النتائج 1 إلى 19 من 19

الموضوع: الانطباع النفسي في نقد الشعر

مشاهدة المواضيع

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2012
    المشاركات
    892

    الانطباع النفسي في نقد الشعر

    ما أٌقصده بالانطباع هو أول ما يتجه إليه شعور المتلقي الناقد عند تذوق النص الشعري للمرة الأولى وقبل البدء بدراسته النقدية المعتمدة على تطبيق المعايير العلمية للنقد الأدبي . فهذا الشعور المبدئي وفي اللحظات الأولى إما أن ينحو نحو الإعجاب والتلذذ بخفي جماليات النص فيحدث هزة نفسية قد تسبب إشراقا نقديا عند الناقد يركز على جماليات النص الشعري ، أو أن يمر ببرود ورتابة وتثاقل فيحدث كفا عن النقد قد ينقلب فيما بعد إلى نقد يركز على سلبيات النص أكثر من تركيزه على جمالياته وإيجابياته مع توفر تلك الجماليات والإيجابيات في الواقع .


    المسألة أن الناقد كمتلق هو إنسان ذو مزاج كغيره من البشر. فتحريك مزاج المتلقي الناقد باتجاه إيجابي أو سلبي ذلك ما يقوم به الشاعر عبره نصه الشعري في ما أسميه الانطباع النفسي الأول عند الناقد .


    وقد يعترض على كلامي هذا من يقول : إن عملية النقد الأدبي ليست عملية مزاجية محكومة بتقلبات مزاج الناقد وأهوائه . بل هي إجراء علمي يخضع لمعايير نقدية علمية دقيقة تفيد في تقييم الجوانب الأدبية المختلفة مع تحييد مزاجية الناقد . فمهما كان مزاج الناقد معكرا أوسيئا وحاول التركيز على سلبيات النص الشعري فإنه لن يستطيع طمس جمالياته وإيجابياته .لأن الأمر ببساطة أن الجمال يفرض نفسه بنفسه ولا يحتاج الجمال الواضح أصلا لناقد وسيط ينقله من النص إلى متلق آخر . كما أن النص الشعري الفاشل لن يتحول بجهد الناقد ذي المزاج الإيجابي الرائق العالي إلى نص ناجح أدبيا وفنيا مع وضوح عثراته .



    وأنا سأرد على هذا القول : بأن مزاج الناقد في الواقع يتحكم إلى حد كبير بمزاج المتلقي الآخر قارئ النقد . ولا أقول أنه يتحكم به مطلقا . فالنص الشعري الفاشل لن يبدو مع محاولات تحسينه من الناقد نصا رائعا لكنه على الأقل سيبدو نصا مقبولا يراوح في اقترابه من المستوى الجيد . أما النص الناجح المتميز فإن كان الناقد متمكنا من أدواته الفنية و التعبيرية فسوف يتمكن بالفعل من إخفاء الكثير من جمالياته عبر توجيه البوصلة النقدية في اتجاهات أخرى لا تمر بجماليات النص ولا توازيها ولربما تتقاطع معها على سبيل التبهيت أو التفنيد أوالتشويه .

    والأمر هنا يشبه ما يسمى بمستوى التغطية الإعلامية للحدث في القنوات الفضائية . فهناك فرق بين قناة فضائية تسابق إلى تغطية الحدث إعلاميا من جميع جوانبه ومن ظاهره وباطنه و تؤدي ذلك بحماس وتعاطف واضحين . وبين قناة أخرى تمر على الحدث ذاته مرورا يرفع عنها العتب مع تقصد الحد من استشفاف أبعاده والإحاطة بتفاصيله . ومع الإصرار على تضخيم ما يحيط به من أحداث أخرى تلفت الانتباه عنه إليها . فالناقد في الحقيقة وعبرالتحكم بمستوى التغطية الإعلامية المتفاوت لجوانب دون أخرى في النص الشعري يستطيع سرق انتباه المتلقي الآخر وتحويله حسب مزاجه هو .
    نقد النص الشعري يختلف في الواقع عن نقد أي نص من جنس أدبي آخرعبر ثلاث خصائص للشعر تميزه عن بقية الأجناس الأدبية وهي : الموسيقا والصورة الشعرية والعاطفة . فهذه الخصائص الثلاثة كما نرى هي مفاهيم فنية ونفسية فضفاضة، إذ يشارك المتلقي بخصائصه النفسية والثقافية وذوقه الخاص ومستوى تحسسه للجمال في تمثلها وصنعها أثناء عملية التلقي . وهي تشكل بوابات مفتوحة من غير حراس أمام الناقد باتجاه وعي المتلقي الآخر وتذوقه للنص .

    فمهما كانت المعايير العلمية المطبقة في النقد دقيقة وصارمة فإنها لن تمنع الناقد من الدخول إلى وعي المتلقي عبر هذه البوابات التي هي في الحقيقة ثغرات غير قابلة للضبط النقدي . فمن هنا يتدخل الناقد في ذائقة المتلقي الآخر ويكون له حسب طبيعة مزاجه المساهمة في تشكيل رؤية ذلك المتلقي وتوجيه حسه الجمالي في عملية تذوق النص الشعري .




    يؤدي اللاشعور بما يختزنه من الخبرات الانفعالية السابقة , والحاجات النفسية الملحة غير المشبعة ، والميول النفسية السلوكية والأخلاقية دورا أساسيا في تشكيل الانطباع النفسي الأول عند الإنسان العادي أيا كانت طبيعة هذا الانطباع .

    فعندما يستقبل الإنسان بشعوره الواعي مثيرات نفسية معينة هي من خصائص موضوع جديد التقطتها حواسه وأدركها عقله ، فإن العقل سيجري محاكمة سريعة جدا لتلك المثيرات بهدف تصنيفها وتحديد الموقف الذاتي تجاهها . كي يتمكن الإنسان من إبداء الاستجابة السلوكية الملائمة تجاهها .
    وكي يجري العقل هذه المحاكمة وبشكل سريع جدا فإنه يعرض تلك المثيرات على ما تم اختزانه في الذاكرة من خبرات سابقة ليجد تصنيفا مناسبا لها بمقارنتها مع ما سبق التعامل معه من الخبرات المماثلة لها حسب طبيعتها .
    الخبرات النفسية السابقة ذات طبيعة مزدوجة (فكرية شعورية في آن واحد ) فهي أفكار يحيط بها حقول من المشاعر التي تكون في حالة من السبات ندعوها باللاوعي . و المثيرات المناسبة لها ستثيربعض الخبرات الكامنة بعملية تحريض أو تنبيه شديد السرعة .لكن ذلك التحريض يطال ما هو مخزون في اللاوعي من المشاعر فقط دون الأفكار المتعلقة بتلك المشاعر والتي تستمر في كمونها وسباتها حتى تستدعى في المحاكمة العقلية في ما بعد هذه المرحلة .لذا فإن شعورنا تجاه موضوع جديد (قد يكون شخصا ) في الانطباع الأول يمثل استجابة شعورية محضة واضحة وسريعة إلا أنها غير مبررة منطقيا . كونها لم تخضع بعد للمحاكمة العقلية المنطقية التي تحتاج وقتا أطول والتي تستدعى فيها الأفكار والمفاهيم لاتخاذ القرار العقلي الواعي تجاه الموضوع الجديد والذي سيتحدد نمط الاستجابة تجاهه (رد الفعل ) على أسس منطقية .
    فإذا تمكنت تلك المثيرات من تحريك الخبرات الانفعالية الإيجابية والمرضي عنها من المخزون اللاشعوري وكانت تتلاءم مع الميول النفسية والأخلاقية . وتبشر بتلبية الحاجات الملحة غير المشبعة . فإنها تحدث تجاوبا إيجابيا يتمثل برد فعل واضح نسميه (القبول ) أو ( الانجذاب ) تجاه الموضوع . وبهذا يتشكل انطباع نفسي إيجابي سيمثل تحريضا نفسيا للإقدام والاقتراب من الموضوع للارتباط به . وأما إذا أثارت المثيرات بعض الخبرات الانفعالية السلبية غير المرضي عنها والتي تتعارض مع الميول النفسية والأخلاقية أو تنذر بتهديد الحاجات غير المشبعة . فإن الانطباع سيكون سلبيا وسيحدث إعراضٌ عن الموضوع ونفور منه .
    ولو تأملنا قليلا في تفسير حقيقة كلا النمطين من الانطباع ، الإيجابي المتمثل بالانجذاب والسلبي المتمثل بالنفور للاحظنا أن الحياد النفسي تجاه الموضوع ( الموضوعية ) أمر غير وارد في الأصل في مرحلة تشكل الانطباع الأول . والسبب في ذلك أن الدافع النفسي على الإقدام أو على النفور هو دافع ذاتي قوامه تحقيق المصلحة الشخصية الذاتية فقط . والذاتية فيه أمر قسري غريزي لأنه يحدث في اللاوعي المحكوم بالغرائز لا بالعقل .
    فاللاوعي لا يضع الذات جانبا ليتعامل مع خصائص الموضوع بحياد نفسي في مرحلة الانطباع الأول .لكن عندما يكتمل تشكل ذلك الانطباع ويُرفع تقريره إلى الشعور الواعي عند ذلك قد يتدخل العقل بتحييد المصلحة الذاتية والتجرد عنها. فيبدأ بجمع المعلومات حول المزيد من خصائص الموضوع ليتعامل معها بحيادية نسبية غير مطلقة .وتتحدد نسبة الموضوعية حسب المستوى العقلي الذي يتمتع به الشخص والذي يتيح له التعامل مع المفاهيم المجردة تعاملا منطقيا خالصا بحتا يعلي قيمة الحقيقة على كل قيمة سواها .
    وهذا التوصيف العام لعملية تشكيل الانطباع النفسي الأول يمكن سحبه إلى شعور الناقد الذي بدأ للتو بتشكيل انطباع ما أثناء قراءة نص شعري جديد . غير أننا سنركز في لاشعور الناقد على الخبرات النفسية الانفعالية الجمالية دون غيرها لأنها هي التي ستتعرض للإثارة من قبل المثيرات النفسية الجمالية التي تمثل خصائص النص الشعري (الموضوع الجديد).
    وبالتأكيد ، فإن الخبرات الانفعالية الجمالية التي تتعلق بالموسيقا وبالعاطفة وبالصور الشعرية أساسا هي موضوع بحثنا ،غير متناسين التنويه بما سوى ذلك من خصائص اللغة في النص الشعري كالتعبير اللغوي باستخدام البيان والبلاغة وما يتبعهما من صرف ونحو وإملاء ..
    فاكتساب الخبرات الجمالية بالانفعال النفسي يجعلها أشد تأثيرا في النفس. وعلى سبيل المثال : هناك فرق بين أن أصف لطفل في العاشرة من عمره مشهد الغروب على البحر بعبارات مقتضبة وهو غير حاضر في المشهد . أو أصف له تفاصيل المشهد وهو حاضر فيه وصفا حسيا أربط فيه كل جزء من الصورة بمعنى نفسي عاطفي يوحي به . فلا شك أنه كلما ازداد ارتباط التجربة الجمالية بالمعاني النفسية العاطفية والحسية عند اكتسابها كان ذلك أبلغ في تأثيرها في النفس فيما بعد . إذ تمثل تلك الارتباطات المعنوية وشائج كالجذور تمتد في النفس عميقا وباتجاهات متشعبة .
    لذلك فإن التربية الجمالية المثلى تحتاج مربيا يوجه الحس الجمالي إلى مكامن التذوق ، كما يعمق التجربة الجمالية بتوليد أسباب الانفعال فيها عند معاناتها . ذلك إن لم تكن الموهبة الإلهية قد منحت الإنسان تلك الحساسية الفطرية لتذوق الجمال دون مساعدة .
    وبالمقابل فإن اكتساب التجربة الجمالية بوصفها معلومات أومفاهيم مجردة فقط بطريقة الحفظ لا يمثل خبرة انفعالية . والمعلومات المحفوظة كمفاهيم عقلية بسيطة غير مرتبطة بالعاطفة والانفعال الحسي لا تساهم في تشكيل الانطباع النفسي الأول عند الناقد ،أو عند القارئ المتذوق .
    وإذا توقفنا طويلا عند طريقة اكتساب الخبرات الجمالية بالانفعال فذلك لأن الانطباع النفسي عند الناقد والذي ما زلنا ندور حوله كمحور لحديثنا إنما هو محاولة اللاوعي الدائمة لإعادة إحياء الخبرة السابقة. والتي هي خبرة سارة للنفس مرضي عنها من قبل اللاوعي كونها تسبب الشعور باللذة النفسية .ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن كل انطباع نفسي عند القارئ المتذوق أو عند الناقد هو بحث عن حالة قديمة مر بها الشعور وسببت اللذة والمسرة .ومن ثم فإنه سيترتب على عملية القياس إلى تلك الحالة النفسية الذاتية الخاصة التي تمثل الشعور المثالي للتجربة الجمالية حكم نقدي ينطق به الناقد ليحكم على جانب معين من النص الشعري .
    وبناء على ضرورة وجود تلك الحالة المثالية من أجل القياس إليها في تجربة الناقد النفسية مع الجمال سنقول : إن الناقد الذي لم يتعرف على تجربة الطرب النفسي لموسيقا الشعر و لم يختزن انفعالا حسيا مثاليا سابقا يقيس إليه الانفعالات اللاحقة ، هو غير قادر على تذوق موسيقا النص وغير قادر على الحكم النقدي.
    لكن لو افترضنا تجربة إحصائية نعطي فيها نصا شعريا لعدد من النقاد الذين نحكم بأهلية كل منهم لتذوق الموسيقا في ذلك النص ، فهل نتوقع أن يكون لجميع أولئك النقاد حكم واحد ؟ هل سيتفقون جميعا في الحكم بسلاسة واستساغة أبيات محددة بعينها. وركاكة وثقل أبيات محددة بعينها ؟

    في الواقع لا . تخبرنا تجارب متعددة أن الحكم بالسلاسة أو الثقل على الأبيات نفسها لن يكون حكما واحدا بين جميع النقاد أو القراء المتذوقين . وهذا نرده إلى الاختلاف في طبيعة مخزون اللاوعي من موسيقا الشعر عند الأفراد . فاختلاف الذوق يشكل بصمة فردية لكل متذوق لعدم إمكانية تطابق الخبرات الانفعالية المثالية والتي يقاس إليها في الحكم عند كل متذوق. والنقاد منهم . فما قد يطرب له سواي قد أراه أنا عاديا أو أقل من عادي والعكس صحيح . غير أن التفاعل الاجتماعي بين الأفراد بما يتضمنه من تبادل الخبرات في التربية والإعلام في بيئة ثقافية جغرافية وتاريخية معينة يوحد عموما بين تلك الأذواق ويعطيها طابعا عاما يمثل بدوره بصمة ذوقية تميز الذوق العام في تلك البيئة عن سواها .
    يتبع بإذن الله..
    التعديل الأخير تم بواسطة (ثناء صالح) ; 08-14-2014 الساعة 11:00 AM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط