النظرة الكلية والتفاعيل

ليس معنى الاهتمام بالأجزاء وما يحدث فيها من حركة ونشاط وتغيير أن هذا ضد المضمون الكلي الذي يضم هذه الأجزاء ، كذلك ليس معنى اهتمام العروض التقليدي بالنظر في أجزاء الوزن نظرة متأملة دقيقة فاحصة أن هذا ضد الفهم الشامل والكلي لما عليه الوزن ، حيث أن النظرة الكلية إلى الوزن تنشأ من استنباط أصل البحر من دائرته دون أن ينقص منه شيئا ؛ وتلك هي النظرة الكلية الشاملة للوزن ، ولكن التقليدي رأى أن يسمي مجموعات المقاطع المتكررة تفعيلات ، ووضع لها ألفاظا معينة تدل عليها لتسهيل استدعائها وتيسير التفرقة بين بحر وآخر بمجرد ذكر لفظ تفعيلاته : الذي لا يعني سوى تواتر وحدات معينة تضمها هذه التفعيلة في لفظها ، وعندما وجد العروض التقليدي أن الوزن الواحد من البحر له إيقاعات متعددة ومختلفة قد تتغير وتتبدل في كل بيت عن سابقه ولاحقه فإنه تأمل تلك التغييرات بصورة كلية فوجدها تتبع قواعد معينة ؛ إذ أنها تغييرات تتم في كل جزء من أجزاء الوزن على حدة بقواعد متشابهة ومتماثلة ومتطابقة ، فكان من الطبيعي أن يتم دراسة هذه التغييرات على مستوى الأجزاء التي تتم فيها ؛ إذ أن ذلك أيسر وأسهل للفهم والاستيعاب ولن يغير من الواقع شيئا أن تدرسه بصورة سهلة واضحة أو أن تنظر إلى الوزن بصورة كلية فلا تكاد ترى قاعدة يمكن استنباطها لتلك التغييرات إلا أن تكون بالغة الصعوبة والمشقة فضلا عن أنها قد تفتقر إلى الدقة والصواب في كثير من التطبيقات فضلا عن إغفالها القليل والنادر في أكثر الحالات ، وإذ افتقرت إلى الدقة فإن هذا يعد سببا كافيا للتمسك بفحص الأجزاء إذ أن الدقة هي المبتغى الأول لأي عمل علمي دقيق.

واسمحوا لي أن أستطرد قليلا لتوضيح هذه النقطة :

إنك مثلا إذا رأيت وجها مبتسما فسوف ترى العينين والحاجبين والشفتين قد اتخذت وضعا سلسا منبسطا لتعطي الصورة الشمولية المبتسمة ، فإذا رأيته قد تحول إلى وجه غاضب أو عابس فإنك سوف ترى ذلك التغيير قد حدث في نفس هذه الأعضاء أو الأجزاء التي تؤدي في النهاية إلى تلك الصورة الكلية للوجه الغاضب أو العابس ؛ فسترى الحاجبين قد انعقدا والعينين قد اتسعتا والشفتين قد انقبضتا ، وهذا التغيير المقنن للأجزاء والذي له حدود لا يمكن أن يتجاوزها - إذ لا يمكن أن يختلط الحاجب بالعين ولا العين بالفم ، كما لا يمكن أن يزداد اتساع العين حال الغضب عن حدود معينة أو يزداد انبساط الشفتين حال الابتسام عن حدود معينة – نقول أن هذا التغيير المقنن بحدود محددة هو الذي يعطي الصورة الكلية الشمولية للوجه المبتسم أو الوجه العابس.

وإن أراد أحد أن يعرف الفرق بين الوجه المبتسم والوجه العابس فلا بد له من دراسة تلك التغييرات التي تحدث في أجزاء الوجه المختلفة ، أما النظرة الكلية الشمولية وحدها فلا يمكن أن تكفي لمعرفة دقائق وتفاصيل تلك الفروق ما لم يكن ذلك مقرونا بتأمل ما يحدث لأجزاء الوجه المختلفة وإلا فإن بعض هذه الفروق وما تحوي من تفاصيل سوف تضيع ولن نتمكن من إدراكها بالدقة المطلوبة بمجرد نظرة شمولية تتجاهل الخصوصيات الجزئية.

نفس الشيء ينطبق على الأوزان التقليدية فإن الصورة الكلية تأتي من استنباط وزن البحر من دائرته ؛ فإذا ما تغيرت صور وإيقاعات هذا البحر كان لا بد من النظر إلى أجزائه لنعرف في أي جزء وقع التغيير ولنستنبط القواعد التي تضع الحدود والتوصيفات الدقيقة للتغييرات التي تتم في تلك الأجزاء دون أن نتركها ليختلط بعضها ببعض فيصعب حينئذ استنباط أي قواعد دقيقة لتلك التغييرات.

أنا لا أرى عيبا في هذا ولا أرى تناقضا بين النظرة الكلية مقترنة بالحفاظ على خصوصية الأجزاء ، ولا يمكن أن نتهم الطبيب الذي يرصد التغيير الحادث في الطفل أثناء نموه على مستوى وزنه وطوله وجهازه العصبي وجهازه الحركي وجهاز النطق والكلام ونمو ذكائه بأنه ضد الشمولية إذ يرصد تغييرات الأجزاء ، وأقول إنه لم يرصد تغييرات تلك الأجزاء إلا من أجل للوصول إلى نظرة كاية شمولية لما عليه حال هذا الطفل.

فأي تناقض إذن بين النظرة الشمولية وبين الاعتناء بالأجزاء وخصوصيتها ؟؟؟

إن النظرة الشمولية ما هي إلا نتيجة تأمل الأجزاء وربطها معا لتعطينا في النهاية تلك الصورة الكلية الشمولية.

ومن وجهة نظري .. فإن حب دارسي الرقمي لهذه الطريقة لم يجئ بسبب ما يقال عن شموليته وإنما جاء بسبب التعبير عن الأوزان والإيقاعات باستخدام الأرقام لأن العقول تختلف في إدراك الأشياء ؛ فهناك عقول تستريح للأرقام وتنفر من الألفاظ وهناك العكس أيضا .. فمن أحب الرقمي فقد أحبه من أجل استخدام الأرقام وخلوه من المصطلحات الكثيرة بغض النظر عن تميزه بنظرة شمولية أو جزئية بمعنى أنه لو قدر للأستاذ خشان أن يعتني بالأجزاء اعتناء رقميا فإنني أثق أن تلامذته ومريديه سيتبعونه ولن يخاصموه ولن يهجروه ولن يتهموه بالضلال.

وإنما العيب الوحيد الذي يعتري التقليدي في رأيي هو كثرة المصطلحات سيما في الزحافات والعلل وعدم وجود طريقة ميسرة لاستنباط البحور وهذا ما عالجته في منهجي الرقمي القياسي معالجة جعلتني راضيا كل الرضا عما وصلت إليه من نتائج ثابتة ؛ إذ أن التطوير أو التحسين يقتضي منا أن ننظر إلى ما نراه عيوبا ثم نقوم بمعالجتها ، أما ما نراه مزايا فيجب أن نبقي عليها ونتمسك بها ؛ وهذا هو بالضبط ما فعلته في القياسي ؛ إذ كان أساس التجديد في طريقة استنباط البحور وفي تقليل مصطلحات الزحافات والعلل وفي حصر قوالب البحور ؛ كل ذلك بطريقة رقمية قابلة لإعادة الصياغة بطرق لفظية لكي تناسب أيضا النافرين من الأرقام.

وإلى لقاء آخر

دمتم بخير