العلم صيد والكتابة قيده *** قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة *** وتتركها بين الخلائق طالقة
* لماذا تدوين التجارب؟
بقدر ما يقرأ المفكر أو التربوي في الكتب المفيدة لتخصصه، فإنَّه لا بد وأن يستفيد من تجارب السابقين، فـ:(لا تغني الكتب عن تجارب الحياة ولا تغني التجارب عن الكتب) كما قال الأستاذ عبَّاس العقَّاد.
وتجارب المفكرون والتربويين عِلْمٌ، والعلم من لوازمه التقييد،
وعليه فإنَّ لتدوين تجاربنا الفكرية والتربويَّة فوائد عدَّة، منها:
1) تعلم التنظيم والترتيب، وإحسان متابعة الأعمال، وتجنب العشوائيَّة، من خلال المراجعة الدائمة لما كتب في الأوراق التي دوِّن عليها تلك التجارب (والجاهليَّة المنظمة لا يغلبها إلاَّ إنسان منظَّم)، وبطريقة التدوين نشعر نفسياً أنَّنا نقوم بعمل وجهد مبني على فكر متروٍ ورأي سديد.
2) تطوير التجارب من خلال التأمُّل؛ لإضافة فكرة أو تعديل مسار أو مراجعة في قضية لم نكن نحسب حسابها.
3) إفادة العاملين بهذه التجارب ونقلها إلى بلدان أخرى فيما يتناسب مع تلك البيئات.
4) التعرف على أسباب الفشل والإخفاق، بشكل يسهم في تحويل التجارب الفاشلة إلى مشاريع ناجحة، مع تجنب تكرار الأخطاء، وحماية الأجيال والأعمال من اجترار التجارب الفاشلة، والاقتداء بالجوانب المشرقة والنماذج النيّرة والعمل بناء على تراكم فكري كبير يؤسس له المفكرون، جيلاً فجيلاً.
5) البعد عن الكسل والمضي في سبيل الجد،لتكون هذه المنجزات ـ إن خلصت نيَّاتنا وصلحت أعمالنا ـ شاهدة على أيدينا بما يسرنا يوم القيامة أن نراه من إنجاز أقمناه في عمارة الدنيا بحضارة الإيمان.
* ثلاثيَّة المراحل:
الأفكار لا تنضب، والجهود لن تتوقف، ولكل طريقته في عمله الفكري ما دامت روح التكامل والتوازن تعمِّم جميع المفكرون الساعين إلى بناء تلك الجهود الفكرية على قدم وساق.
مُنَى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى * وإلاَّ فقد عشنا بها زمناً رغدا كما أنَّ من المهم في الوقت نفسه أن يكون طريقنا واضحاً، ومسلكنا ناجحاً في عمليَّة التدوين لهذه التجارب، وأقترح أن يكون ذلك على ثلاث مراحل:
1) قبل البدء بكتابة التجربة: فينبغي استخارة الله تعالى في ذلك، واستشارة أهل الرأي والخبرة، والنظر في الخطَّة التي يمكننا بها بناء ذلك العمل بناء تدريجياً راسخاً قويماً، ويفضَّل أن يكون لنا خطَّة (تكتيكيَّة) قصيرة المدى، وخطَّة (استراتيجيَّة) طويلة المدى، ليسهم ذلك في بناء هذه التجربة بناء تنموياً ونهضوياً، على أسس مراقِبَةٍ لها ولسيرها، تقي من انحراف ذلك المسير عن الهدف والغاية التي تنطلق خطَّتنا لتحقيقها.
2) أثناء كتابة الفكرة: بتدوين أي عمل فكري أو تربوي أُنجز، مع الفرح بإنجازه والنظر إليه قبل كل شيء بعين الرضا والسعادة التي تغمر الوجدان، وإقناع النفس أنَّ إيقاد أي شمعة أفضل من أن نعيش في ظلام مطبق، ولو كان نور هذه الشمعة ضئيلاً، ومن ثمَّ كتابة تقرير كامل لجميع لواحقه وذيوله، وما نتج عنه، وذكر سلبياته، وإيجابياته، وهل أنجز المتوقع مما خُطِّط له، ولماذا؟وهل كان هناك تقصير فيه، وما السبب في ذلك؟ وهل حصلت من خلاله خطط أو إنجازات تساهم أكثر فأكثر في بناء ذلك العمل ورص اللحمة وتقويتها لتلك التجربة الفكرية؟
3) بعد إنجاز الفكرة : ننظر في نتائجها وماذا حقَّقت؟ وهل هناك أخطاء وقعت؟ وما هي ؟ وكيف السبيل لتصحيحها حتى لا نقع فيها مرة أخرى؟
فلابدَّ من وقفات مراجعة للعمل الفكري والتربوي الذي شيِّد بناؤه، أو اكتمل جزء من أهدافه المرجو تطبيقها في الواقع.. وهكذا.
• ماذا ندوِّن؟
ليس كل عمل بمفرده يحتاج لتدوين وتوثيق، ولكن إذا اجتمعت كتلة من عمل واحد متكرر فهي بحاجة لتدوين وتوثيق، فالأمور إن جاءت من خلال تصرف فردي مرة واحدة أو اثنتين قد لا تكون ذات أهمية في التدوين والتوثيق، ولكن بمواصلة هذا العمل، ولو كان من فرد واحد، يكون من الجدير أن يهتم بتوثيقها وتدوينها وكتابتها ونشرها وإفادة الناس بها، لعلَّ الفكرة تكبر وتنضج وتستوي، وبهذا ننال المقصود.
ومن المهم أن تدوَّن وتكتب تلك التجارب الفكرية التي تنطوي على جدة أو طرافة وابتكار، أو تلك التي أثبت الواقعُ نجاحَها وإثمارها أهمية خاصة في التدوين والنشر .
بيد أنَّ هنالك أمراً يتحتَّم النظر فيه لصالح موضوع التدوين، وهو أن يكون للتدوين درجات وأشكال؛ فهنالك التدوين الفردي، والتدوين المؤسَّسي لتجربة مشروع، ......إلخ ، ويكون بهذا نفع كبير يعود على أصحاب التجربة وعلى من استفاد منها، وكلما كبر العمل تأكدت ضرورة تدوينه لاسيما إذا صار مشروعاً تعاقبت عليه الأجيال.
أمَّا المضمون الذي أراه يستحق التدوين فيشمل:
ـ الفكرة الأولى للعمل وكيف بدأت.
ـ مراحل تطبيق الفكرة، وخطوات التنفيذ الأولى.
ـ جوانب قوة المشروع، وعوامل نجاحه.
ـ آثار انطلاق التنفيذ، ومدى التجاوب أو المعارضة.
ـ سلبيات العمل، وأسبابها.
ـ مقترحات لتحسين العمل وتطويره.
ـ أصداء التجارب مع المشروع.
* من أجل تدوين إبداعي وموضوعي:
ـ إن أردنا أن يكون تدويننا لتجاربنا يحلق في سماء الإبداع، ويقلع في سماء المعالي، فإنَّ من الجدير بنا أن نُعنَى بالكشف والبحث عن أصول تدوين التجارب، وإن كان هناك ثمة شيء موجود! فنبحث ونطالع التجارب المفيدة لمن كتب شيئاً من ذلك من المفكرون والتربويين وأهل الفكر والنهضة بحسب التخصصات التي نبحث عنها، من مذكرات وتقارير ومدونات سواء كانت من تدوين لبعض الأشخاص والأفراد؛ كتقارير كتبوها عن واقع لحياتهم الفكرية أو التربويَّة، أو كانت لمؤسسات.
ـ العناية بالكشف عن التجارب العمليَّة الفكرية والتربويَّة والتنمويَّة... الخ، على مر التاريخ.
ـ من مشكلات التدوين أنَّ بعض الناس يستعرضون الإنجازات ويلمِّعوها، ويغفلون أو يتغافلون عن السلبيات... والمفترض التأكيد على ضرورة الموضوعيَّة حين التدوين.
ـ التدوين ليس هدفه الحديث عن النفس إطراءً ومدحاً، ففي ذلك من المحاذير التي لا تخفى، لكنَّ المقصود الاستفادة من الخبرة!
ـ كم هو رائع جداً أن يكون هناك أوجه وآليات لتدوين هذه التجارب،وكيفيَّة تطبيقها في وسائل الإعلام المختلفة، لكي يسهل الوصول إليها، فاستغلال عالم التقنية الرحب الفسيح وعوالم الاتصال الثقافي لنشر تجاربنا نقطة ارتكاز، وضرورة احترافيَّة لنشر تجاربنا.
ـ بعض أصحاب التجارب يتحرَّجون من الكتابة لأنَّهم لا يجيدون فنونها، أو لا يحسنون عرضها، ومثل هؤلاء يُنصَحون بالكتابة، أمَّا النشر العام فله طرائقه التي لا تخفى من عرض المادَّة المكتوبة على بعض المحرِّرين، وترتيب موضوعاتها، وسبك كلامها، ومن ثمَّ النشر!
ـ إتاحة بعض المواقع الثقافية الفرصة لاستضافة المدونات الشخصيَّة.
وكل هذا يتطلب استعدادا من حيث ثقافة الكتابة أولاً، ثم ثقافة القراءة ثانياً، ثم ثقافة النشر والنقل للتجارب ثالثاً!
* دعوة لأهل التجارب:
ومن خلال ما ذكرته فإني أدعو من هذا المنبر؛ أن يقوم أهل الاختصاص بتدوين تجاربهم الفكرية والتربويَّة، كل في بلدته أو محلته، لعلَّنا نقع على تجارب رائدة قام بها بعض العاملين الناجحين في بلد ما أثمرت وأينعت ثمارها.
فمن المهم جداً ألاَّ يُحْرَمَ إخوانهم في شتَّى أصقاع الأرض من الاستفادة منها، وقد قال الإمام أبو حازم:(العقلُ التجارب)، وقال الشاعر:
اليوم شيء وغداً مثله *** من نخب العلم التي تلتقطْ
يُحَصِّلُ المرء بها حكمة *** وإنما السيل اجتماع النقطْ
فبتدوين التجارب الفكرية والتربويَّة وتوثيق إجراءاتها العمليَّة والميدانيَّة،ستجتمع لدينا صورة مشرقة من التجارب والأساليب الفكرية أو التربوية، وقد لا تكون مكتملة من جميع الجوانب لمانع ما أو ظرف محدد، فيأتي آخرون ويستفيدون من هذه التجربة ويضعون إضافاتهم ولبناتهم وبصماتهم الخيِّرة على هذه التجربة ويزيدونها بهاءً وجمالاً وعمقاً، ويستفيد الجيل تلو الجيل من هذه التجارب الخيرة المدونة، ويمضون في تدوين هذه التجارب، على حدِّ قول الشاعر:
قد هدانا السبيلَ من سبقونا *** وعلينا هداية الآتينا
وليت المفكرون والتربويين يتداولون الحديث في هذا الأمر ويتطارحونه بينهم مذاكرة وتعميماً فيفيد كل منهم الآخر بما رآه أو مارسه أو سمعه من تجارب خيِّرة!
ويا حبَّذا لو أسَّس بعض من يتحمَّس لهذه الفكرة من المفكرون والمربين الكرام موقعاً على الإنترنت يجمع هذه التجارب الفكرية، حتَّى يمكن للرواد وقادة التربية أن يستفيدوا من معينها العذب وموردها الصافي!
بقي أن أقول للمفكرين ونواة الخير وأساطين التربية: إنَّ الاهتمام بهذه القضية حاجة ماسَّة، وضرورة ملحَّة لأبناء أمتنا، تدعوكم ويحدوكم بها الحادي لكي تقوموا بكتابة هذه التجارب التي قمتم بها أو وقفتم عليها، ونقلها وجمعها في موقع محدَّد على الشبكة العنكبوتيَّة، لعله يفيد طالباً لعلم، أو يهدي حائراً، أو يبصر عشيّاً، فتنطلق ألسنتهم بالدعاء لمن كان سبباً في زيادة علمهم، وإثراء مواهبهم، ودليل هدايتهم، وبيان طريقهم، والموفَّق من وفقه الله. والله المستعان.
منقول