لدي كثير من المواضيع المخطوطة وقد أدت بي متابعة صفحة الأخت مريم إلى هذه المادة.


وفي احترام مدلول اللغة فيما يخص الشعر مخرج من كل هذا . فليقل أو فليكتب من شاء ما يشاء بالطريقة التي يشاء، مع تسمية الأشياء بأسمائها .فالشعر شعر والنثر نثر وما بينهما ينبغي أن يصطلح له على اسم لن تعجز عنه العربية .والبند اسم ملائم لهذا النوع من الكلام وهو ما عرف به كلام التفعيلة منذ القرن الرابع الهجري ، كما تنقل نازك الملائكة (14-8) عن عبد الكريم الدجيلي من كتابه (البند في الأدب العربي ، تاريخه ونصوصه) كشفه أن(قصيدةً)-لا أدري من أطلق اسم القصيدة-قد وردت منسوبة إلى ابن دريد وقد روى الباقلاني النص في كتابة إعجاز القرآن وأدرجه كما يدرج النثر العادي واختارت المؤلفة إدراجه إدراج الشعر الحر .ومن النص :

"رب أخ كنت به مغتبطا، أشد كفي بعرى صحبته، تمسكا مني بالود، ولا أحسبه يغير العهد ولا يحول عنه أبدا ما حل روحي جسدي."

كما أوردت من كتاب الدجيلي نقلا من وفيات الأعيان عن أبي العلاء المعري قوله:

"أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي، لكي نحدث عهدا بك يا خير الأخلاء فما مثلك من غيّر عهدا أو غفل."

ولم يدَّع هذا الأسلوب الطريف الشعر اسما لنفسه ، وعندما انتشر استعماله وغدا في حاجة إلى اسم أعطوه اسم البند، وما يسمى الشعر الحر إن لم يكن البند فهو أقرب إليه من الشعر، وحري إن كان لا بد من انتمائه لأحد الصنفين أن ينتمي إلى البند لا الشعر. ثم تورد المثال التالي مما تصفه بالنظم الذي يغلب عليه التدوير:

"طلعت نجوم الليل تفرش ظلمة الأحراش أحلاما طريات، ورش العطر خد الليل، والدنيا تلفع كل ما فيها بأستار الظلام المدلهم البارد القبري،وانتاب المدى خوف من المجهول."


ثم تعلق: "أليس هذا نظما سمجاً ميتا لا يحتمل ؟ " ورأيي أنه كلام لا يخلو من طرافة وجمال في الشكل والتعبير شأن مثَلَي البند الذين تقدماه، ولكنه ليس شعرا ، ونظلمه إن وصفناه بالشعر، وكأني به لو أوتي لسانا لقال : "خير لي أن أكون بندا جميلا حيّا من أن أكون شعرا باردا ميتا".بل إنه كبند أرقى في صوره وصياغته مما أورده الشيخ جلال ولمْ يصفه أحد بالبرودة تحت عنوان "استمرارية الكامل" (16-537):

"يمكن كتابة الرسائل بتفاعيل الكامل لأنه ذو استمرارية متدفقة وجريان متصل ومن ذلك : يا سيدي أنا بعض محسوبيك من زمنٍ بعيد غير أني لمْ أكن أسطيع أن ألقاك كي أفضيْ إليكَ بما يجولُ بخاطري مما يؤرق كل ذي حسٍّ ووجدانٍ فلو أنصفتني فنفضت عني ما تراكم من غبار الظلمِ والعدوان والخطب العصيب وإنني بالرغم من جلَدي فإنيَ قد تحملت الكثير من الأذى وصمدتُ في وجه الخطوبِ كأنني الطود الأشمّ وسوف ألبث صامدا. هذي رسالة مخلصٍ لك شاكرٍ ما كنتَ قد أسديتَ من فضلٍ عليه مدى الزمان مخلَّدٍ واسلمْ وقاك الله يا ربَّ المكارم والسلام."

ومن المناسب أن أورد هنا ما ذكره الشيخ جلال الحنفي عن البند (16-149)

:"البند نمط من لهو الحديث والنثر الفني المطعم بتفاعيل معينة مرسلة على غير التزام بقافية أو أشطر شعرية، ولا مقدار له يضبط حدوده وأطرافه. فهو كلام ذو نفحات إيقاعية، تنساب في الأسماع بلطف ورقة، بغض النظر عن ركة تعابيره وضآلة شأن معانيه، وسذاجة أفكاره في كثير من الأحيان."

ويقول (16-ص151):"وجميع مقولات البند ليست سوى نثر مرقق [ولعلها مرنق] مصنوع …ولكنه يختلف عن الشعر الحر في أن الشعر الحر غالبا ما يكون غير قاموسي الألفاظ، ولا ظاهر القصد ، أي أن مفرداته يتحكم في تقدير مفاهيمها قائلها وحده، دون أن تكون من صميم اللغة المتخاطب بها."وأورد مثالا على البند على طوله لأبين عبثية معركة كان يمكن تجنبها لو استمررنا في تسمية البند بندا وهو قول "للشاعر" وليد الأعظمي-وهو معاصر- (16-ص152):

مع الفجر بدت تسري
نسيمات من العطر
تحيل القلب نشوانْ
وتحيي ميت الوجد فتزهو منه أفنانْ
من الزهر وتهتز مع الطير ألحانْ
فتستمتع آذانْ
وتمتد من العشاق أعناقْ
وللنرجس أحداقْ
عليها من دموع الطلِّ رقراقْ
ويشتاقْ
فيسمو الذوقُ والحسُّ
وتستعلي به النفسُ
فلا قيدٌ ولا حبسُ
ولا لبسُ
ويمضي الفكر رقراقا طليقا
يجتلي الحسن ويجني منه أصنافا ويشتار من الشهد السماويِّ رحيقا."


وهكذا نرى أن هذا الشكل من النظم معروف منذ قرون، مستمر إلى اليوم، وهو مستلطف، والمغالطة ليست في ذاته بل في الزعم بأنه شكل جديد. وإن كان لا بد من وصفه بالشعر فإن تعبير (شعر التفعيلة) فيه من دقة انطباق لفظ التفعيلة على واقعه ما يعوض جزئيا خطل تجاوز لفط البند إلى الشعر ويجعله بالتالي أدنى إلى الصواب من (الشعر الحر). على أن الكامل والرجز هما المثالان على شعر التفعيلة.

شكل الشعر هو النظم، ولكن ليس كل ما تزيا بزي الشعر شعرا، ولا ينقص ذلك من قيمة النظم –إن لزم اسمه -كما في نظم بعض العلوم.


وجاء في هامش ص-150 من كتاب ( العروض تهدذيبه وإعادة ندوينه ) للشيخ جلال: جاء في " عصر القرآن " للدكتور محمد مهدي البصير ص 17 الحاشية ما نصه " وقد قلد ابن معتوق الموسوي ـ أحد شعراء العراق في القرن الحادي عشر للهجرة هذه الآية بنوع من الكلام سماه بندا ، أما الآية فهي" وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزيلاَ " ... وليست هذه الآية وحدها مما ينظر به إلى البند، فهناك آية أخرى هي " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم" .