العروض الرقمي

لم يكتف خصمنا بتجنيد الشعراء والأدباء لتغيير وطمس التراث العربي عبر تخليق الشعر (الحر)أو التفعيلة؛بل سعى لقلع وتخريب أساس هذا التراث من الجذور؛فهيّأ عملاءه ودربّهم على المكر والخديعة والخذلان ؛ثم رفعهم كما فعل بشعراء التفعيلة-بواسطة أبواق الإعلام الصارخة في آذان السذّج من الشباب ؛رفعهم إلى واجهات العروض العربي البارزة ليطمسوا العروض الأصيل وليأتوا بكل مستحدث هزيل البنية متزحزح المقام
اقترح جلال الحنفي (في القرن العشرين) عروضا رقمية تعد أول خروج عن نظام الخليل وقد رمز للمقطع القصير فيها بالرمز 1 وللمقطع الطويل بالرمز 2 والمقطع المديد بالرمز 3

ولقد كتب وعوض التفاعيل بالأرقام محمد طارق عام 1971م
ثم أحمد مستجير وضع كتاب(في بحور الشعر: الأدلة الرقمية لبحور الشعر العربي، عام 1980)
ثم عبدالعزيز غانم ألف كتابه العروض الرقمي
ومثله خشان محمد خشان

لفد اتخذ الإنكليزي في الأعاريض الغربية الكمي منها والنبري الرقم 1 والرقم 2 لوزنها ؛وهذا ما اقتبسه منحرفو العروض الرقمي وطبقوه على الشعر في العروض العربي ليطمسوا تفاعيل الخليل في محيط الماضي ويبرزوا العروض الرقمي الذي لا يمت إلى الحس والحياة اللتان تتدفقان في الشعر العربي
إن الشعر شعور وجداني يفيض به نبض الإنسانية فينطلق من بين اثنين وثلاثين سنّا ولسان وشفتين بعدما مخاض غير قصير عبر القلب والحلقوم؛فإذا أردنا ترجمته على الورق لا ينبغي لذاك النبض أن يوأد أويخنق بمنديل الرموز الرقمية تلك التي لا حياة فيها ولا فائدة إلا إذا زوجّتْ بأجساد دون أرواح؛فالأرقام ابتكرها الإنسان للتعبير الجامد في الموضوعات العلمية البحتة وهي دلالات نسبية غير ثابتة على شيء معيّن؛بل إنها مشتركة للتعبير بها عن أكثر من مليون شيء في آن واحد؛مثلا الرقم 2 نرمز به لكتابين-قلمين-غرفتين---وهكذا نجد الأرقام لم تكن لغة للأرواح إنما هي لغة الأجساد المادية يحاكى بها الجوامد وليس روح الشعر الرهيفة؛ هي وسيلة للتعبير عن عدد الشيء وليست علما قائما بحد ذاته؛وحتى لو كانت علما فهو علم جامد لا تستمرئه الروح عند خلجاتها وشجونها للتعبير بها إذ لم نسمع أو نقرأ عن إنسان تعرض لنكبة فقال وا اثنيناه وا اثنيناه---
إن الشاعر الأوليّ حتما كان لديه الأداة التي يزن بها شعره وينقيه من الشوائب والكسور ؛ولكن نستبعد أنه كان يستخدم الأرقام لذلك؛ حتى جاء الخليل في عام 100هـ فوضع موازين البحور العربية للشعر بعقلية فذّة وبرؤيا شاملة فنراه أيضا لم يستخدم لغة الأرقام الجامدة—لماذا؟
لأنه يتعامل مع كلمات رقيقة جذابة مليئة بشهد اللسان وعطور الروح النقية والبيان لا مع الطابوق والإسمنت والمداخن الصناعية التي تفوح منها روائح الموت القذرة والدخان
صحيح نحن في عصر ورقي وأكتب شعري منتظما على الورق لكن الشعر ليس نثرا كي أجلس أمام الطاولة وأكتبه؛بل الشعر أكبر مما نتخيله إنه هبّات خيال ناعم لا ندري متى يدركنا ومتى يغيب؛ولو كنت في عمل يومي بعيدا عن الطاولة والورق وجاء الإيحاء الشعري يطاردني فبماذا أقيس كلماتي لتكون موزونة؟هل أقول؛223 بلا إيقاع روحي وتناغم خيالي ليستقيم الوزن؛أم أردد ؛مستفعلن مستفعلن مستفعلن لتبدأ الكلمات والأشياء من حولي بالتراقص الإيقاعي والاهتزاز المنتظم
الفرق بين الكلمة الخارجة من الشفاه وبين التي تكتب على الورق هو كالزهرة الريانه تهتز من نسيم عليل والزهرة الذابلة على رصيف الحديقة تسحق بالأحذية دون أن تشعر؛
فما الذي نجنيه من الزهور بعد موتها؟وهل الشعر إلا أداة تستنطق الموتى!
هذه هي الفروق بين العروض الخليلي والرقمي من الناحية المعنوية؛أما من الناحية التطبيقية فلا يزال تدريس وتعليم العروض الخليلي قائما في المدارس الإعدادية والعالية على قدم وساق وهم يرددون التفاعيل الخليلية ثم أبيات الشعر وبشكل جماعي وطبيعي وهل يعقل ترديد الأرقام محلها!
لقد جوبه العروض الرقمي شأنه شأن الشعر الحر بالرفض والاستياء من أصحاب الأقلام الأصيلة المنصفة وهم يعلنون رفضه لما فيه من أخطاء وشذوذ عن منهجنا العربي غير آبهين لنفخ النافخين في أبواق الدعاية والإعلان عبر الوسائل الأجنبية المشبوهة والعميلة المنبوذة

--يتبع