http://www.hdrmut.net/vb/137097-post1.html

هذا مقال منشور في اليمن لكنه يمثل الحال في الوطن العربي. لقد أهمل هذا العلم وحذف من مناهج التعليم مما أدى بالحال إلى ما يصفه المقال.

أعتقد أن العروض الرقمي ييسر كثيرا من صعوبات دراسة هذا العلم حتى ليمكن للطالب في الابتدائي استيعابه كرياضيات مبسطة خالية من كافة المصطلحات التي طالما أثقلته.

http://www.alsahwa-yemen.net/1-2002/p7-31-1.htm

فيما يلي نص المقال:

شعراؤنا الشباب يقاطعون الخليل عجزا عن فهمه !

كتب المحرر الأدبي

كانت موسيقى الشعر العربي (العروض)، ولا تزال مثار جدل واسع في الأوساط الشعرية والنقدية، ويتضح ذلك من خلال المعارك الحادة التي احتدمت بين تيارين متباينين: ينظر الأول منهما إلى عروض الخليل على أنه من الثوابت الفنية التي يمكن تجاوزها، ويرى الآخر أنَّ بحور الخليل ليست إلا رصدا للقوالب الموسيقية لشعر ما قبل الخليل، وهي وإن كانت لازمة للإبداع لكنها ليست الإبداع كله بمعنى أنها قابلة للإضافة بما يتواكب مع تطور الحياة والناس.

والحقيقة أنَّ هذين التيارين أفرزا دراسات جادة ورائعة يضيق المكان عن حصرها كما أفرزا أشكالا شعرية جديدة مبنية على أساس فني موغل في دراسة الخليل ويتضح ذلك من خلال المحاولات التي ابتدأها أبو العتاهية في العصر العباسي حين أوجد ما يعرف بمقلوب الأوزان، تلا ذلك النظام الموسيقي للموشحات انتهاء بقصيدة التفعيلة على يد رائدين من رواد الشعر المعاصر: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة.

وإلى هنا وقضية موسيقى الشعر في أمان وسلام. اعتورها ما اعتورها من التطور والتجديد لكنها ظلت محافظة على ما يمكن تسميته بالمشترك الإيقاعي الذي يقنع كل سامع أنّ هذا شعر وإن اختلف في بعض المظاهر الإيقاعية الأخرى.

واليوم وبعد ظهور الدعوات الحداثية الرامية إلى (قتل الأب)، والتنكر لكل مفردات الثرات بما في ذلك موسيقى الخليل اكتظت الساحة بعشرات الإصدارات التي يحرص الناشرون على أن يكتبوا في غلافها كلمة شعر قرينة للعنوان، وكأن ذلك كاف للبرهنة على شاعرية هذا الديوان أو ذاك.

إن الدعوة إلى مقاطعة العروض الخليلي ضرب من السذاجة استجاب لها الكثير من المتشاعرين الذين هم في الأساس عالة على الحياة الأدبية. فتحوا أعينهم على أصوات تنادي بأن القصيدة ليست أوزانا ولا نحوا ولا بلاغة ولا.. ولا.. إلخ. فاستجابوا لهذا النوع من الشعر لأنه لا يكلفهم ضريبة الفن وهي ضريبة مكلفة وقتا وجهدا فراحوا يزعمون أنَّ القصيدة الحديثة استعاضت عن كل ذلك بشاعرية الكلمة المشحونة بالإدهاش، وزادوا في ذلك أن وصلت إليهم دعاوى الأسلوبية الحديثة ففهموا منها أنَّ كل ما يصدر عن الشاعر له دلالة حتى تلك الأخطاء اللغوية فإنها لم تأت جزافا وعلى هذا الفهم المغلوط للأسلوبية ارتكبت حماقات لغوية شائنة، وحمّلت اللغة مالم تحمله في عصورها المختلفة من تجاوزات في المعاني والمباني وأصبحت الأمية اللغوية لدى هؤلاء ضربا من الإبداع تمكنهم من أن ينصبوا المرفوع ويرفعوا المنصوب فيبدعوا بذلك أيما إبداع!!



ومعظم الشعراء الشباب في بلادنا ليسوا بمعزل عن هذه اللوثة، فقد وقع في يدي كثير من إصداراتهم المعجونة بالأخطاء اللغوية والبيانية، والتي تقنع كل قارئ لهذه المجموعات المحسوبة على الشعر بأن عصر الشعراء اللامعين في بلادنا ولّى وجاء عصر المتشاعرين الملمَّعين ليؤذوا مسامعنا بثرثراتهم إمعانا في تكريس الضحالة حتى الثمالة.

وليس ذلك تجنّياً على أحد فيكفي القارئ الكريم الوقوف أمام نص كهذا ليكتشف كم من العباقرة يعيشون بيننا يستأثرون بمنابر عديدة وكأنهم ورثوها عن أجدادهم:

تضحك دون موتي سحابة من الغثيان

فأمضي على شفرات الوقت

لأكتشف أنّي مولودا الساعة.

ومثل هذا كثير.. والغريب في الأمر أنَّ هناك من يترصّد لكل لمحة إيقاع خليلية ويحضرني في هذا المجال موقف حدث في أحد دواوين القات عندما طلب من بعض الشعراء الشباب قراءة بعض نتاجاتهم فانبرى عدد منهم، وكان من بينهم من يشعرك وهو يقرء في قصيدته أنّه يعاني من مغص كلوي حاد فيتكئ على كلمات معينة، ويصرخ بثانية، ويهمس بثالثة، وهو في هذا وذاك لا يكاد يبين، ويكرر الأمر نفسه مع شاعر ثان وثالث..... فلا تكاد ترى للخليل أثرا فيما تفضلوا به من نتاجاتهم، وحين جاء الدور على شاعر بينه وبين الخليل صلة مع مالديه من تجديد في لغة القصيدة ومعانيها انبرى إثر ذلك من بين الحاضرين من يقول إن قصيدة هذا الشاعر ليست من الشعر في شيء وأنها إلى النظم أقرب لأنها حسب رأيه أثقلت بقيود الوزن والقافية فخرجت شوهاء عمياء صماء. في حين أن قصائد أولئك العباقرة الذين لا يعرف الواحد منهم من هو الخليل وماهو علمه الذي تنكروا له قوبلت بالاستحسان. ولله في خلقه شئون.

وللحقيقة فإنَّ من بين شعرائنا الشباب من صدرت له مجموعة شعرية أو مجموعتين وهو في خصام مع الخليل حتى إذا ما اقترب منه وفهمه أحبه وراح يترسم خطاه الموسيقية فأبدع قصائد رائعة يمكن أن نضعها في مصاف الروائع الشعرية الحديثة، ويحضرني في هذا الصدد اسم الشاعر (الحارث بن الفضل) شاعر (القوافي القلقة) الذي أبدع في مجموعته الثانية آنفة الذكر أكثر بكثير مما أبدعه في مجموعته الأولى (هذيان النجوم).

إن كثيرا من التهم التي وجّهت للقصيدة العمودية كانت الشواهد فيها نماذج نظمية سيئة لا تعد حجة على الشعر العمودي ذلك أنَّ روائع الشعر العربي لم تعرف إلا عبر عموديات المتنبي والمعري والبردوني، وغيرهم ممن طفحت شاعريتهم فتدفقت سلسلا فنيا عذبا لا يشوبه شائبة ولا يعرقله عائق لكن هؤلاء عجزوا عن دراسة العروض وعن فهم اللغة، مع ما يعانونه من إملاق حاد في التراكيب والمعاني فراحوا يصمون القصيدة العمودية بأنها قيود وكوابح وكان دليلهم الأكبر على دعواهم هو ... عجزهم المفرط.

ويجدر بي في نهاية هذا المقال أن أدعو المبدعين الحقيقيين في بلادنا أن يعيدوا النظر في علاقتهم مع الخليل وأن يقتربوا منه أكثر حتى يفهموه، ولهم بعد ذلك أن يطوّروا، وأن يجددوا وفق هذا الفهم حتى يصير تجديدهم إبداعا لا إبعادا.
للمزيد من مواضيعي