وباستقراء النصوص التي وردت في النهي المجاب عنه ، اتضح ما يلي:

1- لم يرد جواب النهي في القرآن الكريم إلا مقترناً بالفاء ، ما عدا آية واحدة ،هي ﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾ (93) بالجزم على قراءة الحسن عند من جعلها جواباً ، وقد سبق ذكر الحركات الإعرابية التي وردت فيها وتوجيهاتها .

2- الغالب في كلام العرب عندما تنهى عن فعل ، وتُبيِّن العواقب المترتبة على هذا النهي تجزم إذا قصدت الجزاء ، وإنْ لم تقصد الجزاء ترفع ، أو تُدخل الفاء وتنصب ، فالجزم في الفعل المضارع الواقع بعد الطلب ليس على الوجوب ، بل على الجواز ، والحركة الإعرابية تخضع لاعتبارات معنوية مختلفة ، وهو ما سنوضحه في المبحث القادم إن شاء الله .



رابعاً : أثر المعنى على الحركة الإعرابية في المضارع الواقع بعد الطلب

عرفنا فيما سبق أنّ جواب الطلب يجوز فيه الحركات الثلاثة؛الجزم، والرفع، وإدخال الفاء والنصب ، لكنّ هذا الجواز يخضع لاعتبارات معنوية، هي التي تتحكم في الحركة الإعرابية، فتقتضي الجزم أو الرفع أو النصب .

وقول النحويين : " يجوز في جواب الطلب الحركات الثلاثة " قد يُوهم بأنَّ الحبل متروك على الغارب ، وأنَّ لنا أنْ نختار أيَّة حركة نشاء ، فتارة نختار الرفع، وتارة نختار النصب ، وتارة نختار الجزم ، دون أن يكون هناك أي تأثير على المعنى . وليس الأمر كما تُوهم ؛ فالحركة الإعرابية مرهونة بالمعنى ؛ فإمّا أن ننطلق من المعنى المراد فنعبِّر عنه بالتركيب الصحيح الذي يشتمل على المفردات المضبوطة ضبطاً مناسباً للمعنى المقصود ، ويدل عليه أو أنْ ننطلق من نصّ مكتوب؛ فإنْ كان النص مضبوطاً بالشكل فقد أعفانا من عناء التخمين وافتراض المعاني ، وإنْ لم يكن مضبوطاً بالشكل فعندئذٍ لنا أنْ نقلب الأمر وننظر في المعاني الصحيحة المحتملة ، ونضع الحركة الإعرابية المناسبة لكل معنى منها ، ونستبعد الحركات الإعرابية التي لا يستقيم معها المعنى .

فإذا قصدنا بالفعل الواقع بعد الطلب أنْ يكون مترتباً على الطلب السابق له، وأنْ يكون مشروطاً به ، ومقيداً حصول الثاني بحصول الأول ؛ فالجزم والكلام جملة واحدة ، ولا يجوز السكوت على الطلب دون الجواب ؛ لأنَّ المعنى المراد عندئذٍ سيكون ناقصاً ؛ وذلك نحو : " لا تهملْ واجبك تفزْ " . فإنْ أردنا أنْ ننهاه فقط دون أنْ نوضح له النتائج التي تترتب على الطاعة اكتفينا بالطلب ، وقلنا : " لا تهملْ واجبك " .

ولا يصح - إذا أردنا الجزاء - أنْ نكتفي بالطلب دون الجواب ، كما لا يجوز في الشرط أنْ نكتفي بالشرط دون الجواب .

أمَّا إذا قصدنا بالفعل الواقع بعد الطلب الاستئناف،أو الوصف ،أوالحال ؛ فالرفع .

والاستئناف(94): هو مواصلة الكلام إثْر انقطاعٍ دون أنْ يكون بين الجملة المستأنفة وما قبلها صلة إعرابية ، وهو نوعان :

- استئناف بيانيّ :وهو الذي تكون فيه الجملة المستأنفة لبيان معنى سابق في الكلام المتقدّم ؛ فهي مستقلة بنفسها في الإعراب ، مرتبطة بما قبلها في المعنى ؛ فتكون بمثابة ردّ على سؤال مقدّر ؛ وذلك نحو : " لا تصاحبْ فلاناً يخذُلُك " - بالرّفع - فكأنّه سُئل : لماذا لا أصاحبه ؟ فقيل : يخذلُك .

- واستئناف غير بيانيّ : وهو الذي لا يكون فيه بين الجملة المستأنفة وما قبلها صلة معنوية ولا إعرابية ؛ فهي مستقلة بنفسها ، منقطعة عما قبلها إعراباً ومعنى ؛ وذلك نحو: " لا تتهاونْ في الصلاة ،يرحمُنا ويرحمُك الله ". وقد يُقصد بالفعل الواقع بعد الطلب الوصف - إذا أردنا أنْ نصف مجهولاً يتضح بتخصيصه - فيكون قبل الفعل عندئذ نكرة يصح وصفها به، ويكون الفعل متصلاً بما قبله ، لأنَّ الصفة مرتبطة بالموصوف ؛ وذلك نحو : " لا تتركْ طفلاً يبكي"؛ أي:لا تتركْ طفلاً باكياً ؛ أي : لا تتركْ طفلاً صفته كذا .

وقد يقصد به الحال إذا كان ما قبله معرفة، ويكون الفعل - أيضاً - متصلاً بما قبله ؛ لأنّ الحال مرتبطة بصاحبها ؛ وذلك نحو : " لا تتركْ الطفلَ يبكي " ؛ أي: لا تتركْ الطفلَ على هذه الحالة . وهذا التركيب صالح - أيضاً - لأنْ يكون على معنى القطع والاستئناف ، وعندئذٍ يكون الفعل المضارع منقطعاً عمَّا قبله، كأنه قطع الكلام ثم بدا له أنْ يستأنفه .

ويجوز فيه الجزم على مذهب الكوفيين والكسائي إذا قُصِدَ معنى الجواب وترتَّب الكلام بعضه على بعض ؛ أي : لا تتركْ الطفلَ إنْ تتركْه يبكِ ،فكأنَّه نهاه ثم بيّن له ما يترتَّب على تركه ، وجاز ذلك لوجود قرينة معنوية ، وهو غير جائز على مذهب الجمهور ، لاشتراطهم تقدير "لا" بعد " إنْ " في جملة الشرط المقدَّرة ، فلا يستقيم المعنى بتقديرها إلا على معنًى آخر.

وقد يُقصَد بالفعل الواقع بعد الطلب بيانُ السبب الذي نهاه عن هذا الفعل أو أمَرَه به من أجله ، فعندئذٍ يكون إدخال فاء السببيَّة والنَّصب ؛ أي : لا تتركْ الطفلَ فيبكي ، فالبكاء متسبّب عن الترك ، وكلّ هذه الأوضاع للفعل يحدِّدها المعنى الذي قصده المتكلم . والفرقُ - في حالة الرفع - بين الاستئناف، والوصف ,والحال أنَّ الفعل في الاستئناف يكون منقطعاً عمَّا قبله ، فكأننا توقفنا وقطعنا الكلام السابق ، ثمَّ بدا لنا أنْ نستأنف الحديث ، فنقف وقفةً لطيفةً على ما قبل الفعل ، ويتّضح هذا الأمر في المحادثة الشفهية ، إذا كان المتحدِّث ممَّن يُحْسِن التعبير عن المعاني المختلفة بالأداء المناسب لكلّ معنًى، فنبرة الصوت لها أثرٌ في إبلاغ المعاني المرادة ، وهو أمرٌ قد يُغفله الكثيرون رغم أهميته البالغة ، لذا يجب أنْ يُدَرَّب النّاشئة على الخطابة والإلقاء ، وأداء المعاني المختلفة أداءً صحيحاً معبّراً عن المعنى المراد ، فالأداء الصحيح من أهم مقومات الخطابة الجيدة ، والإلقاء المتميز .

أمّا في الوصف والحال فالفعل متصل بما قبله ، والكلام يجب أنْ يكون متتابعاً ؛ لما بين الصفة والموصوف ، والحال وصاحبها من تلازم وارتباط قويّ.

والفرق بين الوصف والحال أنَّ الوصف يسبقه نكرة، والحال يسبقه معرفة.

وإنْ كنَّا نتعامل مع نصوص مكتوبة ، فسنلاحظ أنَّ القرائن المعنوية ستوجِّه الذهن إلى أنَّ الفعل الواقع بعد الطلب يقوى فيه معنًى على المعاني الأخرى الجائزة ، ومنها ما يمتنع فيه معنى، وتجوز فيه المعاني الأخرى على تفاوت في الجواز .

فممَّا يقوى فيه الجزم على الجواب مـن الآيات الكريمـة قولـه تعـالى : ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذعِ النَّخْلَةِ تُسَاقطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ (95) بجزم

" ُتساقطْ "على جواب الطلب؛ وذلك أنَّ الله أمرها بهزّ الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع (96) ، فالتساقط مترتّب على هزّ الجذع ؛ أي: إنْ تهزّي ُتساقطْ ، وليس المقصود وصف النخلة بأنها نخلة تساقط رطباً - ولا يتأتى ذلك فيها ؛لأن الفعل مسبوق بمعرفة - وليس المقصود بيان حال النخلة عند هزِّها ، ولا استئناف الكلام والإخبار بأنَّ النخلة تُساقطُ رطباً ، لذلك فالقراءة المتواترة بالجزم ، وعليها القراء السبعة ، ولم تردْ قراءة بالرفع - فيما أعلم .

وهو شبيه بقولك : افتحِ الصنبور ينهمرْ ماؤه ، واضغطِ الزرَّ يُضأ المصباحُ، وأدرِ المِفتاحَ يُفتحِ البابَ . ومثله في القرآن كثير(97)

وممَّا ذُكر فيه الجزم على الجواب قوله تعالى: ﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مَمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مَن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ (98) ذكرها سيبويه(99) ضمن ما ينجزم على الجواب ، وكذا جاء عن الأخفش والمازني وغيرهما(100) ، وقالوا الفعل " يُقيموا " مجزوم على جواب (قلْ) ، والمعنى : قلْ لهم أقيموا يُقيموا ، أي: إنْ تقلْ لهم يُقيموا .

وكذا جاء عن المبّرد (101)، إلاّ أنّه يجعل الفعل مجزوماً على جواب "أقيموا" المحذوفة المقدرة .