تتقاطع هذه المقالة مع بعض معطيات العروض الرقمي ولاسيما موضوع الأستاذ سائل علم ( العمارة والعروض )
http://pulpit.alwatanvoice.com/content-132173.html
الأدب بقلم:الناقدد.ثائر العذاري
تاريخ النشر : 2008-05-03القراءة : 71
لما تزل العلاقة بين الأدب والعلم مثار جدل وخلاف، والكثير منا ما زال يرى أنهما نقيضان لا يجتمعان، وما زلنا ندرس طلبتنا المقالة النقدية على أنها ضرب من ضروب الإبداع الأدبي ينبغي أن تتميز بالتجويد في لغتها والبريق في أسلوبها.
وطالما اختلفت مع زملاء وأصدقاء حول هوية النقد الأدبي وضرورة تجريده من جنسية غير شرعية فرضت عليه وجعلته ينتمي إلى الأجناس الأدبية، ورد جنسيته الطبيعية إليه ليعود إلى أسرته الحقيقية بين أخوته من العلوم الصرفة. ومن هنا كنت أدعو دائما وما زلت إلى إطلاق تسمية (علم الأدب) على الدراسات الأدبية والنقدية التي تعتمد الوسائل البحثية العلمية كالإحصاء والملاحظة والتجريب المخبري.
إن العمل الأدبي إبداع فني، ولكن ما الذي تؤديه كلمة (إبداع) هنا؟ فالمعروف أن الإبداع والابتكار، حسب تعريف علماء النفس، هو القدرة على إيجاد الحلول للمشاكل، فما المشاكل التي تحلها قصيدة أو قصة قصيرة؟
لا شك أن غاية الأديب إنتاج قطعة أدبية تلفت انتباه القراء بما فيها من جمال اكتست به، فتؤثر فيهم وتنتزع إعجابهم، وهنا أيضا نجدنا أمام مشكلة أخرى من مشاكل مفاهيمنا الغامضة فـ(الجمال) ما زال عصيّا على تعريف محدد متفق عليه، أو تفسير نهائي يقدم لنا حدودا واضحة تفصل بين الجميل والقبيح، فالفلسفة أم العلوم مازالت تحمل في بطنها علم الجمال وكلما همت بولادته أبى ذلك وفضل المكوث في رحمها.
ومهما تعددت واختلفت فلسفات الجمال فإنها في النهاية تتفق على أن الجمال ضرب من النظام، والنظام يعني أن مجموعة من العناصر تخضع في حركتها لقوانين محددة ومضطردة ويمكن صياغتها بعبارات رياضية. وإذا كان هذا صحيحا فبناء شيء جميل لن يكون إبداعا بل هو محض تطبيق لقوانين محددة، يشبه التصدي لحل مسألة حسابية.
هذه مغالطة طبعا ولا نريد تجريد الأديب والفنان من صفتهما الإبداعية لكننا نريد الوصول إلى فهم أفضل لعملهما.
قدمت الأستطيقا التجريبية أدلة علمية على أن الجمال واحد في إحساس البشر كلهم، من خلال إجراء مجموعة مشهورة من التجارب الإحصائية ربما يكون أهمها ما أطلق عليه تسمية (النسبة الذهبية Golden Mean)، فعندما نطلب من مجموعة من الناس أن يرسموا أجمل شكل رباعي حسب ذائقتهم، فإنهم جميعا سيرسمون مستطيلا تبلغ نسبة عرضه إلى طوله (1/1,618)، وقد قمت أثناء دراستي باختبار هذه النسبة فوجدت أن كل الآثار المعمارية في العالم تقريبا توظفها في شكل الأبواب والنوافذ، كما إنها تنطبق على أبعاد اللوحة التقليدية البالغة (70×100سم)، وهذا يدل على أن القواعد الجمالية يمكن أن تكون ذات يوم مثل القواعد الرياضية ويكون علم الجمال واحدا من علوم الهندسة يعتمد الأسلوب الرياضي للحكم على جمال أو قبح عمل ما.
ثمة قوانين نعرفها ونتفق عليها تولد النظام الجميل في الأدب والفن، وهي كلها تؤدي إلى نوع من التناسب بين أجزاء العمل، مثل التقابل والتوازي والتساوي والتضاد وغيرها. ولعلنا لا نختلف في أن العمل الأدبي يمتاز بالنظام والانضباط الصارمين، وما القوانين التي أشرنا إليها إلا بعض مظاهر ذلك النظام.
ويرى علماء النفس أن الحلول للمشاكل التي تواجه الفرد تكون إبداعية بقدر ما تتوفر على ثلاث سمات هي: الأصالة، والمرونة، والطلاقة، ومن هذه العناصر يمكننا فهم عملية الإبداع الأدبي، فعلى الأديب أن يستخدم ذات الأدوات التي استخدمها الآخرون وينصاع لذات القوانين التي اتبعوها وينتج عملا مبتكرا أصيلا، وهو لن يستطيع فعل ذلك ما لم يكن لديه المرونة التي تمكنه من الإفلات من بين تلك القوانين الصارمة من غير أن يخرقها، وما لم يمتلك الطلاقة التي تجعله قادرا على تكرار تجربة الإفلات تلك بشكل يتناسب مع كل قانون من تلك القوانين.
العمل الأدبي عمل إبداعي بما فيه من تحد للنظام الصارم القار، فهو عمل مبتكر يتشكل بشكل غير متوقع على الرغم من إتباعه قوانين رياضية صارمة. وهو إذن جميل من زاويتين، الطرافة والفرادة من ناحية، والانضباط في اتباع قوانين الجمال التي يتفق عليها البشر من ناحية أخرى.
عند هذه النقطة يمكننا الحديث عن (علم الأدب)، وأود هنا أن أذكر تجربتين قديمتين أرى أنهما في غاية الأهمية في موضوعنا، هما تجربة الفراهيدي وسيبويه، فالاثنان نظرا في الآثار الأدبية نظرة العالم الباحث عن القوانين الدينامية للنظام، فأنتج الأول علم العروض وأنتج الثاني علم النحو، وكلاهما علمان صرفان يخضعان للمنطق الرياضي. ربما تكون نسبة ما يكشفه هذان العلمان من أسرار النظام الجمالي للأدب ضئيلة كتاك التي تمثلها النسبة الذهبية السالفة الذكر. غير أن هذا لا يعني أن نكف عن محاولة الوصول إلى علم متكامل قادر على تفسير كل الظواهر الجمالية في الأدب. فنحن نرى أن على الدراسة الأدبية أن تواصل البحث عن ديناميات ذلك النظام، وإن وظيفة الدرس الأدبي هي الكشف عن مدى انضباط عمل أدبي معين بقوانين اللعبة الأدبية، ومقدار ما يتمتع به من الشروط الإبداعية الثلاثة؛ الأصالة والمرونة والطلاقة.
وعلى علم الأدب أن يسعى حثيثا للكشف عن كل القوانين الحركية التي تفعل فعلها في صنع الجمال الأدبي، وهذه مهمة لا يمكن الوصول إليها إلا باتباع سبل البحث العلمية الصرفة المعتمدة على الريلضيات والمختبر.
المفضلات