدة. ولكنْ ماذا عن الفجوات الأخرى؟
على الرّغم من [[الأهمّيّة الهدّامة لهذه الفجوات]] فهي لا تلعب دورًا محوريًّا في محاولات الإصلاح والتّجديد العروضيّ. فإصلاح الفجوتينِ الاختزاليّة والتّنظيميّة لنْ يتيحَ توليد أشكالٍ جديدةٍ للقصيدة العربيّة، لكنّه سيسمح بتوضيح طبيعة الأصوات العربيّة لتتلقّفها الحساسيّة الفنّيّة فتنظم على ضوء إدراكها شعرًا عربيًّا جديدًا.
خاتمة
إذن على الرَّغم من الفجوات التي تعرض علم العروض الخليليّ، تبقى هذه النّظريّة محاولةً اختزاليّةً ناجحةً، ولكنّها منقوصةٌ. فقد حاول الخليل من خلال نظريّته الاشتقاقيّة الإحاطة بكلّ المعطيات الشّعريّة التي جمعها بيد أنّه سقط في [[التّنظير الفارغ ]] محاولاً سدّ الفجوات العَمَليّة. أمّا طرح استبدال الشّعر الكمّيّ بشعرٍ نبريٍّ أو مقطعيٍّ فهو طرحٌ لا يراعي خصائص اللّسان العربيّ، لذا وجب التّأسيس على عمل الخليل والاستعاضة عن نظريّته الاشتقاقيّة التّوليديّة باعتباطيّةٍ تسلّم بها هو قائمٌ بدلاً من المحاولات القروسطيّة في البحث عن الأصول. فالتّسليم [[باعتباطيّة الأوزان ]] أمرٌ أساسيٌّ لتحرير علم العروض من الحدود الموضوعة عليه ليتلاءم مع الأذواق الفنّيّة الجديدة والتّجارب الشّعريّة المعاصرة.