القافية التي يجتمع في آخرها صامتان
ملامح عروضية وصوتية في قصيدة للشاعرة مريم العموري
الشاعرة مريم العموري ( ألا تذكرونها ! ) تكتب الشعر برصيد من الموسيقى اجتمعت لها من طول ألفتها بأنغام الشبابة الفلسطينية حيث نظمت ، وأنشد لها المنشدون ، عددا وافرا من الأناشيد والأهازيج الشعبية ، وغير ذلك قدرا لا أسميه من الترانيم الدينية وأغاني الأطفال وغيرها ..
من الطبيعي إذن أن نقف وقفة تأمل أمام هذه القصيدة التي ما كانت شاعرتنا لتجرؤ على نظمها لو أن ثقافتها الموسيقية انحصرت في كتاب العروض وحده ؛ فهي لن تجد في بحر الرمل الذي اختارته ( ربما بأثر من طلع البدر ) لتنظم عليه قصيدتها ضربا مجزوءا مقصورا ، كما لن تجد على هذا الضرب إن وجد قافية يجتمع في آخرها صامتان . تقول القصيدة :
يــــــــا إلــــهـــــي
***
رَانَ قلبي منْ غُثَـا هَـمٍّ وأهْـوَاءٍ وكَبْـتْ
صارَ بِيدَاً في الحَنايا خالياً مـن كـلِّ نَبْـتْ
فارْعَوَتْ نفسي تُعيذُ الرُّوحَ من غِيٍّ وجِبْـتْ
من ظلامِ الأمْسِ من دُنيَا ضلالٍ فيـه جُبْـتْ
فاقبَلنّـي يـا إلهـي إننـي ذا اليـومَ تُبْـتْ
***
يــا إلـهـي..... وارفُـقَــنْ بـــي
***
عُدْتُ والخفْقُ رجاءٌ، لكَ بالأشـواقِ بُحْـتْ
لَذّةٌ قربُكَ، زِدْني، إنَّ هـذا الشَّهْـدَ بَحْـتْ
عُدْتُ، مَنْ غيرُك لَوْذِي ومَلاذِي حَيثُ رُحْتْ
كلُّ كَسْبٍ يا إلهي دونَ رضوانِـكَ سُحْـتْ
ليس تُجدي العبدَ دنيا، لكَ ما فوقُ وتحْـتْ
***
يــــا إلـهـي...أنــت ربّــــي
***
قلَّبَتْ قلبـي الرَّزَايـا وبقيـتَ البَّـرَّ أنْـتْ
كُلَّما ضِقْتُ بِحُزْني، كُنتَ كلَّ الحُـبِّ أنْـتْ
كلَّما اسْتَوحشْتُ في الأنْوَاءِ، كنتَ الأُنْسَ أنْتْ
كلَّما قَطَّعتُ حبلَ الوصلِ، كان العفوُ أنْـتْ
ليسَ من نفْعي وضُرِّي غيرَ ما قـدّرتَ أنْـتْ
***
يــا إلـهــي ..خُـــذْ بقـلـبـي
القصيدة على الوزن التالي :
فاعلاتن فاعلاتن ......فاعلاتن فاعلانْ
وهي صورة من صور الرمل التي لم يذكرها العروضيون القدماء ، ووجد عليها الدكتور محمد عبد المجيد الطويل نماذج قليلة في قديم الشعر وحديثه . فمن القديم قول الوليد بن يزيد :
إنني أبصرت شيخا .......... حسنَ الزيّ مليحْ
ولباس لبس شيخٍ .............في عَباءٍ ومسوحْ
ومن الحديث قول شوقي :
قيسُ عصفورُ البوادي ......... وهَزارُ الرَبَوات ْ
طِرتَ من وادٍ لوادي ...........وغَمرتَ الفَلَوات ْ
وقول محمود حسن اسماعيل :
زهرة الوادي تجلّت ..........كعروسٍ للربيعْ
زانَها الحُسْنُ بِطَلٍّ ..........خاطفِ اللمحِ لَموعْ
وهي تحاكي في هندسة القصيدة المعمار الذي أكثر منه شعراء أبوللو والمهجر ( لم لا وهي أيضا مهجرية !) ، فإذا انتقلنا إلى ملمح القافية في هذه القصيدة وجدنا في جانبها الصوتي نكتا تستوجب التأمل فمن ذلك أنها وقعت في القسم الثالث منها في عيب يسمى الإيطاء ، ( وهو في تقديري تصرف مقصود ) ولذلك لا نعد ما جاءت به في قافيتها عيبا خصوصا إذا استمعنا إلى صاحب " أهدى سبيل " في قوله : " وقد استثنوا من الإيطاء تكرار ما يُستلذّ ذكره كاسم الله تعالى واسم محمد رسوله عليه الصلاة والسلام واسم محبوبة الشاعر التي تُيِّمَ بها " . وأزيد : وكذلك اسماء الإشارة التي تدل على هذه الأسماء . غير أن الشاعرة هنا خالفت كل من سبقها في التزام المقطع المديد الذي ينتهي بصامتين ، ومثل هذا النوع من المقاطع ربما بدا ثقيلا ، ولنستمع إلى قول الأخفش في كتاب القوافي حول شروط بناء المقطع المديد : " وذلك لا تبنيه العرب إلا أن يجعلوا الأول منها حرف لين ، كذلك قالوه في جميع أشعارهم ، وذلك نحو (فاعلانْ ) في الرمل و( مستفعلانْ ) وزحافه في البسيط ... كل هذا لا يكون الحرفُ الذي يلي آخرَ حرفٍ منه إلا حرفَ مدّ ؛ لأنه لما اجتمع ساكنان كان ذلك مما يثقل ولا يكون في الإدراج ، والقصيدة عندهم بيوتها مُدرَجة بعضها إلى بعض ، فأدخلوا المدّ واللين ليكون عوضا من ذهاب التحريك وقوةً على اجتماع الساكنين . وقد جاء بغير حرف لين ، وهو شاذّ لا يقاس عليه ؛ قال:
أرخينَ أذيالَ الحِقيّ واربَعنْ
مشيَ حَييّاتٍ كما لم يفزَعنْ
إن يُمنَع اليوم نساءٌ تُمنعنْ " .
فهو يبرر ، إذن ، النوع الذي يرد بحرف لين ويؤكد على شذوذ النوع الآخر الذي جاءت به الشاعرة في قافيتها ، ويتجلى هذا التأكيد في قوله : " وتركُ اللين في ( فاعلانْ ) في الرمل وما أشبهه أقبح منه ؛ لأنه منقوص من ( فاعلاتن ) فتركُ المدّ فيه أقبحُ لما نقص وكذلك كل ناقص".
غير أننا لو أزددنا تأملا في أصوات قافية الشاعرة لما وقعنا على أثر لهذا الشذوذ الذي حكاه الأخفش ، ففي الأبيات التي استشهد بها وهي من السريع أو الرجز شذوذ أكبر أثرا ولكنه يختص بالعروض لا بالقافية ، وقد عبرت عن سبب هذا الشذوذ في كتابي " في نظرية العروض العربي " بقولي : " ويلاحظ الثقل في ضرب الرجز المبتور الوتد ، شاهده :
كأنني قوق أقبّ سَهوَقٍ
جأبٍ إذا عشّرَ صاتي الإرنانْ
والخليل يعد الشطر الثاني من السريع بوتد مفروق في آخره ، والسبب في ثقله راجع إلى وقوع المقطع المديد على الوتد المبتور ، وإن كنا نلاحظ تمرد الرجز على معظم القواعد بشكل لا نظير له في غيره من البحور " .
وفي قوافي الأبيات التي استشهد بها الأخفش ، كما في قوافي هذه القصيدة ، ملمح آخر يتبين لنا من خلال التزام ما لا يلزم في الصوت الذي يسبق الروي ، فالعين في قافية أبيات المرار الأسدي ، والباء والحاء والنون في قوافي أبيات مريم العموري تلعب ، من حيث لزومها ، دور الردف في القوافي المردفة ، فتقترب بذلك من نوع المقاطع الذي يقبله الأخفش ، وتخرج به من حد الشذوذ الذي ذكره .
هذا رأي خاص بي ، وقد يقبله الأخوة والأخوات الفضلاء في هذا المنتدى ، وقد يعترضون عليه ، فلو عرفنا إذن وجهات نظرهم ؟
اجتماع ساكنين في الضرب قد يكون تخلصاً من الإقواء
السلام عليكم ورحمة الله
إذا لم تكن الغاية من تسكين الروي التخلص من الإقواء الحاصل في الأبيات الخمس الأولى من القصيدة، ألا يجوز أن نشكل الروي بالحركة المناسبة ليستقيم الوزن على عروض الخليل رحمه الله ؟ فتكون القصيدة من مجزوء الرمل وخاصة أن الروي غير مسبوق بحرف لين على شرط الأخفش، وقراءة الأبيات على هذا النحو تبدو مستساغة...
يــــــــا إلــــهـــــي
***
رَانَ قلبي منْ غُثَـا هَـمٍٍّ وأهْـوَاءٍ وكَبْـتِ
صارَ بِيدَاً في الحَنايا خالياً مـن كـلِّ نَبْـتِ
فارْعَوَتْ نفسي تُعيذُ الروحَ من غِيٍّ وجِبْـتِ
(فاعلاتن فاعلاتن**فاعلاتن فاعلاتن)
من ظلامِ الأمْسِ من دُنيَا ضلالٍ فيـه جُبْـتُ
فاقبَلنّـي يـا إلهـي إننـي ذا اليـومَ تُبْـتُ
كتبت هذا الرد، وكنت أتوجه بالسؤال إلى الأستاذ الأخ سليمان أبوستة قبل الاطلاع على رد الأستاذ ( د. عمر خلوف) وقد وجدت في الأبيات التي أوردها كنماذج على القافية التي تنتهي بحرفين (ساكنين) نفس العلة التي أشرت إليها في الأبيات السابقة:
فمن البند، يقول حسين العشاري/ على الهزج:
لَكَ النعمَةُ والحَمْدْ(دُ) == مفاعيل مفاعيلن
وأنتَ الصّمَدُ الفَرْدْ(دُ) == مفاعيل مفاعيلن
خَلَقْتَ الحرَّ والعبْدْ(دَ) == مفاعيلن مفاعيلن
ولمحمد عمر الطوانسي/ من الكامل:
إنْ كنتَ ترجو الفتْحْ (حَ) متْفاعلن متْفاعلْ
فالْجأْ لربِّ المَنْحْ (حِ) متْفاعلن متْفاعلْ
واستوْفِ منه الصّفْحْ(حَ) متْفاعلن متْفاعلْ
وقريبٌ منه ما تمثل به عبد الملك بن مروان:
اِعْملْ على مهَلٍ فإنّكَ ميِّتٌ = واكدَحْ لنفسِكَ أيّها الإنسانْ (نُ)
فكأنَّ ما قد كانَ لمْ يكُ إذْ مضى = وكأنَّ ما هو كائنٌ قد كانْ (نَ)
متفاعلن متفاعلن متفاعلن = متْفاعلن متفاعلن متْفاعلْ
ومن الخفيف، قول حسين بن عبد الصمد الحارثي:
فاحَ نَشْرُ الصَّبا وصاحَ الدّيْكْ(كُ) = وانثَنى البانُ يشتكي التحْريكْ(كَ)
قمْ بنا نجتلي مُشعشَعةً = تاهَ منْ وجْدِهِ بِها النِّسّيكْ(كُ)
لو رآها المجوسُ عاكفةً = وحَّدوها وجانَبوا التّشْريكْ(كَ)
فاعلاتن مستفعلن فعِلن = فاعلاتن متفْعلن فاعاتن=(مفعولن) (التشعيث في الضرب)
ولابن الصباغ، من الخفيف أيضاً:
إنْ تكنْ باحِثاً عنِ الأسْرارْ(رِ)
فانتَشِقْ صاحِ نفحَةَ الأسحارْ(رِ)
وأَطِلْ في الأصائِلِ الأذْكارْ(رَ)
فهْيَ أذكى من عاطِرِ الأزهارْ(رِ)
فاعلاتن مستفْعلن فاعاتن=(مفعولن) (التشعيث في الضرب)
و هذه النماذج كما يتضح تتغير فيها حركة الروي بين كسر وفتح وضم وقد يكون ذلك سببا في تسكين الروي فيجتمع ساكنان لا تطبق عليهما قاعدة "اكسر ما سبق" والعرب تقف على الساكن في النثر وتتحاشى ذلك في الشعر إلا للضرورة.
وقد حاولت استقصاء الحالات التي يجوز فيها اجتماع ساكنين في نهاية البيت،اعتماداً على ما تسمح به العلل أو الزحافات التي تجري مجراها، فوجدت مايلي:
البحر----------------التفاعيل----------------السبب
الرمل----------------فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتْ----------------ضرب مقصور
المديد----------------فاعلاتن فاعلن فاعلانْ----------------ضرب مقصور
السريع----------------مستفعلن مستفعلن مفعولاتْ----------------ضرب موقوف
المتقارب----------------فعولن فعولن فعولن فعولْ----------------ضرب مقصور
مجزوء البسيط----------------مستفعلن فاعلن مستفعلانْ----------------ضرب مذال
مجزوء الرمل----------------فاعلاتن فاعلاتانْ----------------ضرب مسبغ
مجزوء الكامل----------------متفاعلن متفاعلانْ----------------ضرب مذال
مجزوء المتدارك----------------فاعلن فاعلن فاعلانْ----------------ضرب مذال
المنسرح المنهوك----------------مستفعلن مفعولاتْ----------------ضرب موقوف
العلل:1-التذييل 2-التسبيغ 3-القصر 4- الوقف
(ولن أصدر أحكاماً في جواز ذلك أو امتناعه لأن الاستعمال هو العامل الأساسي في غالب الأحيان ولكل قاعدة استثناء، وإن كنا نغض الطرف أحياناً عن القيمة الحقيقية للشعراء الذين نستشهد بأشعارهم التي تخرق القواعد، خلافاً لما كان عليه جمهور اللغويين في عصور التنظير لعلوم العربية، وقد يكون تساهل العلماء المتمرسين بالعروض في الاستشهاد بأشعار المحدثين غير المتمكنين من اللغة والشعر - وما أكثرهم في عصرنا- سبباً في الطامة الكبرى التي جعلت (الشعر) على كل لسان، ورحم الله الزمان الذي كانت القبيلة تحتفل فيه بنبوغ شاعرها وأقول "شاعر" لا "شعراء"....قد تكون للشاعر مكانته في دنيا الشعر بمفهومه المعاصر بناء على جمهور القراء الذين يتذوقون شعره والفرص التي أتيحت له في وسائل الإعلام المختلفة وعدد الدواوين التي تمكن من نشرها... ويبقى رغم ذلك خارج دائرة الاستشهاد لكسر قاعدة راسخة، وعندما نتمكن ذات يوم من استقراء (الشعر) كل الشعر الذي يكتب في عصرنا تحت أي اسم كان سيكون في مقدورنا أن نستنبط منه القوانين التي تحكمه خارج عروض الخليل، وفي انتظار ذلك رحم الله الخليل ملأ الدنيا وشغل الناس.)