في قضية نسبة المتدارك للأخفش

مع أن ظهور " كتاب في العروض " لأبي الحسن العروضي ( ت 342 هـ ) يقدم أساسا توثيقيا لا يقبل الجدل في حصر إثبات نسبة استدراك هذا البحر خالصة له ، إلا أن ما يثير العجب في أمر هذه النسبة أنها ظلت حتى اليوم لصيقة بالأخفش على الرغم من تأخر إعلانها على هذا النحو الواضح حتى القرن السادس الهجري .
فقد رصد الدكتور محمد عبد المجيد الطويل أول ظهور لهذا الإعلان في كتاب " الدر النضيد في شرح القصيد " لابن واصل الحموي ( ت 697 هـ ) الذي لم يذكر مصدرا استقى منه كلامه . أما الدكتور عمر خلوف فقد لاحظ في هامش كتاب " الإقناع في العروض " للصاحب بن عباد في النسخة التي حققها الشيخ محمد حسن آل ياسين عبارة أثبتها الناسخ بتاريخ 569 هـ تشير إلى أن عدد البحور عند الخليل خمسة عشر ، ( وستة عشر بحرا على رأي الأخفش النحوي ) ، وعلق بقوله : " ثم ترددت هذه النسبة بعد ذلك في المصادر الأخرى حتى أصبحت من المسلمات العروضية " .
لكن يبدو لي أن هذا النسبة احتاجت إلى ما يقرب من القرنين من الزمان قبل أن تصبح من المسلمات العروضية ، فقد أشار الدكتور الطويل إلى أن الأسنوي ( ت 772 هـ ) لم يوافق ابن واصل على ما ذكر ، ملاحظا إلى أن هذه النسبة لم تستقر إلا عند الدماميني ( ت 827 هـ ) واللاحقين له .
كل هذا ولا سند بين أيدينا يؤكد هذه النسبة كما يؤكدها كتاب أبي الحسن العروضي الذي مني بسوء الحظ منذ القدم فلم ينقل عنه أحد هذه النسبة لتشيع بين الناس كما شاعت أسطورة تدارك الأخفش لهذا البحر . وهكذا نرى أن القاعدة التي تسري في الاقتصاد من أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق تسري أيضا على التراث الفكري للأمم .
ومؤخرا وقعت على كتاب " دروس العروض " لابن الدهان النحوي ( ت 569 هـ ) ذكر في موضع منه بحر الشقيق قائلا إن الأخفش تفرد به . وفي موضع آخر قال : " وزاد الأخفش الشقيق " وعن دائرة المتفق قال أيضا : " ولها عند الأخفش بحران : المتقارب والشقيق " .
ولا سند لهذا الكلام عند ابن الدهان أيضا ، ولكنه أيضا لا يزال يتعامل بالعملة الرديئة .
الذي يثير العجب في كتاب ابن الدهان هذا أنه نقل كلاما كثيرا زعم أنه مأخوذ من كتاب أبي الحسن العروضي ، فإذن لم لم ينقل عنه استدراكه بحر الغريب الذي لم يذكره الأخفش ؟! ويزول عجبك عندما تحقق في كل هذه النقولات المنسوبة في كتابه إلى أبي الحسن العروضي فتجدها زائفة النسبة ، غير أن عجبك يزداد عندما تجد محقق الكتاب اثبت ضمن مصادر تحقيقه كتاب أبي الحسن العروضي دون أن يعمل بأبسط مبادئ التحقيق وهي التحقق من نسبة النقولات الواردة في الكتاب المحقق وذلك من بين المصادر التي وقعت بين يديه .