تهدف هذه الدراسة الى (الكشف عن الجانب التطبيقي الواقعي للتداخل الذي لم تكشف عنه الدوائر ، ولم يتطرّق له الباحثون )(1) مبينة إمكانية تحوّل البحر وتبدل نوعه مُستعيرةً بعض المصطلحات ، والأفكار من العلوم الطبيعيّة ، والفلسفيّة ، فمصــطلح ( التحليل ، والتركيب) مستعار من العلوم الطبيعيّة والمسوّغ لهذه الاستعارة هو وقوع ما هو نظير التحليل، والتركيب في علوم الطبيعية في البحور الشعريّة من تركيب البحور في بحر واحد ، وتفكيك هذا البحر الى بحور أُخَر ، ومن اعتقاد المؤلف الجازم بوحدة النواميس التي لم تختلف الا لاختلاف الموضوعات (2) ونبه المؤلف الى أنّ هناك فرقا بين التحليلين (فإذا كان التحليل الطبيعي يعني إرجاع المادة الى عناصرها الأوليّة فأن التحليل العروضي يعني إرجاع البحر الى مركباته ، وبحوره الصغيرة الأولى ، ولا يعني بذلك إرجاعه الى أجزاء لا تقبل التجزئة بالعودة الى التفعيلة ،أو جزء التفعيلة التي لاوجود لها في الشعر العربي )(3) أما فكرة تبدل الأنواع التي تعتمد على الكم المعياري الذي هو الزيادة التي يحصل عند بلوغها التحول النوعي ، فقد استندت على وجود هذه الفكرة في أصول الفلسفة الماركسيّة (4) فللكم في فلسفة التطور زيادة ونقصانا دورا كبيرا فليس الفرق بين المثقف ، والأمي والعالم ، والجاهل في الحقيقة الاّ كمية من الثقافة ، والعلم يتحول بها الأمي الى مثقف والجاهل الى عالم ، وكما يقع هذا التحويل بالزيادة المعياريّة يقع بالنقص المعياري بصورة معكوسة ، وكذلك في الشعر ، فلكي يتبدل المضارع الى المخلع فأنه يحتاج الى زياده معياريّة مقدارها أربع حروف بوضع يكون فيه الرابع ،والثاني ساكنين (5) وترى هذه الدراسة أيضا أنّ البحور الشعرية تطورت وتحولت بطريقة تشابه ما قررته نظرية (دارون ) ، فالقانون (الذي بموجبه تحوّل القرد الى إنسان هو نفسه القانون الذي تتحول بواسطته البحور الشعريّة نفسها ، وتتبدل أنواعها )(1)
أما الفكرة الأساسيّة لهذه الدراسة تعتمد على حقيقة أنّ الأنسان قد يسمع اللغط المؤلف من أصوات فلا يجد في سمعه ما يعرفه ، أو يعرف أصحابه الناطقين ، ثم إذا هو ركز ذهنه على بعض هذه الأصوات بعزل الأصوات الباقية أوشك أن يميز بينها قليلا ، ثم هو لا يلبث طويلا حتي يوشك أن يعرف مصادرها ، وهكذا الأمر بالنسبة للبحور ، فعند سماع البحور الشعريّة تحس أنّ هناك ازدواجية فيها أي أنّ هناك تركيبا بين بحرين شعريين ، وعند التركيز تتمكن بعملية التحليل من التمييز بين بحرين وكشف العلاقات التداخلية بينهما ( 2)
لذلك ترى هذه الدراسة أنّ موضوع علم العروض (يجب أن يندرج تحت العلوم الصوتيّة واللفظيّة ، فلا ينبغي أن يطلب حصوله بأيّ واسطة غير الأذن كما لا ينبغي أن يستعان عليه بأي بحث (كارتي) ، أو (رفي )غير ما يستعان به منها على حصول التصورات العقلية ، والنقلية التاريخية )( 3) وعلى هذا الأساس تنتقد هذه الدراسة الطريقة التقليدية لتدريس العروض التي تعتمد على ترميز السواكن ، والمتحركات من حروف البيت للتوصل الى معرفة بحره ؛ إذ تُحول هذه الطريقة الطالب من متذوق يقطع البيت بأذنه الى طالب يواجه معادلة رياضية ، وبذلك لن نصل الى غاية هذا العلم وهي تقويم الذوق ، وخلق الأذن الموسيقية .( 4)
بنى الدكتور حكمت فرج كتابه على ثلاث أشكال من التداخل العروضي جاءت نتيجة للأفكار والمفاهيم السابقة وهذه الأشكال هي :
1- التداخل الوسطي :
هو ما وقع فيه التداخل بين بحرين شعريين عن طريق الحروف الوسطيّة أي الحروف التي
ليست طرفا في البيت ، بنقلة واحدة مثال ذلك انتقال مخلع البسيط الى الرجز :
مخلع البسيط الرجز
أعِن كِتابيْ على بيانْ أعِنْ كِتابي – بي - على بيانْ (1)
نلاحظ أن الوزن تبدل وانتقل الى بحر آخر بزياده معيارية وضعت في مكان مخصوص في الوسط ، ويمكن ارجاع الوزن الى بحره بإزالة هذه الزيادة وقد سمّى الدكتور التحول بالزيادة الانتقال الى أعلى ، والتحول بحذف هذه الزيادة الانتقال الى أسفل (2)
2- التداخل التصادفي :
وهو ما وقع فيه التداخل صدفه لزحاف عرضي في البيت المتحوّل ، وهذا التحوّل لا يقع في كل بيت ، وإنما يصادف ذلك عرضيا ، كما لو أُضمر الكامل لتحوّل الى الرجز (3)
3- التداخل الطرفي :
وعرفه بأنه ( التداخل الذي يقع من جهة الأطراف بزيادات معياريّة يتبدل بها النوع )(4)
مثاله تحوّل المضارع الى مخلع البسيط بزياده معياريّة مقدارها سببين خفيفين ، أو فاصله صغرى :
المضارع : بما فيْهِ مِن خيالٍ وما فيْهِ مِنْ فحاوي
يتحول الى المخلع : يعلو- بما فيْهِ مِن خيالٍ خَضبٍ- وما فيْهِ مِنْ فحاوي ( 1)

وهذا التداخل الأخير هو موضوع الكتاب أما النوعان الآخران ،فلم يطمئن الدكتور الى ما أعده من أمثله لها لإخراجها بشكل كامل ( 2) ويبدو أن الوقت لم يسعف الدكتور لإنجاز دراسته ، أو ربما وجد ما يعارض ما قرره ابتداءا لذلك لم ينجز سوى هذا الجزء من الدراسة .
وبين الدكتور أخيرا الفائدة العلمية ، والعملية من معرفة التداخلات الطرفيّة ، فهي تساعد على تنمية الذوق ، والأذن الموسيقيّة ،حتى تكون قادرة على التمييز بين البحور ، وكشف العلاقات التداخلية بمجرد سماعها ، وبذلك فهي تساعد الباحثين ، والمحققين لمعرفة وزن النصوص المرتبكة ، أو ذات الأجراء غير الواضحة ، أو المطموسة ، كما تساعد الشعراء في تضمين قصائده ما يعرض لهم من قطع وزنيّة قد تطرق ذهنه ، أو عبارة ، أو آية يتداخل جزء منها مع الوزن الذي ينظم عليه ( 3)