قصيدة الومضة في دراسة تنظيرية تطبيقية

القسم التنظيري لكتاب هايل الطالب وأديب حسن محمد كان أكثر فاعلية وجهداً كون القسم الثاني لم يكن إلا ترجمة تسطحت لصالح التنظير.

ميدل ايست أونلاين
قلم: محمد المطرود

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

تأتي قوة الدراسة التي نحن بصدد الكتابة عنها في الجرأة، التي حذت بالباحثين لولوج هذا الموضوع، الذي لم ينظَّر له أولا إلا بمحاولات خجولة، إذا تم استثناء كتيب علي الشرع "بنية القصيدة القصيرة في شعر أدو نيس" - بحسب الباحثين - كما ولم يطله التطبيق، ليشهد عافيته كشكل أدبي، بدأ يأخذ مكانه بين أشكال القصيدة الحديثة، القصيدة التي ارتبطت راهنيتها بتحولات تقنية ونفسية هائلة، عولمت العالم وجعلته مساحة من اليسير الاستحواذ على جغرافيتها، هذا التسارع التكنولوجي خلق تسارعا حياتياً أيضاً، وأصبح بنظر الكثيرين كتابة نص طويل مضيعة لوقت للمنتج، وبالتالي للمتلقي أيضاً، الذي صار ينحو وإلى وجبات سريعة، تحقق له شبعا و إن مؤقتا، ومن تراجم مؤلفي الكتاب سنكون أمام ذائقتين متآزرتين، فالدكتور هايل الطالب أكاديمي، أما الدكتور أديب حسن محمد شاعر وطبيب، ما يعني أن توليفة ما ستنتج، ستصب لصالح العمل بكليته، إذ أن الرصانة الأكاديمية، ستنسحب قليلاً عن جفوها وصرامتها خاصة في التطبيق، لتطل الذائقة المهذبة الشاعرة، والتي سترد كل أمر إلى ما هو كوني ومحايث، ويمكن تأويله خارج غطرسة الأداة النقدية والتي لاتكيل بمكيالين.

وبما أن المنحى العام ذهب إلى تأخير التنظير عن التطبيق للوصول إلى ما يؤطر هذا الشكل على الأقل باعتباره الأكثر رواجا كنص والأقل درسا نقدياً على أن هذا الإخلاص، لم يصل إلى مستوى الإدعاء بوضع خصائص ونقاط ارتكاز لكتابة الومضة وهذا بالطبع ما لا ينسجم وحالة الشعر عموماً وهذا بالضبط ما يدركه مؤلفا "قصيدة الموضة دراسة تنظيرية وتطبيقية"، وعملا عليه كمنهج يخدم التصور الذي بنيا عليه الدراسة، وإذا حسبنا لهما جرأتهما في الكتابة عن شكل لم تتوفر له المراجع الكافية، والعمل فيه هو حرث جديد إلى حد كبير، أمكننا إضافة مظهر آخر، يثير الإعجاب ويثمنها ألا وهو التعويل على التجارب الجديدة في المشهد الشعري بجيرتها وأسماء أخرى كبيرة ومهمة، كدلالة واضحة أن العمل هذا لا يريد خطب ود أحد محقق الحضور، أو كرس ليكون كذلك، تماشيا مع فعل الحياة نفسه وصيرورته غير المتوقفة عند الأشخاص أو تجاربهم.

وبما أن الحياة تستمر وخاصة بوتيرتها العالية التي نشهدها اليوم، فإن النص أيضاً يسير خالقاً ملاذاته بتجريبه واشتباكاته واستفاداته من تميع التجنيس لصالح انفتاح قوي على النزعة الفردية ونقصد الوجدانية (الذات) كلغة وتشابكات نفسية معقدة لا تخلص للموضوع بقدر ما تخلص لفضاء يتشكل في اللغة المستندة أساساً على تراكمات وتخمرات ثقافية.


يمكنني القول إن الآنف هو مقاربة أولية للتمهيد، أعني توطئة الكتاب، ولغته في توصيف ما تذهب إليه الدراسة، ومن ثم الإفادة عند وضع المتلقي نصب العين، إذا عرفنا أن هناك ما يتشاكل مع كلامي تحت مسمى واضح: جماليات التلقي وشروطه، لإنتاج قراءة متمايزة، إذ أن أي فعل سيكون مبتوراً ما لم يكن رد الفعل حاضراً، واكتمال العلاقة الجدلية بين المنتج المبدع والمتلقي المبدع هو الآخر، فالقارئ هنا ليس قارئاً عادياً، هو بصدد نص مكثف ولماح يرمي إلى ما هو أبعد من الذي يطوق بمفردات قليلة ومقننة، وبالتالي فإن الدراسة في قسمها الأول أرادت تبيان رؤية محددة لقصيدة الومضة والتي لا بد وأنها تختلف عن النص الطويل وحتى ذلك الذي تخلص من أوزان الفراهيدي، وسمي بقصيدة النثر مختلفاً مع العمارة الشعرية القديمة المعتمدة على الإيقاع والغنائية وشحن كل بيت بمعنى مع عدم إيلاء الوحدة الموضوعية كبير اهتمام، وهذا ما أدركته القصيدة الحديثة عندما راحت إلى مواضيع وجدانية وكونية تخلقها اللغة لا المحتوى أو المضمون بعينه، هذا يمكن قراءته في القسم الأول من الكتاب تحت عنوان: الخصائص الفنية والتواصلية لقصيدة الومضة، بالطبع سنعرف أن هذه الخصائص والقيم الفنية لن تخص الومضة فقط بل بالتأكيد ستنطبق على فعل القراءة المتحقق في كثير من الأجناس الأدبية، وفي قدرة التلقي لقارئ مفترض تحدد ذائقته مستويات عدة لقراءة واحدة ولعنوان واحد.

يولي الباحثان أهمية عظمى للعنوان كخاصية فنية خلافاً للقصيدة العربية الكلاسيكية والتي لم تعتمد على العنوان كمحفز وموثب للذائقة، معتمدة على الموضوع والمباشرة في التعريف بالقصيدة ومضمونها لذلك سميَّ بعضها بتأريخيتها لحدث ما أوسميت بقافيتها أو كما هو جلي مع المعلقات التي لم تأخذ عناوين لكنها حملت أسماء شعرائها، فإن الومضة ابتكرت أنماطا وبنى ارتكزت عليها العناوين لتكون صادمة وقد تصل إلى الدرجة التي تقول فيها الكثير، والكثير الذي يصل إلى مستوى التوازي مع المتن، وإن يمر معنا في الكتاب قول: إستراتيجية التكثيف فإني أقول إستراتيجية العنوان، ومنه المنجز أو التفسيري والعنوان الإنزياحي (المتمنع) والسريالي الغرائبي والمقتطع والعنوان الأبيض أو اللاعنوان وكل ذلك كما أسلفنا توافقا مع الباحثين من أجل خلق إستراتيجية التكثيف المتساوقة أساسا مع قصيدة الومضة التي سعت إلى الإيجاز والاقتصاد في اللغة على حساب الرومانسية والاسترسال السردي.

يقول أدونيس: عش ألقا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض.

"من الواضح أن هذا المقتصد أدونيس أستطاع أن يزيد سعة الأرض بتوسيعه الرؤيا وتضييقه العبارة انسجاما مع "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" بالتعويل على التكثيف والذهاب إلى اكتشاف طاقة المفردة، بحيث يتم التخلص من الزائف والعرضي وبناء لغة صحيحة باستخدام ما ترمي إليه الألفاظ بجوهريتها لا بظاهريتها، من خلال تقنيات التضاد والتوازي الذي يعرِّفه الكتاب: هو الترابط بين الثابت والمتحول أو بمعنى آخر ترتيب البنى التركيبية على مستويات (إيقاعي عروضي - صوتي - صرفي تركيبي - دلالي معجمي) للوصول إلى مغامرة المعنى في أقصى حدودها. "وهذا يعني أن مؤدى المعنى سوف يؤدي معنى التجربة الواحدة مع كثرة المتلقين، وبامتلاك الأدوات الفاعلة والمدركة لحدود التمنع يستطيع الشاعر إلقاء حجر فكرته في بحيرة المعنى". وحَسْبُ أي عمل تحريك الراكد وإثارة المخبوء، ليحقق فعله الذي وجد من أجله.

مواضيع الكتاب كثيرة ومثيرة تستحق التعالق معها فمن النزعة التشكيلية إلى الغموض والتمنع وبرأي الفكرة هذه وغيرها لاتخص الومضة فحسب وإنما هي ركيزة أساس للقصيدة الحديثة عموماً، فالتمنع وتطلب مستويات قراءة محددة نسميها مستويات التلقي هي ظاهرة لا بد من تحققها لاكتمال الفعل الإبداعي، وإن تركيز الشاعر وتكثيفه لجملته الشعرية لا يعني بحال من الأحوال البحث عن قارئ مفترض، ومحدد لتكون مهمته التفسير والشرح، وإنما هي الحالة والتجربة اللتان لا بد وتوجدان قواسم مشتركة قرائية، تاويلية، وإن اختلف البعض في كنهها لم يختلفوا حول ما ترمي إليه في النهاية وهذا ما استدركه الكاتبان في جماليات التلقي في القصيدة الومضة تحت عنوان فرعي (الشعر والتلقي) بردهما مشكلة الشعر وتفاقمها إلى صعود تيار الحداثة الذي أشكل القارئ بتهجينه لنصوص مختلفة استفادة من أجناس الأدب من بعضها، مع نزوح الحركة النقدية عن المواكبة، ماخلق نمطية سلبية في تلقي القارئ العربي وصلت إلى حد القطيعة وأزيد إلى التخوين والارتباط بأعداء وهميين، لم يكونوا أبداً هم الأعداء الذين تعرفناهم أيديولوجيا.


ومن المنطلق هذا نجد الكاتبين يبحثان عن خصوصيات تلقي لا بد من توفرها ليتمكن المنتج الإبداعي من رد القارئ المهزوم إلى خانته ومنها "القصر الشديد - الإيقاع المتكرر- الإدهاش وإثارة الفضول - الومضة الشفوية ونبض الشارع" على أن رأيي هو تحقيق القصيدة الومضة لهذا الخصائص من غير الإدهاش كونها تسعى ومن باب استسهالها إلى حشد مفردات مستهلكة ومتناولة وتوظف بمباشرة مقيته دون شحن الجملة بطاقة تعبيرية شعرية مخفية مفاتنها، بحيث تأتي الومضة صورة مباشرة عن الشارع تصويراً وليس تساوقاً مع نبضه، سيكون فعلا ناقصا لامحالة.

ينتهي القسم الأول بـ "الفاعلية والتأثير في القصيدة الومضة" فالقصيدة كما يذكر الكتاب "تمكنت من تحقيق الوظيفة الجوهرية للشعر عن طريق أسلوبين مهمين" الأول: الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة تلك التي لا يعول عليها ما إذا لم تكن شاعرية، أو التي يعاد بالومضة إعادة إنتاجها لتكون مناسبة أكثر ومفيدة ومتعالقة مع روح قارئ ما، الأسلوب الثاني هو عمل الومضة داخل اللغة وإحداث علاقات جديدة بين المفردات تختلف عن العلاقات المنطقية وتتجاور مع تلك التي تترسم الاختلاف وبوسائل عدة من الحذف والإفراغ إلى البياض إلى المتضادات إلى سواه.

في القسم الثاني من الكتاب يعنى الباحثان بالتطبيق وإلزام قصيدة الومضة بمنهج يحدد خط سيرها، ليس تحديداً بالمعنى الحرفي للكلمة وإنما باختيارهما نماذج حية لقصائد شعراء اختلفت تجاربهم وأجيالهم وحتى وضوح بعضهم ظهوراً أو انكفاء بعضهم على أماكن محددة وفقيرة إعلامياً وقد يكون هذا جوهر الشجاعة التي ذكرناها في الباحثين وفي مقدمة مقالتنا عن كتابهما الموسوم بـ "القصيدة الومضة - دراسة تنظيرية تطبيقية"، وتحت عنوان قصيدة البداهة التي تشبهنا "الومضة عند رياص الصالح الحسين" باعتبار الحسين أحد الذين ترسموا الطريق الماغوطي وأخذوا يميلون إلى القصيدة الشفوية والتي كانت نوعا من المثاقفة مع قصيدة ترعرعت على يد الشاعر الفرنسي جاك بريفير، ليتأثر بها شعراء عرب يذكر الكتاب: علي ناصر وأورخان ميسر ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وفيما بعد رياض الصالح الحسين ومنذر المصري.

ويطبق الكاتبان منهجهما النقدي على مجموعة "وعل في الغابة" على أن نرى أن التطبيق هنا هو ترجمة للتنظير الذي تقدم الكتاب شمل العنوان الثاني سعدية مفرح البداهة الأنثوية في مجموعتها "آخر الحالمين كان"، ومن ثم أحمد الزهراني وبداهة الاحتجاج اليومي بمخالفته للسائد الخليجي خصوصاً ذلك السائد المتجه في أغلبه إلى الإيقاع الفاقع، وإن قلنا ومن المقدمة بقدرة التجاور بين أسماء مكرسة وأخرى مهمشة إلى حد ما سنقرأ عن الومضة والمشهدية عند جوزف حرب والاحتفاء بالطبيعة والأنوثة والموت والمفارقة ومركزية القافية الدلالية وقبل الانتقال إلى قصيدة الومضة عند الجيل الجديد وهو ما تعارف على تسميته بجيل التسعينيات الشعري يتحدث الباحثان عن القصيدة خارج بيت الطاعة، "الملاك الشهواني لأسعد الجبوري أنموذجاً".

في المنحى الأخير تحضر أسماء كثيرة وتحت عناوين يمكن الاشتغال عليها بعمق أكبر لو أن دراسة هذه العناوين ولاسيما نحن بصدد التطبيق كان تم باختيارات مقنننة وواضحة في شغلها وبما يتناسب وتلك العنوانات المهمة والحاملة لهاجس نقدي كبير، فإني أقول إن القسم التنظيري كان أكثر فاعلية وجهداً كون القسم الثاني لم يكن إلا ترجمة يمكن القول إنها تسطحت لصالح التنظير الذي تم، فاللغة في الأول أكثر ارتياداً للموضوع المشتغل عليه بحيث جاء القسم الثاني وكأنه باسمه "التطبيق" هو توسيع في الكتاب وليس في الرؤية النقدية، وكان يمكن للباحثين تلافي هذا الخلط لو أنهما لم يقوما بهذا التقسيم وتركا موضوعهما بتداخله إذ كنا والحالة هذه أمام نص يتم فيه تداخل التنظير بالتطبيق، وهذا ممكن في كتابنا هذا وأكثر ضبطاً وفائدة للمقولة النقدية التي أرادا إيصالها.


بناءً على ما سبق،
أيّ تغيير يُتوقع أن تحدثه "قصيدة الومضة" على منحى الشعر بشكل عام وما حجمه..؟
وهل يمكن أن تكون وسيلة لدخول أمواج من "الهواة" ليُصبحوا شعراء عظماء..؟!!!
وما مدى تقبّل الشّعراء لهذه الدراسة الجديدة..؟