في هاتين الدائرتين هناك عدد لا متناهي من الامكانيات الهندسية النظرية لتشكيلات إيقاعية لا نهائية والسؤال الذي ما زال يقرع ذاكرتنا ووعينا وشعريتنا العربية : لماذا تم تطوير هذه الأشكال دون غيرها من الأشكال المتاحة في إيقاعات اللغة العربية ؟.



بغض النظر عن نظرية الدائرتين التي ليس لدي من أدلة عليها فإن مجرد إشارة الأستاذ إلى "الإمكانات الهندسية " تشكل قنطرة بين نظريته والعروض الرقمي. فالهندسة أرقام ونسب ومنطق رياضي. واستحضار المسلمات الهندسية هنا تعين في شرح مفهوم العروض الرقمي.


كل شكل جميلا كان أو قبيحا قابل للتعبير عنه بصيغة هندسية ما. ولكن للجمال الهندسي نسبا معينة


كل كلام له وزن، بعض الأوزان تستسيغ الأذن تكرارها وبعضها تستثقله. لبحور الشعر العربي صفات جمالية محددة رياضيا بشكل قاطع حدده العروض الرقمي واضاف بعض الاعتبارات في هذا المجال مثل التركيز على بدهيات الخليل وهرم الأوزان والتخاب والاستئثار والكم والهيئة.



**


ويمكن هنا استيعاب ما أسماه الخليل الزحافات والعلل والتي تُخرج الإيقاع من دائرة إلى دائرةٍ أخرى على أنه الصيغ الجغرافية والثقافية المختلفة لإيقاعات القصيدة العربية في تجوالها في جغرافيا ثقافية عربية شاسعة ومتنوعة دون الخروج على محدِّدات الخليل الصَّارمة.






**


ربما هناك إيقاع للغزو ومفرداته والثأر وحالاته والحبُّ وليونته وعذوبته والصحراء وغضبها وإيقاعها اللاهث المتسارع، كل ذلك ترجمه البدويُّ في صحرائه في غضبه وغزوه ومعاركه وقسوة الطبيعة حوله لإيقاعات تحمل النار التي تتوقَّد في قلبه ولا تنطفيء .
ولنلاحظ الترقيق في الشِّعر والذي نشأ في الحواضر العربية المُترفة ولنقرأ الإيقاعات التي طوَّروها هناك والتي كانت تُعدُّ خروجاً ومروقاً على الغضب البدويِّ الذي ظلَّ سائداً حتى في الحواضر التي نشأت حول الماء والترف والبذخ والتحضُّر .
وربَّما ساعد انتشار علوم القرآن وتلاوته وصياغاته البدوية الجزلة والتي حملت إيقاع الصحراء بصيغة مختلفة على الهيمنة التي فرضها الإيقاع العروضي لبحور الشِّعر العربي على البيئات الجديدة وأضعف من التمازج الذي كان يمكن أن يقود لإيقاعاتٍ جديدة متحوِّلة تأخذ من ثقافات وإيقاعات الجغرافيا الجديدة للمناطق والشعوب واللغات واللهجات والقبائل المنضوية تحت لواء الدولة العربية الصَّاعدة وتمزجها بثقافتها الصحراوية المنتصرة ، ولكن ربَّما كان هذا يتعارض أيضاً مع قُدسيَّة اللغة وشواهدها (والشِّعر أهمها ) التي اشتغلت عليها الثقافة العربية طوال القرون التي نسمِّيها عصور ازدهار التدوين والتأليف والتي ساعدت على تقديس اللغة وتقديس ما استُخدم منها وما أُنجز حتى لو كان من أبلهٍ أو جاهلٍ أو معتوه.

أكرِّر سؤالي الذي بدأتُ به هذه القراءة : لماذا لم يتم تطوير صيغٍ متاحةٍ أخرى غير ما تم استقراؤه من بحور،


الفقرة المتقدمة ذاتية بامتياز


ويمكن لاي كان أن يورد على غرارها ما يشاء من معطيات تعبر عن الخلفية الخاصة بصاحبها فكرية كانت أو أدبية أو سياسية أوما سوى ذلك مما قد يبدو خواطر منطقية.

**



ربما هناك إيقاع للغزو ومفرداته والثأر وحالاته والحبُّ وليونته وعذوبته والصحراء وغضبها وإيقاعها اللاهث المتسارع، كل ذلك ترجمه البدويُّ في صحرائه في غضبه وغزوه ومعاركه وقسوة الطبيعة حوله لإيقاعات تحمل النار التي تتوقَّد في قلبه ولا تنطفيء .



البدوي إذن حمل إيقاعات تحمل النار في ليونة الحب وغضب الصحراء وغضبه وغزوه .

إذا فهمنا الإيقاعات بأنها أوزان الشعر فإن هذه الأوزان قد حملت مشاعر البدوي في جاهليته وشركه ثم حملت مشاعر وأفكار الإسلام ثم وسعت ذات المجالات للعربي في سائر عصوره


الوزن كالكأس واحد والمضمون كالسائل الذي في الكأس طبيعته التغير . فعندما يوصف أبو تمام أو شوقي بالمجدد فإن التجديد متصل بالمضمون لا بالشكل.

**



ولنلاحظ الترقيق في الشِّعر والذي نشأ في الحواضر العربية المُترفة ولنقرأ الإيقاعات التي طوَّروها هناك والتي كانت تُعدُّ خروجاً ومروقاً على الغضب البدويِّ الذي ظلَّ سائداً حتى في الحواضر التي نشأت حول الماء والترف والبذخ والتحضُّر



لو سلمنا بحديث أستاذنا عن الترقيق في شعر الحواضر العربية الذي يعتبره أستاذنا خروجا على الغضب البدوي فإنه متعلق بالمضمون الشعري فغضب البدوي وترقيق الحضري كلاهما يمكن أن يكون على بحر البسيط أو الطويل أو الكامل.


تماما مثلما أن الشاعر البدوي استعمل ذات البحر وربما ذات القصيدة في التعبير عن " الحبُّ وليونته" و "غضبه وغزوه"


فلنتأمل هذين البيتين في ذات القصيدة للمنخل اليشكري :


واستلْأموا وتلبـّبوا ....إن التلبّب للمغير ....م/ع = 7/ 4= 1,8


وأحبّها وتحبني ...ويحب ناقتها بعيري ...م/ع = 3/ 6 = 0،5


هنا لين وشدة لنفس الشاعر في نفس القصيدة وعلى ذات البحر، ولهما مقياس مظنة صحة بمقياس لا علاقة له بالشعر. وإن كان خطأ فيكفي الإحساس العام للقارئ بذلك ولفهم م/ع يرجع للرابط :






بل أحيل أستاذنا إلى قول العربي المعاصر الذي لعله لم يعرف البادية حين يقول :



إني لأقرف من ذاتي فأبصقني..... فيقرف الأرضَ مني أنني عربي



فأي ترقيق واي نار واي عصر واية بادية واية حاضرة؟ وما علاقة ذلك بالإيقاع أو الوزن


سواء من ذهب إلى علاقة بعض البحور بالغرض الشعري ومن نفى ذلك تناولوه على أساس لا علاقة للعصر ولا للبيئة فيه.


وأنقل من الرابط:






في معرض الحديث عن وظيفة الموسيقى في القصيدة، وعن قيمتها الإيحائية، ودورها في تشكيل الدلالة الشعرية، ربط بعض الباحثين بين موضوع القصيدة والبحر الذي تنظم فيه في الشعر العربي، أي بين موقف الشاعر في معانيه وعاطفته وبين الإيقاع والوزن اللذين اختارهما للتعبير عن موقفه، على نحو ما هو معروف في شعر الكلاسيكيين من الأوروبيين والقدماء من شعراء العرب.


فأرسطو رائد الكلاسيكية – فيما أرى – كان أول من تناول طرفا من هذه القضية، ففي كتابه "فن الشعر" يرى أن «الْوَزْنُ الْبُطُولِيُّ هُوَ أَنْسَبُ الأَوْزَانِ لِلْمَلاحِمِ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأً اسْتَخْدَمَ فِي الْمُحَاكَاةِ الْقَصَصِيَّةِ وَزْنًا آخَرَ أَوْ عِدَّةَ أَوْزَانٍ لَبَدَتْ نَافِرَةً، لأَنَّ الْوَزْنَ الْبُطُولِيَّ هُوَ الأَرْزَنُ وَالأَوْسَعُ؛ وَلِهَذَا يَتَلاءَمُ مَعَ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ وَالْمَجَازَاتِ كُلَّ التَّلاؤُمِ»(7). وأوضح ابن رشد في تلخيصه هذا الكتاب أن من تمام الوزن أن يكون مناسبا للغرض، فرب وزن يناسب غرضا ولا يناسب آخر.



وقد استفاضت هذه الفكرة التي تذهب إلى تحديد طابع نفسي لكل وزن أو مجموعة من الأوزان الشعرية بدرجة كبيرة منذ زمن الخليل، وتابعها كثير من الأدباء النقاد منهم حازم القرطاجني،إذ يقول: «فَالْعَرُوضُ الطَّوِيلُ تَجِدُ فِيهِ أَبَدًا بَهَاءً وَقُوَّةً، وَتَجِدُ لِلطَّوِيلِ سَبَاطَةً وَطَلاوَةً، وَتَجِدُ لِلْكَامِلِ جَزَالَةً وَحُسْنَ اطِّرَادٍ، وَلِلْخَفِيفِ جَزَالَةً وَرَشَاقَةً، وَلِلرَّمَلِ لِينًا وَسُهُولَةً، وَلِمَا فِي الْمَدِيدِ وَالرَّمَلِ مِنَ اللِّينِ كَانَا أَلْيَقَ بِالرِّثَاءِ»(8). وقد عرض سليمان البستاني لهذا الموضوع في مقدمة ترجمته للإلياذة، غير أن كلامه لم يكن فيه تحديد فاصل لاستعمالات البحور، كما أن استنتاجه لا يقوم على إحصاء»(9).



وقلما نجد باحثا تناول موسيقى الشعر بالدراسة ولم يعرض لهذه القضية. فقد كتب الدكتور عبد الله الطيب كتابه "المرشد في فهم أشعار العرب وصناعتها"(10)والذي كتبه في أربعة مجلدات عن موسيقى الشعر العربي والأغراض التي تقال فيها. كما أفرد الدكتور إبراهيم أنيس عددا غير قليل من صفحات كتابه "موسيقى الشعر" للحديث عن هذه القضية، وكذلك الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه "النقد الأدبي الحديث"– الذي يعد إنجيل النقد الأدبي الحديث على حد تعبير الدكتور شفيع السيد، كما تناولها الدكتور طه مصطفى أبو كريشة في "أصول النقد الأدبي"، والدكتور ناجي فؤاد بدوي في "في موسيقى الشعر العربي"، والأستاذ أحمد الشايب في "أصول النقد الأدبي"، والدكتور حسني عبد الجليل يوسف في "موسيقى الشعر العربي"، والدكتور عز الدين إسماعيل في "الشعر العربي قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية" .... وغيرهم.



فالدكتور عبد الله الطيب يرى أن كل غرض من الأغراض الشعرية يناسبه بحر معين من البحور، وإن بدا غير ذلك في الظاهر، فإنَّ تأمُّل الناقد المدقق المتعمق يفضي به إلى تلك الحقيقة التي لا يكابر فيها إلا من يغالط نفسه في الحقائق، ويسومها طلب المحال. فاختلاف أوزان البحور نفسه، معناه أن أغراضا مختلفة دعت إلى ذلك، وإلا فقد كان أغنى بحر واحد ووزن واحد(*).


وانطلاقا من هذه النظرة راح الدكتور عبد الله الطيب يضع صفات مميزة لكل بحر من البحور، ويبين ما يناسبه من الأغراض والمعاني، فبحر الكامل أكثر بحور الشعر جلجلة وحركات. وفيه لون خاص من الموسيقى يجعله – إن أريد به الجد – فخما جليلا مع عنصر ترنمي ظاهر، ويجعله إن أريد به الغزل وما بمجراه من أبواب اللين والرقة، حلوا كصلصلة الأجراس، ونوع من الأبهة يمنعه أن يكون نزقا شهوانيا. وبحر الخفيف القصير يصلح للتغني بالألفاظ العذبة، والعواطف الرقيقة في غير عمق. وبحر الخبب دنيء للغاية، وكله جلبة وضجيج .... ويدعم كل ما يأتي به في ذلك وغيره بأمثلة وشواهد من الشعر القديم والحديث.


«وَالْحَقُّ – كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال - أَنَّ الْقُدَمَاءَ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَتَّخِذُوا لِكُلِّ مَوْضُوعِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ وَزْنًا خَاصًّا، أَوْ بَحْرا خَاصًّا مِنْ بُحُورِ الشِّعْرِ الْقَدِيمَةِ، فَكَانُوا يَمْدَحُونَ وَيُفَاخِرُونَ وَيَتَغَزَّلُونَ فِي كُلِّ بُحُورِ الشِّعْرِ، وَتَكَادُ تَتَّفِقُ الْمُعَلَّقَاتُ فِي مَوْضُوعِهَا وَقَدْ نُظِمَتْ مِنَ الطَّوِيلِ وَالْبَسِيطِ وَالْخَفِيفِ وَالْوَافِرِ وَالْكَامِلِ. وَمَرَاثِيهِمْ فِي الْمُفَضَّلِيَّاتِ جَاءَتْ مِنَ الْكَامِلِ وَالطَّوِيلِ وَالْبَسِيطِ وَالسَّرِيعِ وَالْخَفِيفِ، وَالأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلشَّاعِرِ»(11)


وهذا ما قرره - أيضا - الدكتور إبراهيم أنيس، وأضاف أنه قد يكون من المغالاة أن نتصور اشتراك الشعراء في العاطفة لمجرد اشتراكهم في موضوع الشعر، فالحالة النفسية للخنساء حين كانت ترثي أخاها غير الحالة النفسية التي تملكت أصحاب المراثي من القدماء. فشعور الشاعر وإن توقف على موضوع الشعر، يختلف باختلاف الشعراء، واختلاف تأثرهم بعوامل أخرى لا يمكن حصرها»(12).


بينما يرى الدكتور إبراهيم أنيس ذلك، نراه يقرر - بنفس مطمئنة – أن الشاعر في حالة اليأس والجزع والحزن قد يلجأ إلى البحر ذي التفاعيل الكثيرة؛ لاتساع مقاطعه وكلماته لأناته وشكواه محبا كان أم راثيا، أو لملاءمة موسيقاه لأغراضه الجدية الرزينة من فخر وحماسة ودعوة إلى قتال وما إليها، ولهذا كانت البحور الغالبة في الأغراض القديمة هي الطويل والكامل والبسيط والوافر. وقد تنفعل نفس الشاعر وتطرب لداع مفاجئ، فتلجأ إلى البحور المجزوءة أو إلى بحور المتقارب والمتدارك والرمل والخفيف.وليس هذا سوى تقرير مجمل لا يقوم مقام القاعدة. وكل بحر، بعد ذلك، قالب عام يستطيع الشاعر أن يضفي عليه الصبغة التي يريد، بما يصب فيه من عبارات وكلمات ذات طابع خاص، «وهذه هي النظرة السائدة في الشعر في النقد العالمي منذ الرومانتيكيين»(13).