مع أني نقلت عن التنوخي سبب استدراك الأخفش للضرب الرابع في الطويل بأنه أبى أن يجعل امرأ القيس يُقوي إلا أنني عدت إلى كتاب القوافي للأخفش ( ص 102 ) لأجده يبين السبب الحقيقي لهذا الاستدراك وهو روايته عمن أخبره بأنه " سمع قصيدة امرئ القيس هذه من العرب مختلفة ، قالوا : فإنما هي على التقييد " .
وإذن فقد كان التنوخي واهما في تخمينه للسبب وراء هذا الاستدراك ، لأن ثمة دليلا آخر يدحض القول بنية الأخفش في تنزيهه الشعر القديم عن شبهة الإقواء هو قول الأخفش نفسه في موضع آخر من الكتاب (46 –47 ) : " وقال النابغة :
سقط النصيف ولم تُرِد إسقاطَه .............فتناولته واتّقتنا باليدِ
بمُخضّب رخْص كأن بَنانه............عَنَمٌ يَكاد من اللطافة يُعقَدُ
وقد سمعت مثل هذا عن العرب كثيرا ما لا يحصى ، قلّ قصيدة ينشدونها إلا وفيها الإقواء ، ثم لا يستنكرونه ؛ وذلك لأنه لا يكسر الشعر ، وكل بيت منها شعر على حياله " .
قصيدة النابغة هذه وقعت في عيب الإقواء مرتين كما نرى ، وقد جاء في المعيار للشنتريني :
" أنه قد روي أن النابغة قيل له قد رفعت وخفضت فلم يفطن حتى أحضروا قينة فقيل لها : غني بهذين البيتين ومُدّي صوتك ، ففعلت ففطن لما أرادوا ، فيقال إنه عند ذلك أصلحه ، فقال :
.......................................... عنم على أغصانه لم يعقدِ "
وفي البيتين اللذين رواهما الأستاذ خشان أن النابغة أصلح البيت الثاني ، فقال :
.......................................... وبذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ
والروايتان تبدوان لي متهالكتين في الضعف مغرقتين في الصنعة ؛ والدليل على ذلك أن النابغة اعتذر عن القصيدة بكاملها وهو أمر من شأنه إنكار نسبتها على النحو الذي ينفي فيه معاصرونا من السياسيين نسبة فعل ما اقترفوه ببيان يعلنونه في بعض الصحف أوعلى الأثير .
وكذلك وجدنا وجدنا أبا عمرو بن العلاء يحاول أن ينفي شبهة الإقواء عن العرب بقوله : " وإنما يؤتى على العرب أن منهم من يقول الشعر موقوفا ، فأما من يُطلق منهم القوافي فلا يُقوي البتّة" ، وهو في قوله هذا مخالف لقول الأخفش بأن العرب لا يستنكرون الإقواء .
وإذا أنشدنا قصيدة النابغة هذه على الوقف ـ كما يقترح الأستاذ خشان ـ تجنبا للإقواء فلن ينكسر الوزن باختلاف الضرب كما ينكسر في بيت امرئ القيس الذي وقع في مطب الإقواء ؛ ذلك أن من ضروب الكامل ( متفاعل 1 1 2 2 ) ، إلا أن نشازا كبيرا سيقع عند إنشاد هذه القصيدة على هذا النحولأن الوزن في هذه الحالة سيفتقر إلى المد الذي يعوض النقص في قطع الوتد ، قال صاحب تحفة الخليل :
المد في ضرب الطويل المنحذف ..................حتم وشذّ فيه أن لا يرتدف
وفي الخفيف ما به القصر جرى.....................ومثله في المتقارب انبرى
وما من الضرب به القطع برز ................... من كامل ومن بسيط ورجز
وفي المديد ضربه الذي انبتر...................... والأمر فيما مرّ وجهه نظر
وإذن فلا يبقى إلا إنشاد هذه القصيدة على الوقف ـ كما ذكر أبو العلاء ـ وبذلك يكون إنشادنا لها قريبا من إنشاد العرب الجفاة فلا نشعر بالإقواء .