وقد أرسل لي صديق هذا المقال لأستاذي محمد تقي جون علي وهو في نفس سياق الموضوع أعلاه


السلطة على الأوزان .. الوزن الجاهلي وعلم العروض (2)

ا. د. محمد تقي جون
آلية عمل الخليل:
اشتغل الخليل على قضيتين لتحقيق غايته (العروضية) الأولى: التقليبات النغمية أو فكرة الدوائر العروضية، والثانية:
الزحافات والعلل. وفي الدوائر العروضية كرر محاولته في تقليب الكلمات تلك التي مارسها في قاموسه (العين)، وقد ظهرت عنده في (التقليب العروضي) بحور لم يكتب عليها الجاهليون ولم تتقبلها سليقة المعاصرين فزعم أن العرب أهملتها موحياً بمعرفتهم إياها. والحقيقة إن (المهمل) لم يكن اقتراحاً من الخليل لبحور جديدة ولكنها من مضاعفات عملية تدوير البحور وكأنه أراد أن يقول إن (المهملات) بحور تقع ضمن دائرة الوزن العربي إلا أنهم لم يستعملوها، واذا خرج بحر مستعمل سماه أو مستحدث مشهور تستطيع الدوائر بتقليباتها استيعابه ولو بحيلة كالجزء والعلل والزحافات التي اخترعها – كما سنوضح ذلك-، رده إلى الأوزان العربية ومنحه الشرعية فصار عربيا رغم أن العرب لم تعرفه مطلقاً وهي التي تقع ضمن الدائرة الرابعة (المشتبه) والخامسة (المتفق).

وعملية التدوير هذه أسقطت عشرات الأوزان التي لا تتأتى من (التدوير) فنادى علم العروض بشطبها وإسقاط شرعيتها كما ألجأته خطته إلى وضع الكثير من الزحافات والعلل من عندياته حيث تتيح له الحذف الواجب للتفعيلة الجزئي أو الكلي للوصول إلى البحر المقترح؛

فالمتدارك يأتي من قلب تفعيلات المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن) مرتين فتصبح (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) مرتين وهذه مرحلة أولى لان البحر بهذه التفعيلات لا يشبه المستعمل لدى الشعراء وهو أن تأتي التفعيلة (فعْلن) أو (فَعِلـُن)، وقد أورد الخليل أبياتاً تجريبية على الصورة الأولى وهي قليلة ومصنوعة مفتعلة وتدل على عدم وعي راسخ بنغمته، أما مجيئه على تفعيلتي (فعْلن) أو (فَعِلـُن) وهو البحر المستعمل المشهور ففيه تنتحر كل قواعد الخليل العروضية وأدواته المقترحة؛ لان عليه أن يدخل على فاعلن مرة الخبن لتصبح (فَعِلُن)، ومرة القطع او التشعيث لتصبح (فاعل=ُ فعْلن). فكيف ذلك والخبن زحاف غير ملزم بينما على الشاعر التزامه هنا؟ والتشعيث او القطع علة فكيف تدخل الحشو(40)؟ وهذا الاضطراب لما وجد الخليل عجزه عن تفسيره ادعى أو ادعي عليه ان الأخفش هو الذي تدارك بهذا البحر على الخليل وليس هذا بصحيح(41) لان الخليل كتب ابياتاً تجريبية مرة على تفعيلة (فَعِلُن)، ومرة على تفعيلة (فعْلن) (42).

ومقلوب بحر الكامل يكون (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) لكل شطر والمفترض أنه (الوافر). ولكن العرب استعملت في عروضه (فعولن) بدل (مفاعلتن) فألجأه هذا إلى إيجاد علة اسماها (القطف) جعلها خاصة بالوافر تسقط السبب الخفيف برمته وتسكن متحرك السبب الثقيل الثاني فتنتقل (مفاعلتن) بفضل هذه العلة المبتدعة الى (فعولن) فيكون بحر الوافر.......وللوصول الى بحر المجتث اضطر الى إسقاط تفعيلة كاملة لانه في الدائرة (مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن) فأسقط فاعلاتن الثانية وجعل الحذف وجوباً. وفي بحر المقتضب (مفعولات مستفعلن مستفعلن) لم يكفِ حذف التفعيلة الثالثة للوصول إلى البحر الحقيقي لأنه سيصبح (مفعولات مستفعلن) فالمستعمل هو الطي مع التفعيلتين وخاصة العروض ولهذا أفتى الخليل بان العروض مطوية دائماً والطي فيها ملزم والضرب مطوٍ ملزم كذلك(43). وهذا يوضح مقدار التكلف والتمحل والمط الذي بذله الخليل ليقترب بتنظيره من الواقع الشعري.

وجاءت تسمية البحور المستحدثة جزءاً من عملية مسخها وسلخها إذ ردتها التسمية إلى بحور عرب الجاهلية؛ فالمضارع سمي مضارعاً لمضارعته – أي مشابهته- الخفيف أو الهزج وقيل المنسرح، والمقتضب سمي مقتضباً لأنه اقتضب – أي اقتطع- من السريع أو المنسرح بحذف تفعيلته الأولى، والمجتث اجتث – أي اقتطع- من الخفيف(44).

التفعيلات وتضليلاتها:
ولعل المفاتيح النغمية أو التفعيلات العشر التي اقترحها الخليل والتي تعطي هوية كل بحر تعد حلقة من حلقات التضليل أحياناً فان أي بيت شعري يمكن أن يرد بعد وضع مفتاحه النغمي إلى البحور الخليلية، فبيتا أبي العتاهية الماران :

للمنونِ دائرات... يدرن صرفها
هنَ ينتقيننا...واحداً فواحداً

وهما على وزن (فاعلاتُ فاعلن)، وهو وزن لا ينطبق على احد بحور الدوائر أو مقلوباتها، ممكن أن يقطع على مفتاح آخر هو (فاعلن متفعلن) فيرد قسراً إلى مقلوب البسيط كما فعل شوقي ضيف(45).ومثله قوله:

عتبُ ما لليالي...خبريني وما لي

فهي على وزن (فاعلاتن فعولن)، وهي خارج بحور الخليل أيضاً ولكن شوقي ضيف لما أراد أن يردها إلى المديد قطعها على (فاعلن فاعلاتن) ودمج كل شطرين بشطر فأصبح (فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن) فأصبح مقلوب المديد بتفعيلاته الأصلية. وكذلك قصيدة رزين العروضي التي أولها:

قربوا جمالَهُمُ للرحيل...غدوةً أحبَّتك الأقربوكْ

فنغمتها (تُمْ تِتُمْ تِتُمْ تِتِتُمْ تُمْ تِتُمْ تُمْ)، وممكن أن تقطّع على (فاعلن مفاعلتن فاعلانْ) أو على (مفعلاتُ مستعلن فاعلانْ) وهي خارج دوائر الخليل كما تدل صور تفعيلاتها، ولكن شوقي ضيف جعلها عكس المنسرح (مستفعلن مفعولات مستعلن) إقحاما وفرضاً.

وبهذا الأسلوب من التمحل والمط القسري الذي هدى إليه الخليل، رد الدكتور السيد مصطفى غازي الموشحات الأندلسية إلى دوائر الخليل مستعملها ومهملها، وعد ما امتنع منها عليه تعقيدا في بنائها(46)، وإلحاحاً على هذا الرد إلى بحور الخليل كان الدكتور فوزي سعد عيسى يرد الموشحة أو المقطع منها إلى أكثر من بحر؛ كقوله عن بيت ابن سهل:
قد سر الحبيب أن أشقى...وأنا راضٍ بما سرّه
"هو من الرجز المشبه بالسريع والمقتضب"(47). وما ابعد نغمات هذه البحور عن بعضها!!

والصحيح أن الكثرة الكاثرة من الموشحات لا تقوم على العروض الخليلي، بل لا تجري على وزن مطلقاً،وهم يضعفون الوشاح الذي يركب الأعاريض الخليلية، وأكد ابن سناء الملك المنظر للموشحات أنها تعتمد على الموسيقى والألحان وليس على البحور والأوزان بقوله:" ليس لها عروض إلا التلحين، ولا ضرب إلا الضرب، ولا أوتاد إلا الملاوي، ولا أسباب إلا الأوتار"(48).
والحقيقة القاطعة هي إن الوزن ليس (فاعلن) أو (فعولن) ولكنه إيقاع مستقل ذو زمن محدد وليس من المقنع القول باشتراك هذه الإيقاعات فقول الشاعر:
أشاقك طيف مامه...بمكة أم حمامه(49)
هو (تِتُمْ تِتِتُمْ تِتُمْ تُمْ)، وهو مستقل بهذه النغمة ولكن عمليا ممكن أن يرد إلى الوافر بحذف تفعيلته الثانية أي الاقتصار على (مفاعلتن فعولن) لكل شطر، إلا أن الحقيقة المؤكدة هي أن العرب الجاهليين لم ينظموا عليه فهو جديد، وهذا هو الرد على إيهامات الخليل ومن تابعه في الفكرة وهو جاهل تمام الجهل بأنغام الشعر وأوزانه.

تهميش الرجز:
وسيم بحر الرجز نظرة دونية فجعله الأصمعي مانعا من الفحولة، ولم يكتبوا عليه قصيداً إلا ما ندر لان شعراء الجاهلية لم يعدوه أهلا للقريض فميزوا بينه وبين البحور الباقية القريضية، كما أن الفحول عدَّوه حمار الشعراء وأصبح يلبي حاجة الارتجال حسب. ويرى المعري ،وهو من أعضاء المؤسسة المحافظة كما يبدو من آرائه، " أن الرجز لمن سفساف القريض"(50)..
ولم تختلف نظرة الإسلام له؛ فالرسول (ص) تطبيقاً للآية القرآنية (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ)(51) ، لم يكن ينشد بيتاً من الشعر تاما على وزنه، فان قال بيتا شعريا كاملا كسره ولم يتهدّ إلى إقامة وزنه(52)، ولكنه في يوم حنين ارتجز بوزن صحيح:
أنا النبي لا كذبْ... أنا ابن عبد المطلبْ(53)
وذلك لان الرجز ليس شعراً؛ فلا تناقض مع الآية، وهذا وغيره يدل على أن الإسلام لم يتدخل بفنية الشعر. وفي العصر الأموي بقي بحر (الرجز) تكتب عليه الأراجيز ، ولم يكن له شأن في كتابة قصائد قريضية عليه.
حتى جاء العصر العباسي؛ فاكتشفت قدرته النغمية الجيدة. إلا أن ممارسة سلطة الشعر الجاهلي كانت أقوى فساموه نظم التاريخ والعلوم والقصص فأصبح تعليميا. ولم يكتبوا عليه قريضاً في أول العصر فأبو تمام (232هـ) لم يكتب عليه قريضاً قط، وكتب البحتري (282هـ) ثلاثة أبيات في الهجاء، واكتفى المتنبي(354هـ) بقطعة واحدة في الفخر من ثلاثة أبيات أيضاً.
غير انه ظل يكتسب أهمية اكبر عند الأجيال التالية كلما أوغلنا في العصر فكتب عليه الأرجاني (544هـ) أكثر من قصيدة وقطعة جيدة، وكتب عليه بهاء الدين زهير(656هـ) (8) قصائد، و(20) قطعة قريضية. وفي هذه الحقبة ظهرت (القصيدة الدبدبية)(54) الساخرة الشهيرة على الرجز لتقي الدين ابن المغربي(684هـ)، ومنها:
أي دبدبهْ تدبدبي...أنا علي بن المغربي
تأدبي ويحك في...حق أمير الأدبِ
أنا الذي أسد الشرى...في الحرب لا تحفل بي
أنا الذي كل الملو...ك ليس تخشى غضبي
فمن رأى للهذيا ن موكبا كموكبي
أنا امرؤ أنكر ما...يعرف أهل الأدبِ
ولي كلام نحوه... لا مثل نحو العربِ
لكنه منفردٌ...بلفظه المهذبِ
يصافع الفراء في الـ...ـنحو بجلد ثعلبِ
ويقصد التثليث في...نتف سبال قطربِ(55)
حتى إذا وصلنا العصر الحديث وجدناه يتحول إلى حصان أصيل، بعدما كان حمارا بليدا يركبه الشعراء الكسالى. فقد أصبح من البحور الأولى عند شعرائنا؛ فنسبة الرجز في دواوين السياب تتراوح بين 25- 28% من مجموع شعره، ونسبته في دواوين البياتي تتراوح بين 60- 76%. وكانت قصيدة (أنشودة المطر) التي اختيرت أفضل قصيدة عربية في القرن العشرين من الرجز.

محاربة الجديد:
كما فرض علم العروض سلطته على المزدوجة فمنعها أن تمنح شرف تسميتها قصيدة مهما طالت كمزدوجة أبي العتاهية ذات الأمثال التي بلغت أربعة آلاف مثل. كما لم تعد قصائد المخمسات والمسمطات.
وقاطع كثير من الشعراء الكبار الأوزان المستحدثة، بل إن احتقار المتنبي لها، جعله يهجو (ضبة) لوضاعته بقصيدة على بحر المجتث حشدها بألفاظ سوقية نابية يندى لها الجبين، بينما هجا مهجوِّيه الأنداد على بحور محترمة عروضياً.

وكثيرا ما حورب الشعراء إذا كتبوا على بحور جديدة خارج العروض، يتضح ذلك من قول أبي العتاهية الذي كان يرد عليهم بقولته الشهيرة "أنا اكبر من العروض"(56).

وكم بذل الشعراء المتأخرون محاولات للتخلص من هذا العروض ولكنهم قلما خرجوا عليه(57) لأنهم سينتهون إلى الفشل والدوران حول الصفر. وهذا يفسر تلاشي البحور المستحدثة والعودة القسرية إلى البحور الجاهلية، بل إن رزين العروضي الذي جعل اغلب شعره خارج العروض لم يبق من كل شعره إلا قصيدة واحدة ووزن واحد. والى الآن نجد الشعراء الذين نادوا بالخروج على العروض العربي،لأنهم احتكوا بالثقافات الأخرى، كانوا يلتزمون به كنازك الملائكة والدكتور محمد مهدي البصير الذي يرى أن الشعر العربي محروم من موسيقى القوافي والأوزان الراقية التي تنبعث من أمثال أناشيد (ماليرب) و(لامارتين) و(هيجو) بسبب القافية الموحدة فهي آخذة بخناق الشاعر ومضيقة عليه مجاري أنفاسه ومكرهة إياه على أن يعيش في سجن ضيق مظلم(58)، ولكنه ما فارق قصيدة العمود، وظل مخلصا لها.

ولم يعان الأندلسيون ما عاناه المشارقة في موضوعة العروض والقوافي، فإنهم انطلقوا يبتدعون الأوزان والبحور بلا وازع أو مانع، وابتداء من نهاية القرن الثالث الهجري اخترعوا الموشح ثم الزجل وهما اكبر ثورة في الأوزان والأنغام، ما كانت تتاح للمشارقة المحكومين بسلطة الشعر الجاهلي، وهذا يبطل الزعم القائل بان الموشح أصله مشرقي.

واليوم، نحن اقدر على تشوف الخلل في المؤسسة المحافظة في غلقها باب الاستكشاف والابتكار في الأوزان؛ لان الشعر يتناغم مع الحياة ويتحرك بطءاً وسرعة بموجبها. وقد ظهرت أوزان وأساليب نغمية كثيرة على مدى التاريخ الشعري، حتى ظهر الشعر المرسل وشعر التفعيلة وقصيدة النثر التي ألغت الوزن برمته ولكن منظروها يرون أنها تشتغل على النغم الداخلي بدل النغم الخارجي المتمثل بالأوزان، فتكون بذلك قد تخلصت من فائض النغم عن الفكرة والجملة؛ فالعبرة في شعرية النص واستنطاق الفن.