مُشْكِلَاتُ تَدْرِيسِ عِلْمِ النَّحْوِ
للدكتور محمد جمال صقر
مُقَدِّمَةٌ
ثالثةُ الأَثافيِّ الثالثةُ الثابتةُ بعد مشكلات تدريس علمي العروض والصرف التي لا يجوز أَلَّا يصمد لها أستاذ مثلي بقسم النحو والصرف والعروض، هي مشكلات تدريس علم النحو، التي تَأخرتْ في نظري عن أختيها على رغم تقدمها في نظر مَنْ سَمَّوُا الأقسام بجامعاتنا العربية!
ولا بأس بموضعها ما تَطَرَّفَتْ؛ فإنَّ أمامَك خلفُ غيرك، فأما البأس فبأن تضيع في الخلال، وتستدير على الناظر دائرةٌ لا يدري أين طرفاها!
إن الدندنة التي جاشت بواعية الشاعر -والشاعرُ إمامُنا اللغوي الذي ينهج لنا مناهج التفكير والتعبير- ثم تفلَّتت من منافذ كلمات شعره الصرفية والمعجمية، لا يقَرُّ قرارها إلا حيث يكتمل تكوين المركبات النحوية من تلك الكلمات؛ فمن شاء نظر من فوق هذه المركبات، ومن شاء نظر من تحت تلك الكلمات، وحيثما يَمَّمَ فثَمَّ عَروضُ الشعر.
وكما ائتلفت علوم العروض والصرف والنحو في عقل الخليل بن أحمد -رضي الله عنه!- ينبغي أن تأتلف فيعقول خَلَفِه. وكما تأتلف العلوم تأتلف مشكلاتها؛ فيستمر في بعضها ما في بعض، ويأخذ بعضها بحُجَزِ بعض؛ فيدل عليه، ولا يجوز في عقل العاقل أًلَّا ينتفع في حل مشكلات بعضها بما انتفع في حل مشكلات بعض!
مِنْ مُشْكِلَاتِ الْكِتَابِ (الْمُقَرَّرِ):
عَدَمُ اسْتِلْهَامِ وَاقِعِ الْحَيَاةِ
وأدعي أنه لا تكون في الحياة علاقة إنسانية حتى تكون لها في اللغة علاقة نحوية؛ فيكونَ مِنْ حُسْنِ التأليف ذِكرُ إحداهما بالأخرى، والتعويل في بيانها عليها.
من ذلك مثلا تنازع العاملين معمولا واحدا في مثل قول بعض السياسيين: لَمْ نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ شَيْئًا جَدِيدًا؛ فـ"شيئا" مفعول به يتنازعه الفعلان قبله، ويجوز أن يعلق بأحدهما دون الآخر؛ فأما مُعلِّقُه بآخرهما لأَقربيَّته فَكَمُسْتعمل أهل الثقة، وأما مُعلِّقُه بأولهما لأَسْبقيَّتِه فَكَمُسْتعمل أهل الخبرة!
عَدَمُ تَوْظِيفِ مَصَادِرِ الْأَدَبِ
فمهما يكن موضع المؤلف من البيان فلن يستوعب العلاقات النحوية كلها! وكيف يستوعب ما لا يعرف؛ فهي مثل أهلها مَجْهولُهُمْ أكثرُ من مَعْلُومِهِم! أم كيف يستوعب ما لا يقبل؛ فمنها ما لا يرتاح هو إليه على رغم ارتياحغيره!
وإذا تَكلَّفَ مجاراة غيره لم يَجْنِ من تكلفه غير الجوع والعطش؛ إذِ العلاقاتُ النحوية كالعلاقات الإنسانية، في جنود مُجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف!
إِهْمَالُ السِّيَاقَاتِ النَّصِّيَّةِ الشَّارِحَةِ

فكما لا تتحدد للكلمة صيغتها الصرفية ولا معناها المعجمي ولا توصف بإعراب ولا بناء حتى يستوعبها مركب نحوي، لا تتحدد للمركب النحوي نفسه فكرته حتى تستوعبه فقرة ذات قضية، ويستوعب الفقرة نص ذو موضوع، ويستوعب النص كتاب ذو غرض، وتستوعب الكتاب جمهرة -والجمهرة الأعمال الكاملة- ذات رسالة، وتستوعب الجمهرة ثقافة ذات معالم.
ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: "إِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ؛ فَانْتَهُوا إِلَى مَعَالِمِكُمْ"؛ فإنه إذا اتضحت معالم الثقافة اتضحت بها رسالة الجمهرة، فغرض الكتاب، فموضوع النص، فقضية الفقرة، ففكرة المركب النحوي.
تلك أبنية متداخلة، يحيط بعضها ببعض، ولا يستغني كتاب علم النحو ببعضها عن بعض، ولكنه ربما اكتفى في بعضها بالإشارة أو الإحالة، حتى إذا انتقل بكُلِّهِ إلى مصادر الأدب لم يكن أَدَقّ منه ولا أَحْرَص.
مِنْ مُشْكِلَاتِ الْكِتَابِ (الْمُقَرَّرِ):
الِاسْتِهَانَةُ بِالْإِمْلَاءِ وَالتَّشْكِيلِ وَالتَّرْقِيمِ
ومن الاستهانة ينبع الخطأ ويسيل ويتدفق حتى يتناقض الدرسُ والكتابُ؛ فلا يدري الطالب أيًّا يُصدِّق، ولاماذا يفعل!
فمن ذلك أن يكون المقام لإضمار الغائب (ـه)، فترسم هاء التأنيث (ـة) -وهو أكثر من أن يُحصى- أو يكون المقام لإعمال المصدر فتشكل بالضمة "مَطِي" في قول طرفة:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ
أو يكون المقام للتعجب فتوضع "؟"، بعقب جملة "مَا أَشَدَّ الْحَرَّ"، بدل "!"، وكأن لم يَأْلَمْ لذلك أبو الأسود الدؤلي حتى راجع مهنة التعليم بعد إعراض!
عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُرَكَّبَاتِ الْمَجَالِ اللَّفْظِيِّ الْوَاحِدِ
وهل الجملة النحوية غير مركب من عنصرين مؤسسين (ركنين)، بينهما علاقة إسناد، ربما انضافت إليهما أحدهما أو كليهما، عناصر أخرى مكملة (متعلقات)، أو ملونة (أدوات(!
فكيف يستغني مؤلف كتاب علم النحو في مقام بعض المؤسسات أو المكملات أو الملونات، عن الاستطراد إلى غيرها من المؤسسات والمكملات والملونات، وهو أعون على تثبيت الفكرة، وتمييز فوارق ما بين مثل هذه المركبات وجوامعها.
عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُرَكَّبَاتِ الْمَجَالِالْمَعْنَوِيِّ الْوَاحِدِ
لا ريب في استقلال بعض المركبات النحوية بالدلالة الاصطلاحية على الأسلوب، كما في استقلال "لَا تَفْعَلْ" بالدلالة على أسلوب النهي. ولكن ربما دل عليه غيره، كما في قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "هَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ"، الذي فزع منه سيدنا عمر -رضي الله عنه!- حتى قال: انْتَهَيْنَا، يَا رَبِّ!
وإن من حكمة مؤلف كتاب علم النحو ألا يُخْلي الكلام في الدلالة على الأسلوب بالمركبات الاصطلاحية، من الدلالة عليه بالمركبات غير الاصطلاحية، ليستقر في وعي الطالب مظهرٌ طبيعي من ظاهرة الحِراك اللغوي الباهرة.
عَدَمُ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ
وفي ذلك الجمع بين مركبات المجالين اللفظي والمعنوي المتحدة، تختلط المتشابهات والمشتبهات؛ ولا يجوز التهوين منها بالإعراض عنها -فمن بين براثن المركبات البعيدة تُسْتَنْقَذُ القَريبةُ- ولا التهويل منها بالإغراق فيها -ففي الانقطاع للمركبات البعيدة تَضيعُ القَريبةُ- فخير الأمور الوسط.
وهل فَلَجَ الجرجانيُّ في دلائل الإعجاز على النحويين الصوريين إلا بتمييز المتشابهات من المشتبهات! وما زلت أذكر تنبيهه على صنعة أبي تمام في قوله:
لُعَابُ الْأَفَاعِي الْقَاتِلَاتِ لُعَابُهُ وَأَرْيُ الْجَنَى اشْتَارَتْهُ أَيْدٍ عَوَاسِلُ
كيف مَنَعَنَا تشبيهه حبر القلم (لعابه) عند العقاب، بسم الأفاعي (لعاب الأفاعي)- من إعراب "لعاب" في "لعابالأفاعي" مبتدأ على شدة التباسه به على كثير منا!
مِنْ مُشْكِلَاتِ الْمُدَرِّسِ:
عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّحْوِ وَعِلْمِ النَّحْوِ
ولهذا ينغمس الطالب في الإعراب عن وجوه الإعراب، بعربية تَلْعَنُها العربية، وكأن ليست هذه من ذاك وذاك من هذه!
ولا أقول: "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، بل أقول: لتحيا اللغة العربية وسيبويه جميعا ينبغي للمدرس تعليق الطالب بالنحو من خلال علم النحو، لا تعليقه بعلم النحو من خلال النحو؛ فإنَّ في الحال الأولى خيرَ النحو المتحرك في طبيعة اللغة وعلم النحو الساكن في تراث النحويين، فأما في الحال الآخرة فشَرُّ النحو وعلم النحو جميعا!
عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ عِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْإِعْرَابِ
إنه إذا كان علم النحو هو منهج البحث عن طبيعة تكون المركبات اللغوية الصغرى (التعبيرات، والجمل(المفضي إلى نظريات ضابطة متحكمة، فإن التأليف هو تطبيق هذا العلم، والإعراب هو كشاف هذا التأليف.
تلك مصطلحات مَفْصِليَّة أَوَّلِيَّة لا يجوز أن تغيب عن المدرس فتلتبس مفاهيمها على طلابه؛ فإن توفيقهم إلى الإعراب عن حقيقة التأليف بمقتضى علم النحو(تمييز عناصر المركب اللغوي الصغير، ومواقع بعضها من بعض، وأحوالها، وآثارها(، لدليل مُصَدَّقٌ على استيعابهم.
الِاشْتِغَالُ بِتَعْدِيدِ الْوُجُوهِ الْإِعْرَابِيَّةِ عَنْ تَآلُفِالْمَعَانِي
وليس أكثر وجوها من هذه المركبات اللغوية الصغرى (التعبيرات، والجمل)، حتى لقد تنافس النحويون الصوريون على الزمان في تركيب ما يَتَحَمَّلُ منها أكثر من غيره؛ فشغلوا بالباطل طلاب علم النحو عن الاحتكام إلى السياقات اللغوية وغير اللغوية، في توجيه المركبات اللغوية وتفسيرها وتذوقها.
ولم أزل أَعجَبُ وأُعجِّبُ غيري من اشتغال السيوطي بعبارة ابن العريف السخيفة: "ضرب الضارب الشاتم القاتل محبك وادك قاصدك معجبا خالدا في داره يوم عيد"، التي تتحمل -زعم- أَلْفَيْ أَلْفِ إعراب (مليونين)؛ كيفالتَفَتَ إليها وهو اللغويُّ الأديبُ المُفسِّر!
عَدَمُ مَزْجِ اللَّفَحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ بِالنَّفَحَاتِ الْأُسْلُوبِيَّةِ
فلا غنى بوصف ماهيَّة المركبات النحوية (تَكَوُّنها)، عن ذوق كَيفيَّتها (سر تكونها)؛ فلولا الكيفية لم تكن الماهية، غيرَ أنَّ تعوُّد المركبات مفسدةٌ أيُّ مفسدةٍ، ولا منجى منه إلا أن يُوطِّن المدرس نفسه على البهجة بها وكأن لم يسمعها من قبل.
ولا بأس على المدرس بأن يستولي على مقالات المَعانيِّين، فيضمنها دروس علم النحو -فهي بضاعته ترتد إليه- مثلما فعل السامرائي في "معاني النحو"؛ فلا يخفى أنه ذهب يجمع مقالاتهم حتى اكتفى، ثم عاد ينزلها على مسائل علم النحو بترتيب الألفية، وكأنه يقول لمدرسها: هَيَّا بما تَهَيَّأَ؛ لا عُذْرَ لَكَ!
إِهْمَالُ الِاسْتِطْرَادِ إِلَى أَمْثِلَةِ الْوَقْتِ الْمَشْهُورَةِ
وفيها من الصواب ما ينبغي الثناءُ عليه والتمسك به، ومن الخطأ ما ينبغي النعيُ عليه والتخلص منه، ومِن كلٍّ ينبغي للمدرس أن يستفيد، فيستعين باستعمال الصواب على استبعاد الخطأ.
من ذلك مثلا أسماء المواد الفضائية المتلفزة التي تستولي على أسماع الناس وأبصارهم؛ فلا ريب في أثر استبشاع صرف "جَوَاهِر" صيغة منتهى الجموع الممنوعة من الصرف أصلا في "جَوَاهِرٌ خَالِدَة"، شعار بعض الفضائيات، ولاسيما إذا وجد شعارا آخر صائبا مثل "فَوَاصِلُ فُكَاهِيَّة"، تمتنع فيه من الصرف كلمة "فَوَاصِل" شبيهة "جَوَاهِر"!
إِهْمَالُ التَّدْرِيبِ وَالِاخْتِبَارِالْمُنَاسِبَيْنِ
ولاسيما إذا بنى المدرس تدريسه على أن يترك للطلاب بعض دروس المقرر ويختبرهم في بعضها بعد أن يُدرِّس هو بعضها، وهذا أنضجُ ما يمكن أن يكون من مناهج التدريس؛ فإن المدرس يُقدِّم علمه وخبرته بتدريس بعض الدروس، ويَحمِل الطلاب على البحث والاجتهاد بتكليفهم تدريسَ بعض الدروس أمامه، ويُفجِّر طاقاتهم الإبداعية باختبارهم في دروس أخرى على وَفْق ما درس ودرسوا.
فإذا لم يَقْدِر على هذا الأسلوب المتنوع المتكامل المتعالي لم يُعْذَرْ بعدم تكليف الطلاب أن يجهزوا ما دَرَّسَ وكأنهم سيُدرِّسونه من خلال أمثلة أخرى خارجة من تحصيلهم وتفكيرهم، ولا بعدم اختبارهم في ذلك.
إِهْمَالُالتَّعْلِيقِ عَلَى نَتَائِجِ التَّدْرِيبِ وَالِاخْتِبَارِ
وهل أَخْلَبُ أو أَلْطَفُ أو أَنْفَعُ من أن يجلس المدرس لطلابه يقرأ أو يسمع أمثلتهم التي مَثَّلُوا بها الأفكار النحوية، فيعلق على أصواتها وصيغها ومعانيها ومركباتها وأفكارها، ويميز لهم صوابها من خطئها، ويفسر دواعيها الكامنة في نفوسهم، ويمكن منها أصولهم الثقافية، حتى يستقيم تفكيرهم وتعبيرهم، وتستقر ثقتهم، ويستمر اجتهادهم!
مِنْ مُشْكِلَاتِ الطَّالِبِ:
الِاسْتِهَانَةُ بِالِانْضِبَاطِ اللُّغَوِيِّ اسْتِمَاعًا وَتَحَدُّثًا وَقِرَاءَةًوَكِتَابَةً
وربما أُتِيَ الطالبُ من اضطراب حضور اللغة واللهجة، ولو كان تعلم أنه لا يستغني عن حضور لغته في مقاماتها مثلما لا يستغني عن حضور لهجته في مقاماتها، ما استهان بالانضباط اللغوي مثلما لا يستهين بالانضباط اللهجي.
ولقد حُدِّثْنَا عن امرأتين عمانية ومصرية انتظرتا حافلة نقل المسافرين مدة، فلما حَضَرَتْهُما صاحت العمانيةُ بالمصرية: اسْتَنِّي! ففعلت؛ وفاتتها الحافلة؛ إذ "اسْتَنِّي" في اللهجة المصرية من "الاسْتِيناء" أي التَّمَهُّل والتَّوَقُّف، وفي اللهجة العمانية من "الاسْتِنَان" أي الإسراع، ولو كانتا عمانيتين أو مصريتين ما التبس عليهما أي من ذلك! وكذلك ما روينا في أخبار الحمقى والمغفلين، عمن سمع مؤذنا ينصب كلمة "رسول" من شهادة الأذان "أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللهِ"، وحقها الرفع خبر أن؛ فأجابه سريعا: يَفْعَلُ مَاذَا، سخرية من خطئه الذي نقص الكلام الكامل!
فلو عرف الطالب لكلتا اللغة واللهجة مكانها ومكانتها، ما جار بإحداهما على الأخرى؛ وكيف يجور بخاصة محدودة (لهجته)، على عامة مطلقة (لغته)؛ فيقطع رحمه! أم كيف يجور بعامة مطلقة على خاصة محدودة؛ فينكر نفسه!
الْغَفْلَةُعَنْ تَأَصُّلِ النَّحْوِ فِي كُلِّ عَمَلٍ لُغَوِيٍّ
يصخب الطلاب بعضهم على بعض وعلى مدرسيهم بأنهم لا يعرفون النحو ولا يحبونه، وبأنهم يعرفون الأدب ويحبونه! ولو اطلعوا على أنهم لولا معرفتهم النحو ومحبتهم له ما عرفوا الأدب ولا أحبوه، لتوقفوا فيما يصخبون ولندموا على ما فَرَطَ منهم؛ فإن النحو هو نظام التفكير والتعبير الذي ينتظم ذلك الأدب، ويلتقون عليه هم وغيرُهم فَهمًا وإفهامًا، ويتحاكمون إليه. ولولا انتظام النحو بينهم ما استقام بيان، ولا استمر إحسان!
الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْدِيرِ الْعَلَامَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ دُونَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَالِمِ النَّحْوِيَّةِ
والنحو نظام عظيم من أعمال التحديد والترتيب والتهذيب اللغوية المتشعبة المتداخلة، لا تتجاوز فيه العلامة الإعرابية (الضمة وما ينوب عنها، والكسرة وما ينوب عنها، والفتحة وما ينوب عنها، والسكون وما ينوب عنه)، مقدار خُمُسِهِ؛ ولن يغلب خُمُسٌ أربعةَ أخماس، بل يُحتمَلُ لها الخطأُ فيه والبَرَمُ به، ويُصبَرُ عليه، حتى يَنقاد لها طَوعًا، وتستقيم على جادة اللغة الأخماس كلها.
وكما كان التقطيعُ الوزني أهم خُطا التخريج العروضي، وتمييزُ الأصول أهم خُطا التخريج الصرفي- يظل تعيينُ الموقع أهم خُطا التخريج النحوي، حتى إنه لَيُكْتَفى بها في أكثر التحليلات النحوية، ولاسيما بين المثقفين غير المتخصصين.
الِاسْتِغْنَاءُ بِحِفْظِ الْقَوَاعِدِ عَنْ تَطْبِيقَاتِهَاالنَّصِّيَّةِ
يتجاوز بعض المتعجلين أو المغرورين تفصيلات الأمثلة وتحليلاتها النحوية الحية، إلى قواعد مسائلها المتحكمة الميتة، فيحفظونها، ثم يجدون الرضا عما فعلوا! ومنهم من يشتغلون بحفظ المتون عن استيعاب تحليلات النحويين المتحققين من مفسري القرآن الكريم وشراح النثر الشريف ونقاد الشعر النفيس!
أَلَا ما أشبه هؤلاء المشتغلين عن التطبيقات النصية بحفظ القواعد والمتون، بالمشتغلين عن صحبة الصالحينبحفظ كتب الأخلاق؛ فإن هؤلاء يسيئون معاملة الناس من حيث يحسبون أنهم يحسنون، وأولئك يخطئون وجه تكوين المركبات النحوية من حيث يحسبون أنهم يصيبون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إِهْمَالُ فَوَارِقِ مَا بَيْنَ الْمُرَكَّبَاتِ الْمُلْتَبِسَةِ
ربما كان شعار طلاب علم النحو المجتهدين الانقطاع للمركبات الملتبسة حتى يتجلى ما بينها من فوارق،اطمئنانا إلى أن غيرها من المركبات قريبة التحليل حاصلة في الأَكُفّ بأيسر النظر. وشعار المقصرين عن شأو أولئك التسوية بين ما لا يستوي!
فعلى حين يستغرق أولئك المجتهدين التفريق في باب إعراب الفعل المضارع مثلا بين عبارة "مَنْ يَجْتَهِدُ يَنْجَحُ"مرفوعة الفعلين في أسلوب الإخبار عن الاسم الموصول، وعبارة "مَنْ يَجْتَهِدْ يَنْجَحْ" مجزومة الفعلين في أسلوب الشرط- لا يخطر الاجتهاد في تحصيل ذلك الفارق للمقصرين ببال!
إِهْمَالُ جَوَامِعِ مَا بَيْنَ التَّرَاكِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ
ولقد ينبغي ألا يقل في تقدير طلاب علم النحو المجتهدين، مقدار الانتباه إلى ما بين المركبات المختلفة من جوامع، عن مقدار الانتباه إلى ما بين المركبات الملتبسة من فوارق؛ فكلاهما صورة الآخر معكوسة، والضد من مقام ضده. فأما المقصرون فلا يَحِيدون عن سُنَّة الغَفْلة التي تُضيّع الجوامع مثلما ضَيّعت الفوارق!
فعلى حين يستغرق أولئك المجتهدين الجمعُ في باب إعراب الفعل المضارع نفسه مثلا، بين جزم "تَنْجَحْ" في عبارة "اجْتَهِدْ تَنْجَحْ"، وجزمه في عبارة "إِنْ تَجْتَهِدْ تَنْجَحِ"، من حيث يتشابه جواب الطلب وجواب الشرط في أسلوب المجازاة- يغفل المقصرون عن ذلك بما في رفعه من معنى الاطمئنان بأسلوب الحال إلى تحصيل النجاح!
إِهْمَالُ حِفْظِ الْأَمْثِلَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَكَامِلَةِ
والقواعدُ العلمية النحوية كلُّها في القرآن الكريم والنثر الشريف والشعر النفيس، وليس القرآنُ الكريم والنثر الشريف والشعر النفيس كلُّها في القواعد العلمية النحوية؛ فمن ثم ينبغي لطالب علم النحو أن يشتغل بحفظ الأمثلة الكلامية المطلقة المختلفة المتكاملة، ولاسيما بتحليل مفسري القرآن الكريم وشراح النثر الشريف ونقاد الشعر النفيس، المتحققين بحقيقة التحليل النحوي، أكثر مما يشتغل بحفظ القواعد العلمية النحوية المقيدة؛ فإنه إذا حان حين الأسئلة حارت عينُ القواعد، واهتدتْ عينُ الأمثلة!
مِنْ مُشْكِلَاتِ الْإِدَارَةِ (الْمُؤَسَّسَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ):
عَدَمُ الْبَحْثِ عَنْ ذَوِي الْمَهَارَاتِ التَّدْرِيسِيَّةِ
ورحم الله الدكتور مصطفى ناصف الناقد الفيلسوف، بقوله: "النَّحْوُ إِبْدَاعٌ"، وأراد علم النحو وتدريسه، لا نحو اللغة الكامن فيها -فلا خفاء بإبداعية هذا- إذ المبدعون وحدهم هم الذين يعرفون أقدار المركبات النحوية، ويهتدون إلى محاسن شرحها؛ فتنفتح لهم ولها مغاليق القلوب والعقول، حتى إذا ادعوا فيها ما ينبغي لها مما لم يُعْرَفْ عنها صُدِّقُوا فيه وتُوبِعُوا عليه.
أفبعد ذلك يجوز لمديري المؤسسات التدريسية أن يُمَكِّنوا أيَّ أحد من تدريس علم النحو! فكيف إذا كان من كارهيه أو مستثقليه، الذين لم يجدوا غير تدريسه عملا فعملوه مضطرين غير مختارين!
قَبُولُ انْتِقَالِ الطُّلَّابِ غَيْرِالْمُؤَهَّلِينَ
فإذا مضى المدرس المبدع في درسه يميز المركبات النحوية في أمثلتها الكثيرة المختلفة ويتذوقها لطلابه، تَعَثَّرَ بمن لا يعرف منهم سوابق الأفكار النحوية القبلية التي يبني عليها وينطلق منها، يَقْتَضِيهِ أن يَرتدَّ على عَقِبِه!
وإذا اشتغل مدرسٌ بما سبق لم يَتفرَّغْ لما يلحق؛ فأهمله مضطرا موهوما بحرصه على الطلاب جميعا أَلَّا يجهل أيٌّ منهم أيًّا مما يقول، ليخلفه عليهم مدرسٌ آخرُ مبدعٌ لا يكاد يمضي في درسه الجديد حتى يتعثَّرَ بالطلاب جميعا!
حَصْرُ الْمُدَرِّسِ وَالطُّلَّابِ فِي التَّجْهِيزِ لِلِاخْتِبَارِ
وليس أوضح في هذا المقام من أن يُفرَض الاختبار من خارج مجتمع المدرس والطلاب؛ فعندئذ تَتَقَدَّسُ نَماذجُالاختبارات السابقة، وتُقاسُ عليها الدروسُ، وتَجفُّ المحاضراتُ، وتذوي حتى تَموت، ويذهب العُرْفُ بين المدرس والطلاب!