وصلني هذا الموضوع في إيميل من أخي وأستاذي سليمان أبو ستة مشكورا.

أنشره كما وصل مع ملاحظة خلل في بعض المواقع لعله راجع إلى اختلاف خط آيات الذكر الحكيم.

وجدت الموضوع لاحقا على الرابط :

http://mogasaqr.com/wp-content/uploa...9%85%D9%90.pdf


التَّرَاْكِيْبُ الْعَرُوْضِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ[1]
سجلتها وفرغتها وضبطتها
نهاد مجدي
gaheza584@yahoo.com
تمهيدية الماجستير بقسم النحو والصرف والعروض
من كلية دار العلوم ، بجامعة القاهرة



بسم الله ، وبه المستعان !
هذه محاضرة عنوانها "نظام الإيقاع في القرآن الكريم" كانت يوم الثلاثاء 5/4/2011م في مدرج 13 بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة .
هذه المحاضرة في ضمن مادة (قاعة بحث1) المقررة على طلاب السنة الأولى بدبلوم الدراسات اللغوية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة .
دعا إليها ، وأعد لها ، وأدارها الأستاذ الدكتور محمد جمال صقر ، أستاذ المادة .
سلام عليكم ، طبتم مساء يا أبناء ، ويا إخوان ، وطاب مسعاكم إلينا ، بسم الله -سبحانه ، وتعالى!- وبحمده ، وصلاة على رسوله وسلاما ، ورضوانا على صحابته وتابعيهم، حتى نلقاهم !

هذا هو المستوى الأول من مقرر قاعة بحث الذي نتحرك فيه معا خطوة خطوة ، في سبيل وعي منهج البحث العلمي الذي ادعينا فيه أنه لا يمكن فيه أن نتعلم إلا ما يصح في تقاليد البحث العلمي ، فأما مايُدهش ويَروع فلا مقياس له ، وقد اتفقنا على أن منهج البحث العلمي الصحيح لا الرائع أصول وفروع وعلامات محسوبة ، تكون بالتقليد ، وتُستوعب بالتعلم ، وأحسسنا أن شَرْحنا لكل خطوة يحتاج إلى تطبيق ، إلى بحث نلتقي عليه ، نتحرك فيه خطوة خطوة ، وُفقنا معا ، أخفقنا معا ، أنجزنا معا ، كَسِلنا ، نَشِطنا ، نعمل هذا معا ، نعيش معا ، ونظل معا .

وقد كنت أعرف أن المسألة التي تُختار للبحث ينبغي أن تُتصف بالجِدَّة أو النقص ؛ أن تكون جديدة لم تبحث من قبل ، أو أن تكون ناقصة البحث ؛ بحثت ، ولم يتم بحثها .

ولا أنكر أن ميلي إلى بعض علوم العربية وآدابها هو الذي أغراني بأن أحدد لكم ، وأفرض عليكم مسألة استثارتكم ، واستفزت بعضكم ، وقلقوا لها حتى خف قلقهم ، ولم يستقروا لها على حال بعد ، وهي مسألة "التراكيب العروضية بين القرآن الكريم والحديث الشريف" ، بل قد زدنا العنوان فأضفنا "جمع وتحقيق ودراسة" مما زادكم عجبا .

وتوالت الأيام والمحاضرات ولا تزدادون لها إلا قلقا وحيرة ، منكم من يمر على القرآن الكريم يتخطف الأمثلة ، يمر على الحديث ينسى بالحديث القرآن ، بالقرآن الحديث ، لا يدري ما يفعل .

حتى فاجأنا الأستاذ محمود في لقاء سابق بأنه في خلال حديثه لأستاذه أخينا العزيز الدكتور خالد حسان - استدل على وجود أستاذ متخصص بهذه المسألة بجامعة عين شمس سلخ فيها عمرا مديدا ، وهو الدكتور سالم عياد - بارك الله فيه ، وأحسن إليه ! - فوجدنا هذا فتحا من الفتوح ، معقول ! هذا موجود في الدنيا ! فأعطاني الأستاذ محمود رقمه ، ولم يكن يظن أن الذي يحدث الآن سيحدث .

في المساء كلمت الدكتور سالم ، وقلت له : أقل ما يمكننا أن نقدمه لك أن ندعوك إلى أن تحاضر أنت المحاضرة ، ولاسيما أنك لم تطبع عملك هذا بحيث يكون مستندا ملموسا يرجع إليه ، فلكي ينسب الفضل إلى أهله ، ومن بركة العلم نسبته إلى أهله ، ونحن أمة النسبة، أمة السند ، نسند الأشياء إلى أصحابها ، وهذه مشكلة عالمية ؛ فالذين كتبوا في التفكير العلمي كشفوا لنا أن الأمم الآن تتنازع العلوم ؛ كل أمة تدعي لنفسها أنها التي اخترعت ، والتي فعلت : الروس يقولون مخترع هذا روسي ، والألمان مخترعه ألماني ، والإنجليز مخترعه إنجليزي ، وتاهت الأسانيد ! ونحن نفتخر بأن من بركة العلم نسبته إلى أهله .

لم يكن في الإمكان أفضل من أن نفعل الذي نفعله اليوم لكي نسند الفضل إلى أهله ، فدعونا الدكتور سالم ، وهذا عبء في الحقيقة ، نحن كلفناه عبئا ، ولكنه لأنه من أهل العلم يعرف تقاليد طلب العلم ، وتقاليد تعليمه ، وتقاليد ترويجه بين الناس ، وأن هذا من أفضل ما يكون ، خيركم من تعلم العلم وعلمه من تعلم القرآن وعلمه ، والقرآن نص أصل في هذه المسألة ، فقبل ، وتفضل علينا بسماحته ، بل حضر اليوم بهداياه من الكتب ، وتفاصيل بحثه ، بل قد أحضر لنا نسخته من مصحفه التي خطط عليها من سنين طويلة معلوماته !

الدكتور سالم عياد خريج آداب عين شمس سنة ثلاث وستين ، حصل على الماجستير في "أشعار النساء للمرزباني" سنة ثلاث وسبعين من آداب عين شمس ، وحصل على الدكتوراه في "أشعار النساء في العصر الإسلامي" من كليتنا هذه دار العلوم سنة اثنتين وثمانين، عمل بآداب بنها إلى سنة تسعين ، ثم بتربية عين شمس إلى الآن . له كتب كثيرة ، أهداني منها مثلا ما هو نص في مجالنا على وجه العموم ، هذا "فن الرجز في عصر بني أمية ، دراسة تاريخية موضوعية نقدية" ، وأنتم تجدون الرجز ظاهر النغم في الآيات المكية مثلا، هذا كتاب في "الأدب الجاهلي ونصوصه" ، هذا كتاب "الشعر في صدر الإسلام" ، وله كتب صريحة في العروض "البنية الإيقاعية في قراءة الشعر العربي" ، بل أخرج ديوان فضل جارية المتوكل المشهورة ، وله كتاب في "الأدب الأموي ونصوصه" ، وله كتاب في "موسيقى الشعر العربي والعروض التعليمي" . له إسهامات صريحة في هذا ، فهو أهل لأن يحاضر هذه المحاضرة ، ولأن يستمع إليه ، وأنا وأنتم سنستمع ، وسنعتمد كلامه هذا أصلا في المقرر يرجع إليه ، يعني كل ما سيقوله الدكتور سالم الآن أصل في مقررنا يعتمد عليه ، ويرجع إليه، ويختبر فيه ، يعني سنعود إليه لنؤسس بحثنا عليه ، وسنعود إليه في اختباراتنا لنسأل فيه.

هذا اللقاء - إن شاء الله – يسجل ، وينزل أو كما تقولون يرفع على النت ، ثم يفرغ ، ويطبع ، يعني بكل وسيلة سنروجه ، وقد طلبت هذه المحاضرة منا من أكثر من جهة ، طلبت من إخواننا من أكثر من جهة لخطورتها .

فهذه المحاضرة "التراكيب العروضية بين القرآن الكريم والحديث الشريف" التي استثارتكم هذه محاضرة مهمة ، تأتي أهميتها من أصل نزول الوحي ، منذ نزل الوحي حينما اختلف العرب في القرآن الكريم هذا شعر هذا ، هذا كأنه شعر هذا ، هذا كأنه شاعر ، يصفون الرسول - عليه الصلاة والسلام ! - بأنه شاعر ، ويحكمون على القرآن بأنه شعر ، وقد نفى ربنا – سبحانه ! - عن القرآن أنه شعر ، وعن الرسول أنه شاعر ، لكنْ هذا لم يلغ أصل الفكرة ، ما الذي جعل العرب تفكر أصلا في أن يكون هذا شعرا ، وفي أن يكون هذا شاعرا؟ ما التلاقي الذي جعلهم يفكرون في هذا ؟ لا بد من وجود تلاق ما ، فأصل مسألتنا أصل عويص ، وأصل مثير ، ولا يكفي فيه أن تأخذه على العموم ، وترتاح ؛ فهناك ناس يعملون في هذا ، ويروجون لأفكارهم ، شئت أم أبيت ، وقد ادعيت لكم دعوى لا أملك لها دليلا أن الصهاينة الآن ربما كانوا قد بحثوا المسألة ، وأسسوا فيها أصولا ، وأصلوا أصولا وفرعوا فروعا ، وهم يُدرِّسونها الآن في جامعاتهم ونحن نتحرج من أن نبحث المسألة ! لا ، هذه أمور لا يكفي فيها أن نعرض عنها ، لا يجوز ، ينبغي أن يَنتدِب لها المجاهدون من الباحثين، ومنهم الدكتور سالم . كل هذا من أجل وضع المسألة في موضعها الصحيح لكي تحسنوا الفهم عن أستاذنا الدكتور سالم .

يسرنا أن نقدم لكم أستاذنا ، وقد اجتهد لكم اجتهادا فوق ما كنت أتخيل ؛ يعني أنا كنت أظن أنه سيعلق نقطا يتكلم فيها ، فإذا هو قد نظم لكم محاضرة كاملة ، بل جاء بكل ما جمعه من أوراق على مدار السنين لكي لا يفتقد الشيء إذا أراد مثالا ، فكل الصيد في جوف الفرا ، تعرفون هذا المثل القديم ؟ كل الصيد في جوف الفرا !
فلتتفضل أستاذنا الكريم ،

بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد ،

فلا أستطيع أن أقدم الثناء والشكر لأخي الكريم الأستاذ الدكتور محمد جمال صقر على هذه التقدمة الضافية التي ألبسني فيها ثوبا فضفاضا لا أسمو إليه أو لا أتطلع إليه !

أما عن دار العلوم فاسمحوا لي أن أخرج جانبا من المخزون النفسي في علاقتي بها ، كنت وأنا صبي صغير أتمنى أن أكون طالبا في هذه الدار العريقة الأصيلة قلعة العلم والأدب واللغة والإسلام التي خرجت أساطين في علوم العربية في كل أرجاء الدنيا بعد الأزهر الشريف ، لكن لم يشأ الله ليَ ذلك ، فكانت آداب عين شمس قسم اللغة العربية ، وعشت فيها أتلظى ، كما يقولون ، وأتحرق شوقا إلى دار العلوم حتى إذا كانت ، ولكن الله – سبحانه ، وتعالى! - أطفأ شيئا من غُلَّتي هذه ؛ فقد هيأ لنا الله أن يدرس لنا كثير أو لفيف من أساتذة دار العلوم الأجلاء ، أذكر أن أستاذي الكريم الأستاذ الدكتور محمد مهدي علام درس لي هذه المادة التي يدرسها أخي الكريم الآن (قاعة البحث) سنين عددا ، وهو أستاذ الأجيال كلها ، هذا درعمي ، كما درس لي الأدب المقارن سيده ومنشؤه وصاحبه الأول الأستاذ الدكتور المرحوم محمد غنيمي هلال(1) ، كما درس لي النحو العربي شيخ نحاة مصر وهو الأستاذ المرحوم عبد الحميد حسن ابن هذه الدار وشيخها أيضا ، كما درس لي علم البلاغة القديمة البلاغة العربية في مباحثها الثلاثة البيان والمعاني والبديع المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد أحمد بدوي وكيل هذه الدار في الستينيات ، أعتقد هذا ، كما صاحبت عالما حبرا من علمائها طيلة عمري، منذ سنة اثنتين وستين إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى - يرحمه الله ! - الأستاذ العلامة المحقق الكبير العالم الفاضل الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب - رحمه الله ! - فقد كان مشرفي الأول ، وعضوا في لجنة المناقشة الثاني .

هذا عن دار العلوم ، فحينما أجيء اليوم بدعوة كريمة من أخي الكريم لكي أتحدث بين بعض أبنائها - أكون كما قال المثل العربي القديم كحامل التمر إلى هجر أو كجالب التمر إلى هجر ، فأنتم أصل الخير والعلم والتمر والبركة كلها ؛ فسامحوني إذا تطاولت ، وتحدثت معكم عن موضوع يملأ علي نفسي ، وهذا ما دفعني إلى المجيء اليوم.

الأستاذ الدكتور محمد جمال صقر اقترح "التراكيب العروضية في القرآن الكريم والحديث الشريف" ؛ فقلت في التو واللحظة لا ، لا أقوى على هذا ! الموضوع التراكيب العروضية في القرآن الكريم وحسب ، لأن الحديث الشريف كما تعلمون له وضعه العلمي الخاص ؛ فهو يُروى روايات متعددة ، وقديما قالوا عن الشعر (وما آفة الأشعار إلا رواتها) ، والحديث النبوي الشريف قد يروى بالمعنى ، فلا تكون الدراسة العروضية فيه دراسة متأصلة، لكن القرآن الكريم كتاب الله – تعالى !- لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن كان بحرا لا سواحل له ، لكن نستطيع أن نقف أمامه خاشعين خاضعين ، ونقرأ ، ونتفهم، وروايته واحدة ، ليس فيها عوج ولا أمت ، كما أني أقترح أيضا حذف كلمة العروض ، لأنها حساسة مرتبطة بالشعر العربي ، فأخاف أن يأكله الذئب ! أخاف من كلمة العروض والقرآن الكريم ، الموضوع في غاية الحساسية ، وكثير من الناس يرفضون الحديث فيه أصلا ؛ فأقترح أن يكون "نظام الإيقاع في القرآن الكريم" ، يعني نبتعد كثيرا عن كلمة عروض وشعر، حتى لا نعتدي على مشاعر أحد أو لا نقترب من مشاعر أحد .

الموضوع إذن "نظام الإيقاع في القرآن الكريم" ، وسأستعرض معكم سريعا مسألة الإيقاع هذه من مبتداها في علم العروض حتى نصل إلى كتاب الله – تعالى ! - .

تعلمون طبعا جميعا درستم عروضا أو علم العروض ، وتعرفون ، يسامحني أخي إذا قلت كلاما من نافلة القول سريعا .

مم تتكون الأوزان العروضية؟
تقوم على لقاء الساكن بالمتحرك - كما تعلمون - حرف متحرك ثم يليه ساكن ، وطبعا المتحرك ثقيل والساكن أخف ، لقاء الأضداد كما يقولون .

تنتظم هذه الفكرة من أوليات المقاطع الصوتية ، أعني الأسباب والأوتاد والفواصل ، الأسباب - كما تعلمون - نوعان : سبب خفيف وسبب ثقيل ، الخفيف متحرك فساكن ، عسكه الثقيل متحرك فمتحرك ، أيضا الوتد المجموع متحركان فساكن ، الوتد المفروق متحرك فساكن فمتحرك ، الفاصلة الصغرى ثلاث متحركات فساكن ، الكبرى أربع متحركات فساكن، وبالمناسبة أربع متحركات فساكن لا تجتمع إلا في تفعيلة (مُسْتَفْعِلُنْ) تفعيلة الرجز الذي وضعتُ فيه كتابا ، لاتوجد - وحَضْرَتُكَ سيِّدُ العارِفين(2) - لا توجد (مُتَعِلُنْ) إلا في تفعيلة (مستفعلن) . من هذه الأسباب المتضادة والأوتاد والفواصل تتكون التفاعيل الستة، وهنا يبدو التضاد والعكس واضحا ؛ (فاعِلُن) عكس (فَعولُنْ) كلتاهما خماسية ، لكن كلا منهما عكس الأخرى ، الاثنتان خماسيتان ، الأولى سبب خفيف ثم وتد مجموع ، الثانية العكس وتد مجموع ثم سبب خفيف ، (مُتَفاعِلُنْ) تفعيلة الكامل فاصلة صغرى ثم وتد مجموع ، عكسها (مُفاعَلَتُنْ) تفعيلة الوافر وتد مجموع ثم فاصلة صغرى ، (مستفعلن) الرجز سببان خفيفان ثم وتد مجموع، عكسها (مَفاعيلُنْ) وتد مجموع ثم سببان خفيفان ، (فاعِلاتُنْ) تفعيلة الخفيف والمديد والرمل سببان خفيفان يقع بينهما وتد مجموع عكس (مَفْعولاتُ) تفعيلة المجتث والمنسرح والأوزان المخيفة هذه (3) .

من هذه التفاعيل الثمانية تتكون الأبحر الخليلية الستة عشر ، فمنها ما هو صاف يعني تفعيلة واحدة متكررة عدة مرات ، أربعة ، أو ستة ، أو ثمانية ، مثل الكامل والرجز والوافر والهزج والمتدارَك والمتقارب ، سيقول لي أحدكم : الوافر مفاعلتن مفاعلتن فعولن ، تقول عنه إنه صافٍ ؟ أقول لك : نعم ، أصله كان مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن ، وهذا أصل في الدائرة العروضية ، ثم دخل التفعيلة الثالثة والسادسة القطف ، فصارت العروض (4). الأنواع الأخرى التراكيب المزدوجة أو المركبة مثل ماذا ؟ الطويل والبسيط والخفيف والمديد والسريع والمنسرح والمقتضب والمجتث والمضارع(5) .

هذا هو ملخص الأدوات التي سندخل بها على القرآن الكريم كتاب الله ، لنرى مدى موسيقية هذا النص ، وما يحتويه من إيقاعات تندرج تحت هذا النظام .

إذا ما دخلنا بهذا الرصيد الضخم إلى كتاب الله – تعالى! - القرآن الكريم سنجد أمامنا سدا منيعا ، انتبهوا(6)، حتى لا نُتَّهَمَ بشيء ، نحن نعرف الله ، تعالى! ، وعلى قدر يعلمه الله فينا - سنجد سدا منيعا أمامنا من النصوص القرآنية التي تنأى به بالقرآن أو بها بالآيات القرآنية عن فن الشعر .

إذن انتبهوا ، سَلَفَ أن القرآن مهما استخرجنا منه من تراكيب و إيقاعات موسيقية تتفق وإيقاعات الشعر ، القرآن ليس شعرا . لم ؟ لأنه ليس كل من قال بيتا أو شطرا قال شعرا، عندنا القصيدة لا تقل عن سبعة أبيات ، هذا الكلام غير موجود في القرآن الكريم ولا في أي كتاب سماوي مثلا ، ولا تكاد تجد بيتا كاملا ، نحن نجهد أنفسنا لنكون بيتا(7) ، ويَفسُد الإيقاع بإرادة الله – سبحانه ، وتعالى!- لأن الله يريد أن يقول لنا سلفا قبل أن نبدأ الحديث لو كنت أردت أن أنزل القرآن شعرا لفعلت ، ولكن لم تسبق مشيئتي ذلك ، لا ، أنا لا أريده شعرا، ولا نثرا فنيا ، قديما تعلمون أن طه حسين كان يقول لنا : البيان ثلاثة أنواع : شعر ، ونثر فني ، وقرآن كريم ، فالقرآن الكريم متفرد بجلاله وكماله عن الفنين الآخرين .

ماذا يضيرنا لو بحثنا في القرآن الكريم عن بعض إيقاعات الشعر ، لنثبت شيئا مهما ، وهو أن القرآن الكريم الذي احتوى علوم العربية بل هو أصل علوم العربية كما يقول العلماء، ولم يحتو علوم العربية فقط ، وإنما هو أصل العلوم العربية نحوا وصرفا وبلاغة وأدبا ، وكل علوم العربية ، فلم لا يحتوي العروض ، أو لم لا يشير ولو من بعيد إلى علم العروض ؟ أليس هذا إعجازا بيانيا يتجلى في القرآن الكريم ، يضاف إلى الإعجازات الأخرى ؟

أحد الطلاب : بلى .
أ.د.سالم عياد : الحمد لله ، اتفقنا .

إذا ما دخلنا بهذا الرصيد إلى القرآن سنجد سدا منيعا من النصوص القرآنية التي تنأى به عن الشعر ، مع أنه فن العربية الأول ! رغم مكانة الشعر كما يعده العلماء فن العربية الأول ، والقرآن كرم هذه اللغة فنزل بها - إلا أن القرآن يرفض في آيات كثيرة ادعاء الكفار له بأنه شعر .

نستعرض بسرعة ما قاله القرآن الكريم عن فن الشعر ، ذكرت كلمة الشعر والشعراء في القرآن الكريم ست مرات :

1 في سورة الشعراء كما تعلمون قوله – تعالى! - : بسم الله الرحمن الرحيم چ ﮥ ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ï®° ï®± ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ï¯ک ﯙ ï¯ڑ ﯛ ﯜ ï¯‌ ï¯‍ ï¯ں ï¯* ï¯، ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ï¯ھ ﯫ ﯬ ï¯* ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ï¯؛ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ چ الشعراء: 221 – 227 صدق الله العظيم .

2 في سورة الأنبياء چ ﮃ ﮄ ï®… ﮆ ﮇ ڈ ڈ ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک چ الأنبياء: 5

3 في سورة الصافات بسم الله الرحمن الرحيم چ گ گ گ گ ï®– ï®— ï®ک ï®™ ï®ڑ ï®› ﮜ ï®‌ ں ں ï®* ï®، ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ہ ہ ہ ہ چ الصافات: 35 – 37

4 في سورة الطور چ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ï¯؛ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ï¯؟ ï°€ ï°پ ï°‚ ï°ƒ ï°„ ï°… ï°† ï°‡ ï°ˆ ï°‰ ï°ٹ چ الطور: 29 – 31

5 في سورة الحاقة چ ï*« ï*¬ ï** ï*® ï*¯ ï*° ï*± ï*² ï*³ï*´ ï*µ ï*¶ ï*· ï*¸ ï*¹ چ چچ چ ï*¾ ï*؟ ﮀ ï®پ ﮂ ﮃ ﮄ ï®… چ الحاقة: 40 – 43

6 في يس چ ﯫ ﯬ ï¯* ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ï¯؛ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ï¯؟ ï°€ ï°پ چ يس: 69 – 70 صدق الله العظيم .

نناقش هذه الآيات بسرعة سريعة ، إن هذه الآيات قد وردت في القرآن الكريم بلفظ (شاعر) أربع مرات ، للدلالة على المبدع الشاعر نفسه ، الذي ينشئ الشعر ، مثل الأستاذ الدكتور محمد جمال صقر شاعر ، فهو مبدع . وردت بنص الجمع (الشعراء) مرة واحدة في سورة الشعراء ، كما وردت كلمة (الشعر) وهو اسم لنتاج الشاعر مرة واحدة في يس ، كما نلاحظ أن ورود كلمة (الشعر) و(الشاعر) يجمع بينهما اتهام المشركين للرسول - صلى الله عليه ، وسلم! - بعدم الرسالة ونفيها عنه ، والآيات تَرُدُّ على ذلك بنفي من الله لمقالة المشركين ؛ تثبيتا للرسول - صلى الله عليه ، وسلم !- وللرسالة ، وتصديقا له فيما بلغ عن ربه ، كما نفى الله عن رسوله الكهانة والجنون والسحر والشعر ، وأثبت له النبوة والوحي والرسالة چﮤ ﮥ ہ ہ ہ ہ چ الصافات: 37.

أما الآيات الأخيرة في سورة الشعراء ، وهي أشهر ما يردده المتشددون برفض الإسلام للشعر أو المتشدقون برفض الإسلام للشعر ، وهي قوله- تعالى!-چ ï¯ک ﯙ ï¯ڑ ﯛچ الشعراء: 224، والحقيقة أن هذه الآيات تتناول قضية نقدية كيف ؟ حول فنية الشعر ، فهي مكونة من خمس نقاط ، انتبهوا إليها جدا ، فهي مهمة جدا(8) .

الأولى : ما كان شائعا وقتها عن مسألة استيحاء الشعر من الشياطين ، حتى إن كل شاعر فحل في الجاهلية اعتقد أن له شيطانا يوحي إليه شعره ، وهذه فرية وأكذوبة كما تعلمون ، فأكثر الشعراء في هذه الطائفة كاذبون .

الثانية: من اتبع الشعراء وصدَّقهم فيما يذهبون إليه من خيالات وأكاذيب فهو طاغ واهم .

الثالثة : أن الشعراء يَهيمون على وجوههم في الأودية ، كانوا كذلك قديما يتخيلون ، ويصورون ما يعتقدون شعرا ؛ قيل إنهم وجدوا مجنون ليلى ميتا بين جبلين هائما على وجهه في الصحاري چ ï¯ک ﯙ ï¯ڑ ﯛ ﯜ ï¯‌ ï¯‍ ï¯ں ï¯* ï¯، ﯢ ﯣ چ الشعراء: 224- 225 صدق الله العظيم .

الرابعة : أنهم يقولون ما لا يفعلون ، وهذه هي الخطورة(9) ، كيف ؟ يعني هنا مسألة الكذب الفني لا الكذب الأخلاقي في رأي النقاد ؛ ألم يقل النقاد إن أعذب الشعر أكذبه ! چ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ چ الشعراء: 226

الخامسة : استثناء الفئة المؤمنة الملتزمة ، وأولهم شعراء الرسول - صلى الله عليه ، وسلم!- الثلاثة : حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، ومما يؤيد ذلك ما ورد في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني - كما تعلمون - أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وصاحباه إلى النبي - صلى الله عليه ، وسلم !- وهم يبكون ، قالوا : يا رسول الله ، قد علم الله حين أنزل هذه الآية أننا شعراء !(10) فقال النبي - صلى الله عليه ، وسلم !- : "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" ، ثم قال : أنتم ، "وذكروا الله كثيرا" ، أنتم ، "وانتقموا من بعد ما ظلموا" ، أنتم ، ثم قال لهم : انتصروا ، ولا تقولوا إلا حقا ، ولا تذكروا الآباء والأمهات ، يعني تحروا الحق في مدائحكم ؛ فلا تسبوا الأمهات ولا الآباء في أهاجيكم ، يعني ولا تنابزوا بالألقاب .

أما الآية الأخيرة التي وردت في سورة يس چ ﯫ ﯬ ï¯* ﯮ ﯯ ﯰ چ يس: 69 أي ما علمه ربه فن الشعر ، هذا يجمع عليه المفسرون ، وما ينبغي لمحمد - صلى الله عليه، وسلم !- أن يكون شاعرا ، أو معنى آخر مختلف ، اسمحوا لي أن أعلنه : ما علمناه ما ينبغي للشعر من أدوات فنية ليقول شعرا ، الشاعر يلزمه أن يمتلك أدوات الفن الشعري ، فربنا – سبحانه ، وتعالى ! – قال : إن النبي ليس شاعرا ، وما علمناه أيضا فن الشعر ، وما أعطيناه فنية الشعر ، وما وهبناه صنعة الشعر، فصنعة الشعر فن ، صنعة الشعر نحت القوافي ، ورصفها ، وجنوح التصوير ، وغيرها ، وإن كان النبي - صلى الله عليه ، وسلم!- قد أوتي مجامع الكلم ليس معنى هذا أنه .. ، أستغفر الله العظيم ، لا ! أفصح الناس ، وأعلم الناس باللغة ، لكنه لم يهيئه الله لفن الشعر، نفى عنه وعن كتابه فنية الشعر(11) .

خلاصة القول أن القرآن الكريم كله لم يحظر قول الشعر ، أو لم يحرم قرضه ، هل فيما عرضناه الآن من الآيات الستة أو المواضع الستة شيء يقول إياكم أن تقولوا شعرا ، كما حرم شرب الخمر ، أو حرم كل المحرمات صراحة في القرآن الكريم ؟ لم يقل ذلك ، إن القرآن لم يحظر قول الشعر ، ولم يحرم قرضه ، مادام الشعر ملتزما بقواعد الإسلام ومنهجه، بل إنه يحفل بالجيد منه ، ويقبله ، ويحترمه ، وللنبي - صلى الله عليه ، وسلم !- مواقف تحتاج إلى محاضرة مستقلة ، مواقف من الشعر ، وللصحابة أيضا مواقف من الشعر تحتاج إلى محاضرة أخرى ، فلا غرو إذن أن نعرض ما نعرفه من إيقاعات شعرية أو إيقاع الشعر العربي على القرآن الكريم ، فإذا كان القرآن الكريم يعد أصلا لكل علوم العربية والإسلام من نحو وصرف وبلاغة وأدب وغير ذلك فلم لا يحتوي علم العروض ، مادامت مقاصد النصوص القرآنية لا تتعارض مع ذلك ، ولا ترفضه !

ولعل أقدم من تعرض لهذه القضية من علمائنا القدامى هو أبو بكر بن محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر الباقلاني ، الذي عاش ما بين 338 و404 هجرية ، 950 و1013 ميلادية ، أحد علماء القرن الرابع الهجري المشهورين في كتابه المشهور "إعجاز القرآن" في فصل (نفي الشعر عن القرآن) ماذا قال الباقلاني ؟ قال : [فإن زعم زاعم أنه وجد في القرآن شعرا كثيرا ، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام ، أو أبيات تامة ، ومنه ما يزعمون أنه مصراع] يعني شطر ، المصراع شطر البيت [كقول القائل :
قد قلتُ لما حاولوا سَلْوتي هيهاتَ هيهاتَ لما توعَدونْ] .
مصراع ! شطر ! في سورة المؤمنون .
أيضا [(وجفان كالجواب وقدور راسيات)] رمل ، من مجزوء الرمل ، فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن(12) ، طبعا (جفان كالجواب) تعرفون (جفان) جمع (جفنة) وهي القدر الكبير، (كالجواب) مثل الحوض الكبير الممتلئ ماء(13) ، وقدور ثابتة راسية على المواقد لثقلها وكبرها، هذا معنى چ ﯩ ï¯ھ ﯫ ﯬ چ سبأ: 13. [وكقوله] – تعالى!- : [(من تزكى فإنما يتزكى لنفسه)]18 فاعلاتن متفعلن فعلاتن متفعلن ، سقطت الألف ، خبن ، من مجزوء الخفيف .

[وكقوله] – تعالى! - انتبهوا معي هذا الكلام في إعجاز القرآن ! يقول – تعالى!- : (ومن يتق الله يجعل له (مخرجا) ويرزقه من حيث لا يحتسب) (14) .

الفرق بيننا وبين الباقلاني أو الفرق بيننا وبين أي قارئ عاد أننا نستحضر في أذهاننا الأداء الشعري ، الشاعر حينما يلقي شعره ليس كأي إنسان عندما يقرأ شعر شاعر ، الشاعر حينما يلقي شعره ينغمه ، وهو الإيقاع ، وهو النبر ، هو الموسيقي ، هو نَظَمَ - بتعبير عامي- عبأ الكلمات في الموسيقى التي في ذهنه ، فالموسيقى مستحضرة في الذهن ، فحينما يلقي علينا قصيدته يلقيها بموسيقاها ، فهذا الشاعر الذي يتقن علم العروض، ويحفظ أوزان الشعر العربي إذا قرأ القرآن الكريم وهو مستحضر أنغام الشعر وإيقاع الشعر كله في ذهنه وهو يقرأ ألا يجد شيئا ؟ فهل هذا قبل كل اعتبار يعيب القرآن الكريم أم يُجَوِّدُه ، ويُحَسِّنُه ؟ بل أنا أزعم أن هذه المَوْسَقَةَ في القرآن الكريم تساعد الناشئ أو المسلم بعامة على الحفظ ، تيسر له قضية الحفظ ؛ فأنا أحفظ الشعر بسهولة جيدة حينما أجد دواعي الحفظ في الشعر هي هي موجودة في القرآن الكريم ، يسهل علي حفظ القرآن ، فلا غبار إطلاقا على القرآن حينما يحتوي على تفاعيل ، لا قصيدة ، ولا قطعة ، شطر ، مصراع ، جملة ، جزء . وسيقول الباقلاني الآن إنها ليست إلا مقطعات قصار ، لتبث موسيقى الشعر التي كان العرب يتقنونها ، ويحفلون بها، كما يحتفلون بميلاد الشاعر ، فحينما يجدون هذه الموسقة في القرآن الكريم يزداد تعلقهم به ، يحفظونه(15) .

(ومن يتق الله يجعل له) ثم (مخرجا) في الوسط ثم (ويرزقه من حيث لا يحتسب) ، لو قطعنا (ومن يتق الله) ، لو موسقنا (ومن يتق الله يجعل له) ، نعم ؟

أحد الطلاب : المتقارب .(16)

ومَنْ يَتْْ/ تَقِ الّلا/ هَ يَجْعَلْ/ لَهُ فعولن/ فعولن/ فعولن/ فعو ، ويَرْزُقْ/ هُ مِنْ حَيْ/ ثُ لا يَحْ/ تَسِبْ فعولن/ فعولن/ فعولن/ فعو ، لكن جاءت (مخرجا) في الوسط ، خرجت البيت عن كونه شعرا؛ اختلف الوزن ، أو انكسر الوزن ، وهذه مشيئة الله – تعالى! – كان الله – سبحانه ، وتعالى! - في وسعه وهو خالق الكون ، وخالق الشعر ، وخالق الشعراء - كان بوسعه أن يصوغه صياغة أخرى ، لكن إرادة الله لئلا يعتقد أحد أن القرآن شعر . ومَنْ يَتْ/ تَقِ الّلا/ هَ يَجْعَلْ لَهُ/.. وَيَرْزُقْ/ هُ مِنْ حَيْ/ ثُ لا يَحْ/ تَسِبْ !

وفي قوله – تعالى ! - : [(أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم)] ، (ذلك) كسرت الوزن ، تعرفون لو قال - سبحانه ، وتعالى ! - في غير القرآن : (أرأيت الذي يكذب بالدين فذاك الذي يدع اليتيم) لصارت ماذا ؟ فعلاتن متفعلن فعلاتن فعلاتن متفعلن فاعلاتن ، لولا الحرف – هناك في السابق كانت كلمة وهنا حرف - لولا هذا الحرف لاستقام الوزن ، لكن الله لم يشأ ذلك ؛ ليس شعرا(17) .

وقد جاء على وزن بيت تام من الخفيف لولا أن إرادة الله – ذا كلامي - شاءت أن تزيد لاما بين ذا الإشارية وكاف الخطاب ، فلولاها لاستقام الوزن التام . وقد [ضَمَّن أبو نواس] - سامحه الله !- انظروا أبا نواس ، ماذا فعل! ضمن أبو نواس هذا [في شعره ففصَّل وقال] قال بيتين في ديوانه :
[ وَقَرا مُعْلِنًا ليصدع قلبي والهوى يصدع الفؤاد السقيما .
أرأيت الذي يكذب بالدين فذاك الذي يدع اليتيما .](18)

انتبهوا ، فكرة أبي نواس هذه ستظل عبر الدهور إلى يومنا هذا ، وسأختم بها كلامي معكم؛ شخص عمل هذا العمل نفسه في القرآن كله ، من أوله لآخره ، شيخ ، لما يزل على قيد الحياة(19).

فوجدوا من فكرة الباقلاني أن ما جاء في القرآن على وزن الشعر فهو بضع شَطَرات، كلام جميل ، أو جاء بيتا فهو من مجزوئه ، نعم ، وليس من تامه ، انتبهوا إلى النتيجة المهمة هذه ! ما جاء في القرآن الكريم من الشعر بضع شَطَرات ، وإذا جاء بيت فهو من المجزوء، مامعنى هذا ؟ يعني من الشطر ، مصراع ، والرجز كله مجزوء ، بعد أن قُصِّدَ بفترة طويلة ، كان قصيدا على منوال القصيدة ، انتقل إلى أن الشطر بيت ، فأصبحت القافية واحدة في كل الشطرات ، يعني أصبح الراجز مطالبا بضعف القوافي بعدما كان مطالبا بنصفها ، فأصبح العروض هو الضرب ، والضرب هو العروض(20) .

إحدى الطالبات : هل يُعَدُّ هذا شعرا ، هذا البيت ؟

أ.د. سالم عياد : لا ، لا يكون السؤال هكذا(21) ، لكنْ قولي :
متى نعد النص شعرا؟

النقاد اجتمعوا منذ زمن بعيد على أن تكون المقطعة لاتقل عن سبعة أبيات ، لكن شخصا – كما قال أحد العلماء – قال : من يشتري باذنجان ، مستفعلن فاعلان يكون قد قال شعرا ! شخص ينادي على باذنجان يكون قال شعرا ! أيكون شاعرا !(22)

النبي- عليه الصلاة والسلام !- ارتجز مرتين ، ارتجز يعني قال بيتا من الرجز مرتين ، مثلا :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب .
فهل يعد النبي- صلى الله عليه ، وسلم !- شاعرا مادام قال في حالة انفعال شديد ، وفي موقف حاسم تتراءى فيه المنايا ؟

أحد الطلاب : لكنه لم يقصده .
أ.د. سالم عياد : لم يقصده ، وحتى لو أنه قصده فليس شعرا ، ومن هنا كانت قضية نفي الشعر عن الرجز أيضا ، ليس عن القرآن فحسب ، لأن النبي قد ارتجز ، من الأسباب التي دعت العلماء إلى نفي الشاعرية عن الرجز لأن النبي قد ارتجز مرة أو مرتين فقالوا : لا ، الرجز كله ليس شعرا ، لا إله إلا الله ! (23)

إحدى الطالبات : هو أحيانا كان يردد شعر بعض الشعراء ، فهل كان يغيره ؟
أ.د. سالم عياد : نعم ، كان يتمثل ببعض الأبيات ، لكنه كان يكسرها عمدا ، عليه الصلاة والسلام ؛ حتى لا يقال إنه راوية للشعر أيضا ، فهو ليس شاعرا ، وليس راوية للشعر - صلى الله عليه ، وسلم !- .(24)

ولكي نثبت صحة نظرية الباقلاني فإن أحد العروضيين ، وأعتقد أنه صفي الدين الحِلِّيّ ، عمل لنا مفاتيح للأبحر كما تُسَمّى ، نظم بيتا من الشعر ، ثم جاء في البيت التالي بتفاعيل البحر ، وفي الشطر الأخير آية من كتاب الله- تعالى !- على نفس الوزن ، وصدَّر البيت الأول باسم البحر ، حفظنا إياها أستاذنا - الله يرحمه !- الدكتور مهدي علام منذ أكثر من نصف قرن - رحمه الله!- ، أقرأها عليكم بسرعة ستة عشر بحرا(25) :

1 أَطالَ عَذولي فيكَ كُفْرانَهُ الهوى(26) ...وآمنتَ يا ذا الظَّبْي فَأْنَسْ ولا تَنْفِرْ .
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ... "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرْ" .
في سورة الكهف چ ï*¾ ï*؟ ﮀ ï®پ ﮂ ﮃ ﮄ چ الكهف: 29 إلى آخره .


2 إني بسطتُ يدي أدعو على فئةٍ .... لاموا عليكَ عسى تخلو أماكنُهمْ .
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن .... "فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهمْ" .
الأحقاف .


3 يا مديدَ الهجرِ هل من تلاقٍ .... فيهِ آياتُ الشفا للسقيمِِ .(27)
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن ..... "تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِِ" .
في لقمان .


4 خفَّ حَمْلُ الهوى علينا ولكنْ ..... ثقلتْهُ عواذلٌ تترنمْ .