..بقلم: إبراهيم السكران..
الحمدلله وبعد،،
حادثةٌ حكاها لي مرةً أحد الأقارب قبل زهاء خمس عشرة سنة .. كان يتحدث لي بشكل عرضي لم يلقِ هو بالاً وهو يتحدث .. لكن قصته تلك لازالت تتناوب على ذهني بين فينة وأخرى .. قريبي هذا يسكن قرية محدودبة في عالية نجد، ويروي لي أنه في الأيام العليلة من السنة يغلق أجهزة التكييف وينام قريباً من النافذة.. ويعلم عن دخول الثلث الأخير من الليل عبر صوت أحد الكهول في القرية يدخل المسجد مع الهزيع الأخير من الليل، وفي فناء المسجد يفترش طرفاً من السجادة الطويلة ويبدأ يرتل القرآن في صلاته بطريقة كبار السن المعهودة .. وهذه عادته كل ليلة..
منذ حكى لي قريبي تلك القصة وأنا أتحين ذلك الكهل لأرى صلاته الشفافة.. ياليتك تراه وهو يقبض لحيته بين حين وآخر.. ثم يسترسل في قراءته.. لقد كاد يأخذ بأنحاء قلبي ..
قراءته تلك ليست بتجويد مصقول.. ولا حتى بصوت أنيق.. ولكنها -و الله- فيها صدق ويقين أحس أن حوله هالة نور وهو يقرأ ويرتل..
صحيح أن القرآن بعامة يحمل طاقة تأثيرية تخلب لب المستمع .. ولكن هناك أمرٌ إضافي صرت ألمسه أخيراً .. وهو أن القرآن إذا خيم سكون الليل يكون عالماً آخر.. ثمة قدر إضافي في جلال القرآن لحظة سكون الليل..
ذلك الكهل القرآني .. توفي قبل سنيات قلائل رحمه الله رحمة واسعة .. ولكن مالذي بعث قصته من مرقدها في ذهني؟ الحقيقة أن الذي أيقظ هذه القصة القديمة قصة مماثلة مرّت بي وأنا أتصفح صحيح البخاري .. وأنا واثق أنك منذ أن تقرأ هذه القصة في البخاري فلن تخطئ عينك وجه العلاقة ..
فقد ورى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم – أنه قال (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) [البخاري4232]
لاحظ كيف لم ير النبي منازلهم بالنهار .. ثم استطاع أن يحدد موقعها لما خيم الليل بسبب مابدأ يتسرب منها من حنين المرتلين.. إنها "منازل الأشعريين" ..
يا ألله .. بالله عليك ألا تلمس في كلمات رسول الله حرارة الإعجاب لذلك الترتيل الذي يتهادى من منازلهم بالليل ؟! واضح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخبر عن مجرد سماعه مصادفة لتلاوتهم الليلية .. بل تكاد تتحسس كيف كان مأخوذاً بذلك الصوت القرآني لدرجة تعيين موقعه في الليل، ثم الإخبار بذلك نهاراً..
هكذا يكشف مشاعره صلى الله عليه وسلم: (وأعرف منازل الأشعريين من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)..
هل تصدق أنني شعرت بحب جارف لأولئك الأشعريين الذين كانت أصواتهم بالقرآن بالليل تستثير مكامن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بل لقد دفعني ذلك الحب أن أبحث عن شئ من أخبارهم في كتب التراجم والسير.. صحيح أنني وجدت لهم بعض الفضائل، لكنها لم تشفِ نفسي إلى الآن عن خبرهم، وخبر ليلهم الذي كانوا يسهرونه مع كتاب الله .. فاللهم ارض عن الأشعريين..
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسمع القرآن بالنهار قطعاً، فلماذا جذبته قراءة الأشعريين وصار يتلفت إلى منازلهم إذن؟ لا أدري .. لكنني أميل إلى أنها أسرار القرآن بالليل .. فآيات القرآن إذا هبطت غيوم المساء صارت تتدفق بروحانية خاصة..
انبعاث صوت القارئ بالقرآن بين أمواج الليل الساكن قصة تنحني لها النفوس..
وقد مرت بي شواهد أخرى لاحظت فيها هذا الحنين النبوي لصوت القرآن بالليل.. ففي صحيح الإمام مسلم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال مرة لأبي موسى (لو رأيتنى وأنا أستمع لقراءتك البارحة) [مسلم 1887].
يبدو أن رسول الله –صل الله عليه وسلم- لايملك نفسه حين يسمع قارئاً يقرأ القرآن وسط ظلام الليل.. حتى أنه إذا أصبح أخبر أصحابه بتلك القراءات القرآنية الليلية..
وقوله "لو رأيتني وأنا أستمع" يدل على أن النبي أعار الأمر اهتمامه.. وأخذ ينصت.. تذكر معي هاهنا أن رسول الله يحفظ القرآن بإحفاظ الله له.. ومع ذلك ينصت لمصدر الصوت بالقرآن مهتماً .. ثم يخبر أصحابه بعد ذلك..
لماذا؟ إنها أسرار روحانية القرآن حين تستحوذ على سكون الليل البهيم..
ليس البشر فقط .. بل حتى الملائكة خرجت عن استتارها يوماً حين انبعث صوت الصحابي بالقرآن .. ففي صحيح البخاري عن أسيد بن حضير قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال رسول الله "وتدري ما ذاك؟" قال: لا قال رسول الله "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" ) [البخاري5018].
كلما سمعت قارئاً يتلوا شيئاً من سورة البقرة .. ومرت بي بعض المواضع المثيرة للعقل البشري.. وفي البقرة مواضع تهز النفوس هزاً أعظمها آية الكرسي التي كلها في أوصاف الجلال الإلهية، وقصة تقلب وجه الرسول في السماء تهفو نفسه لتغيير القبلة، وقصة ابتلاء ابراهيم الخليل بالكلمات وإمامته في الدين، وقصة الملأ من بني اسرائيل الذين طلبوا القتال ثم أخذوا يتساقطون على مراحل، ومواضع عجيبة أخرى.. والمراد أنني كلما سمعت قارئاً يتلوا شيئاً من البقرة تذكرت تنزل الملائكة بأنوارهم حين أخذ أسيد بن الحضير يرتل البقرة وسط جنح الظلام..
لماذا تنزلت الملائكة كأنها المصابيح تتلألأ وخرجت عن استتارها؟ إنها عجائب كتاب الله حين يهيمن فوق سكون الليل..
بل تأمل في خبر أعجب من ذلك كله، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحث أصحابه بشتى الطرق -المباشرة وغير المباشرة- على تلاوة القرآن بالليل.. كان رسول الله يبعث رسائل ضمنية أثناء تحدثه مع أصحابه تغرس فيهم مركزية تلاوة القرآن إذا لفّ المساءُ المدينة..
ومن تلك القصص أنه ذُكِر مرة في مجلس النبي الصحابي الجليل "شريح الحضرمي" فأثنى النبي –صلى الله عليه وسلم- عليه بطريقة ليس من الصعب بتاتاً فهم الرسالة الضمنية فيها .. فقد روى النسائي وغيره بسند صحيح أن (شريحاً الحضرمي ذُكِر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله "ذاك رجل لا يتوسد القرآن" ) [النسائي3/256]
دعني أعترف لك أولاً أنني حين قرأت هذا الحديث أول مرة لم يستبن لي وجهه؟ مامعنى "لا يتوسد القرآن"؟ وهل هناك أحد أصلاً يجعل القرآن وسادة لاسمح الله؟ وإذا بالمعنى أنه لاينام بالليل ويترك حزبه من القرآن، لكن البلاغة النبوية العظيمة صورت من ينام عن القرآن كأنه اتخذ القرآن وسادة!
والنص له وجهان، إما أن يكون الرسول يمدح من لا يتوسد القرآن، أو يذم من يتوسد القرآن، ورجح ابن الجوزي في غريبه والسندي في حاشيته الوجه الأول، وعلى كلا التقديرين فالحاصل هو تنبيه الرسول بطريقة بلاغية مثيرة على مكانة تلاوة القرآن بالليل..
إذا كان النوم عن القرآن شبهه الرسول باتخاذه "وسادة"، فيبدو أن وسائدنا تهتكت من كثرة النوم عليها! فاللهم ارحم الحال ولا تجعلنا ممن يتوسد القرآن..
وفي كتاب الله إشارات إلى ذلك الجمال الأخاذ لقراءة الوحي بالليل .. منها أن الله تعالى أثنى مرة على قوم بذلك .. فقال تعالى في وصفهم (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) [آل عمران113].
هل تستطيع أن تمنع الشجوى حين تتخيل هؤلاء القوم الذين أحب الله فيهم التغني بآيات الوحي إذا أوى الناس إلى فرشهم؟ الله جل جلاله يثمن منهم هذا الموقف ويخلده في كتابه العظيم..
أخذت مرة أتأمل مثل هذه الأخبار القرآنية النبوية عن جلال القرآن في الليل.. وأخذت أتساءل: ماسبب ذلك ياترى؟ هل هناك تفسير علمي لذلك؟ لم أصل لنتيجة حاسمة، لكن بدت لي بعض الإشارات في كتاب الله..
فقد أشار القرآن في غير موضع إلى كون الليل موضع للسكن كما قال تعالى (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) [الأنعام 96]، وقال تعالى (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل 86] .. ففي أصل التكوين البشري يحتاج الإنسان إلى السكينة بالليل.. وتكون النفس مهيأة بما يعتريها من هذا الهدوء..
والوحي الإلهي من أعظم أسباب السكينة.. ومن هذا الباب كانت أحد الوجوه في تفسير مافي التابوت في قوله تعالى (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) .. ولذلك فإن المعرض عن القرآن يصاب بالآلام النفسية كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه124] .. فالحياة الطيبة الحقيقية لاتكون إلا لأهل الإيمان كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل97]..
والمراد أن من تأمل لهفة النبي –صلى الله عليه وسلم- على القرآن بالليل حين قال (إني لأعرف منازل الأشعريين بالليل من أصواتهم بالقرآن) .. وحين قال لأبي موسى (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة) .. ومدح النبي لشريح الحضرمي بأنه (رجل لايتوسد القرآن) .. وتنزل الملائكة كأنها المصابيح حين أخذ أسيد بن حضير يرتل سورة البقرة بالليل .. ومدح الله لأولئك القوم بأنهم (أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل) .. الخ من تأمل ذلك كله .. فهل سيبقى ليله يتصرم في سهرات ترفيهية مع الأصدقاء، أو تصفح الترهات الفكرية ومقاطع اليوتيوب على شبكة الانترنت ؟! هاهو العمر يمضي والناس من حولنا لايمضي أسبوع إلا ويقال "أحسن الله عزاءك في فلان" .. فهل ياترى سيفنى العمر هكذا في الفضول والترفيه ونحن لم نتذوق حلاوة كتاب الله آناء الليل؟
أبو عمر
رجب1431
المفضلات