التزلج الفكري

خطر لي هذا التعبير قبل أيام في وصف أمر في العروض ، ثم بدأ يلح علي تأملا وتفكيرا، فيما وراء ذلك، وهذه النظرة المنبثقة من الرقمي الممتدة إلى ما سواه هي أهم ما في الرقمي. وهي الجديرة بالخليل وفكره.

التزلج المعروف يتصف بما يلي

1- الهبوط المقصود من الأعلى إلى الأسفل
2- السير بخطوط متعرجة
3- التسارع في الهبوط
4- انتفاء إمكانية التوقف الذاتي بعد التسارع
5- المتزلج الهابط يكتسح من يقف في طريقه
6- الاستعانة بالمزالج في القدمين والعصي في اليدين
7- لياقة عالية وقدرة على القيام بالحركات البهلوانية.
8- إخفاق من لا يعرف أصول التزلج أو من لا يأخذ المسار اللازم
9- توفر سطح أملس بارد والأصل أنه يكون أملس والبرودة شرط لتجمد الماء وملاسته
10- لا يمكن العودة بذات أدوات التزلج إلى القمة حيث بدأ التزلج، ولا بد لفعل ذلك من إنهاء التزلج أولا سواء بعمل خارق أو وصوله إلى نهاية مشواره وهذا هو الأرجح، ثم اللجوء إلى آلية أخرى خاصة بالصعود لعكس المسار والعودة للقمة

الفكر في الأصل قائد يتحكم في المسير ويرسمه
ولكن لأسباب لا مجال لذكرها هنا تنعكس الآية فيصبح خادما.

والفكر القائد يسير مستقيما راسخا على الأرض الصلبة ويعتمد الوضوح والمباشرة. ويحكم على الجزئيات بموجب نهجه الكلي.

وعندما تنتكس الأمور ويتحول الفكر القائد إلى فكر خادم فإنه يمارس تسخير النهج الكلي لخدمة الجزئيات لصالح (أ) أو (ب). ويسلك في خدمته هذه أو يسلك به من يسخره لهذا الدور سلوك المتزلج، فهو :

1- هبوط مقصود من قمة يقودها الفكر، إلى حضيض يخدمه الفكر وينظر له. ويكون ذلك بدوافع محددة من هوى ما أو مصلحة ما أو ارتباط ما أو انتماء ما أو ولاء ما أو ما إلى ذلك.

2- السير بخطوط متعرجة. تبدأ مرحلة الهبوط والتحول بالفكر من حاكم لخادم بمناورات متعددة في البداية خاصة من المراوحة بين يمين ويسار، واصطناع مجانستها للفكر انتقائيا وموسميا تارة في هذه الجزئية وأخرى في تلك خدمة لمرحلة التمهيد للهبوط.

3- ثم لا تفتأ هذه المناورات أن تتحول إلى توجهات موغلة في سرعتها وصراحتها.

4- المتزلج فكريا لا يملك أن يتوقف بعد اكتساب التسارع وشرعنته، فتوقفه يعني نفي ذاته التي انبثقت منها شرعية تسارعه. وكما تشكل كل نقطة يصل إليها المتزلج على الجليد منطلقا لنقطة أخرى فإن الشرعنة لتواصل الهبوط بحكم مهمتها تنتج مرجعية متدحرجة تواكب المسيرة وتخدمها.

5- المتزلج فكريا يبدو وكأنه يصدق نفسه في ادعائه الفكري الجديد وبالتالي يتغول في اندفاعته ليكتسح من يقف أمامه أو يشكك في شرعية تزلجه.

6- الاستعانة بالأدوات البشرية والمادية والتنظيرية المختلفة لتأمين التماسك والاستقرار خلال الهبوط. ولدى تكريسه لنهجه يبدو وكأنه أكسب نفسه شرعية من استمراريته تطمس ما كان لهذا الفكر من قيادة بل توهم أنه القائد إذ هو الخادم ، منكرا على من يُذكّره بالصواب كمن يعاني من عقدة نقص فيبالغ فيما يختص بها.

7- ليس كل من هبّ ودب يستطيع ترويض الفكر من قائد إلى خادم، وهذه المهارة لا يملكها إلا من أوتوا قدرات استثنائية، وغالبا ما يشكل نجاحهم معالم بارزة تغير الواقع ويُؤرّخ بها في الفكر والواقع، ويقوم المتزلج وأدواته بتصنيف هذه المعالم على أنها معالم ارتقاء وصعود.

8- إن من لا يتقن تقنيات تدجين الفكر من حيث البدء في الوقت المناسب والمناورة المناسبة والسرعة المطلوبة يخفق إخفاقا ذريعا. ومثل من يقطع الشوط بشكل مباشر كمثل من ينزل الجبل بخط مستقيم فيسقط غالبا، وقد يفقد حياته، ومن ينظر إلى أفكار كانت سائدة في قمتها ثم صارت خادمة في حضيضها أو تمت تنحيتها كليا يجد أن من قاموا بذلك هم من لبسوا لبوس تلك الدعوات وتزيّوا بأزيائها وأظهروا الإخلاص لها وهم يخططون لتسخيرها أو لتصفيتها باستعمال مفرداتها بادئ الأمر على الأقل. ومن الأمثلة على ذلك الشيوعية وما آلت إليه – حسب نظرتها لذاتها - وقضية سياسية معروفة.

9- ونظير السطح الأملس هو العقل أو الدماغ الأملس المُسَطّل الذي أُفْقِدَ حيويته ليتقبل التحريف المسَخِّر على أنه الأصل وتقبل القول بالتمسك بالثوابت والمرجعية وامّحائهما أو استبدالهما في آن معا ، وما كان له أن يتقبل ذلك لو أنهّه مارس دوره بطبيعته التي فطره الله عليها. وحظر التفكير في إحدى الديانات السماوية على الجمهور وحصره في رجال الكهنوت لتمرير مقولة أن التوحيد والشرك سواء أمر معروف.

10- كما أن المتزلج بتأثير قصده للهبوط والعزم وقوة الاندفاع لا يملك التوقف ناهيك عن عكس المسار التي تأباه طبيعة المنحدر الجليدي حتى لو حاول ذلك، فإن مسار التزلج الفكري لا يمكن وقفه بأدوات المتزلج ومعطياته، وبطبيعة الحال لا يمكن عكس اتجاهه فليس من تزلج للأعلى. والعودة إلى القمة تقتضي أولا القصد وثانيا إدراك أن التزلج الفكري وأدواته ليسا صالحين للصعود، وأنه لا بد من التقاط اللحظة المناسبة فكريا وواقعيا لتقديم البديل المضاد للتزلج وهبوطه للعودة للقمة. وتكون فرص النجاح أكبر إذا تبلور الوعي على البديل مع بلوغ مرحلة التزلج حضيضها بانكشاف واقعها لدى بلوغها إياه في نهاية صعودها المُدّعى.

إن الوعي على أبعاد هذا الموضوع تقتضي أن تقترن بالحكمة والإخلاص، لا سيما وأنه ذو صلة وطيدة بالفكر ويسري عليه ما يسري على الفكر ذاته من تسخير وتزلج. وبالتالي من استغلال في اتجاهات متضادة.

استعرضت في هذا الموضوع بعض الأمثلة. فليتأمل القارئ في سواها في شتى المجالات والمراحل وآمل أن يجد مصداقية هذا التحليل.

هل يعقل أن تكون شمولية فكر الخليل مقتصرة على اللغة والأدب ؟
هل له مؤلفات أخرى فيما هو أهم كما يقتضي ذلك حسن الظن بعبقريته ؟
هل شغله جهده في شرح تفاصيل وسائل إيضاحه عن المزيد من الأبواب التطبيقية لفكره؟
هل كان المناخ العام في زمنه يتيح له نشر تطبيقات فكره في غير المجال الأدبي ؟

ساورني توجس أن يتصور من أحب وأحترم ممن حاورت في العروض أن هذا الموضوع بقضه وقضيضه إنما كتب موجها إليه، وحدثت نفسي بالعدول عن نشره، ولكن الحقيقة أنه وإن انطلق هذا الموضوع من خلفية عروضية إلا أن اندياحه شمولي، وأغلب عباراته وخاصة ما تتحدث عن العملية الفكرية ووصف غيابها ليس المقصود بها العروض بل هي تنصرف إلى ما هو خارج إطاره بالكلية، ولو كانت خاصة به لاخترت ما هو أكثر ملاءمة من الألفاظ، ورأيت فائدة من نشره لهذه الشمولية.. أرجو أن يكون هذا التوضيح كافيا، كما أتمنى أن يكون دافعا لدراسة الرقمي لا كمجرد وسيلة لتناول وزن الشعر بل كنهج للعملية الفكرية الشمولية المتواصلة مع فكر الخليل والمنطلقة منها إلى ما يليق بالخليل وفكره من آفاق.