بين الأصالة والفوضى
http://www.aliwaa.com/Article.aspx?ArticleId=269927

رحم الله الخليل بن أحمد الفراهيدي، فقد قضى حياته في دأب ونصب، حتى تمكن من وضع علم العروض، على قواعد ثابتة، واصول متكاملة، تصونه من العبث، وتبعده عن الاضطراب، وتبقيه لمواكب الأجيال العربية اللاحقة، مقياساً دقيقاً يجنب طلابه الزلل والخطأ، ويساعدهم على صوغ مشاعرهم، وفق وحدة موسيقية متناسقة الجرس والإيقاع.
وذهب الخليل، وبقي علم العروض أساساً يبني عليه كبار شعراء العرب خرائدهم وأبكارهم، لا يعيبونه، ولا يشذون عنه، ولا يخرجون على أحكامه، ولا يفكرون في إيجاد طريقة جديدة تقوم مقامه، ليقينهم أن طريقة الخليل، هي الطريقة المثلى، وأن قيثارته صالحة لكل زمان، وقادرة على التعبير في صدق ويسر وانسجام، عن كل ما يجول في الذهن من أفكار وخواطر، وعن كل ما يكنه القلب من أحاسيس وخلجات وانفعالات.
بيد أن فئة من حملة الأقلام عندنا، رأوا وما زالوا، غير هذا الرأي، وما فتئوا يدعون إلى التحرر من ضوابط هذا العلم ومقاييسه، زاعمين أن هذه الضوابط والمقاييس، تقيد الفكر، وتغل العواطف، وتحد من طاقة الخيال على التحليق في آفاق التجديد والابتكار. ولهذا طلعوا علينا ببدعة «الشعر المنثور».
وهب بعض الغيارى على العلم واللغة، يناهضون هذه البدعة الدخيلة على الشعر، ويحضون على التمسك بعمود الشعر، ويثبتون بألف دليل قاطع، أن الشعر المتنكر للوزن والقافية لا يعد شعراً، وإنما هو خواطر أو نثر قد يحلق فيه كاتبه، أما ذلك الشعر المتفلت المزعوم فيضع بأصحابه، في رصفهم كلماتهم بينها ما يشاءون من نقاط وعلامات تعجب واستفهام، ويطلقون عليها ما يحبون من أسماء. أما الشعر بمفهومه الصحيح، وبديباجته المشرقة، وبنغمته الموسيقية المتلائمة، فهو بعيد عنها، وبراء منها.
وثمة موجة غريبة ثانية تتلاطم على صخور أدبنا العربي على العموم، ثم تتكسر وترتد إلى شاطئه اللامتناهي، وتتلاشى على رماله الذهبية، هي موجة اللهجات العامية الضيقة الأفق، التي نادى باستعمالها بدلاً من الفصحى، عدد من المبشرين باليسر والسهولة، والنافرين من كل صعب وعسير، باسم «العفوية» والحياة!.
ثمة كتابات بإحدى اللهجات المحلية لا تكاد تنفع أصحابها، تجنح إلى التوصيل والترقيع، وتنتابها موجات من النغولة والرطانة البغيضتين.
إنها كتابات لا ترهف حساً، ولا تولد أفكاراً، فالأدب عموماً والشعر خصوصاً يصقلهما العلم وتغذيهما الممارسة، وتزيدهما تجارب الحياة قوة وإبداعاً.
ونسأل بعض الكتاب، وبعضهم من ذوي الإبداع والعبقرية: لماذا لم يطبقوا نـظرياتهم العروضية أو اللغوية على ما نشروه قبل خروجهم على الأصول وحتى بعده؟ وهل العروض الخليلية - في نظرهم - ضيقة متشائمة لا ترى حولها إلا الضعف والعلل؟.
لسنا من المتعصبين لكل قديم، ولكننا من دعاة الأصالة والجمال في الشعر والنثر، وفي كل فن من الفنون، وعمل من الأعمال وقد قال المبدع الفرنسي الكبير أندريه جيد: الفن (كل فن) يعيش في القيود ويموت في الحرية (ويعني الفوضى)!.
د. جهاد نعمان
أستاذ في جامعة القديس يوسف