المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.عمر خلوف
أعلنتُ أكثر من مرة أن للخليل منهجاً محكماً في عروضه، صحيحاً في ذاته، ولكنه منهج يخص الخليلَ وحده، وليس من الضروري الإيمان بكل ما جاء فيه.
ويكفي الخليل رحمه الله، والأمة التي خُلق فيها، أنه بنى ذلك الكيان المبهر، والذي أصبح مَعْلَماً من معالم التراث العربي الخالد، مع كفايته لتأصيل البُنَى الإيقاعية للشعر العربي حتى عصره.
ما يخصني منه هو الدراسة والبحث في مقتضاه، بياناً لموافقته للواقع، أو ابتعاده عنه. وهو ما اتبعته في دراستي للمناهج الأخرى كمنهج العياشي ومستجير، وقبلهما الزمخشري والقرطاجني..
وأنا فيما أكتبه، وأومن به، أسترق الضوء من مشكاة الخليل، وأقتفي أثره، وأنهج طريقه اللاحب. ولم يكن من همّي قطّ أن أتجاوز الخليل، ولم أدَّعِ ذلك، وإنْ تمنّيته!
ما جاء به الخليل شيءٌ يصعب تجاوزه أو استبداله.
ولقد آمن أخي خشان بكل ما جاء عن الخليل في منهجه، فجعله ممثلاً للذائقة الشعرية العربية، لا يجوز الخروج عليه بشكل من الأشكال، لأن الخروج عليه هدم لتلك الذائقة.
ولم أومن أنا بكل ما جاء عن الخليل في منهجه، لإيماني بأن في كل أعمال البشر شيءٌ من القصور، وأنّ فيها ثغرات تقبل النقد وإعادة النظر فيها، وعليه رفضتُ بعض نتائجه.
وما نختلف فيه مع الخليل لا يتعدّى بعضَ الجزئيات، التي فرضَتْها صنعة الدوائر الفاتنة كما نرى. ومع ذلك فهي جزئيات خطيرة للغاية، أخلّت ببعض جوانب النظرية، التي نجح الخليل في إحكامها، ولكنه خنقَ في دوائرها أوزان الشعر القابلة للتجديد، وأسَرَ بها أوزاناً حرّة لا تقبل ذلّ الأسر في دائرة، وفرضَتْ على أوزان أخرى آباء عقيمة لا تنجب أصلاً.
والمناهج المعتبرة -مهما بلغت من النضج والإحكام- يجب أن تكون عرضة للنقد، قبولاً أو مخالفة.
فإذا خالف النقد جزئية من ذلك المنهج، فلا يعني ذلك مخالفةً لمنهج الخليل بالكلية. والنقد الموجّه إلى أي منهج لا يعني إنتاج منهج بديل، ولكنه قد يستثير الشهية لتعديله أو بناء منهج سواه.
ومنهج الخليل كما بدا لي ويبدو لِجلّ العروضيين بعد الخليل أيسر بكثير مما يُحاول أستاذنا بيانه والتأكيد عليه.
وفي ظنّي أن الأستاذ خشان قد تَجاوز الخليل بمراحل لم يفكّر الخليل فيها، ولا أراها خطرت على باله، ومع ذلك يُصِرّ أستاذنا الحبيب بتواضعه المعروف على نسبتها للخليل.. وهذا عشقٌ عجيب وصل إلى درجة الذوبان ونكران الذات.
ولو فكّر الأستاذ خشان بنفسه قليلاً، وحاول أن يتخطّى ما انتُقِد به منهج الخليل، وبَنَى على ذلك منهجاً معدّلاً ينسبه لنفسه لكان ذلك أجدى في نظري.
1.- شكرا لك أخي وأستاذي الكريم على ما تثيره لدي من تأمل وتفكير لا أزداد بهما إلا اقتناعا بمنهج الخليل، وانحيازا له فيما اختلف الآخرون فيه معه، باستثناء حالة وحيدة انحزت فيها لرأي د. مصطفى حركات وهو يؤكد صحة الوتد المفروق كما ذكره الخليل ويضيف إليه أن والسبب الذي يليه لا يزاحف في واقع الشعر.
أقول لهذا لأبين أن اقتناعي بمنهج الخليل ليس انحيازا عن غير وعي أو تمحيص أو دراسة لرأي مخالفيه. فكأن هذا هو الاستئثناء الذي يؤكد القاعدة، وهو كما ترى يتعلق بالسبب الذي يلي الوتد المفروق.
**
2.- يقول الأستاذ إبراهيم الوافي آخذا على الخليل أنه جاء بالعروض موافقا ما هو قائم موجود من الشعر
:" لكن السؤال الجدير بالطرح هنا.. ما هو الدافع وراء وجود هذه النظرية.. طالما جاءت تطبيقاً على ما هو موجود..؟"
وفي هذا القول ظلم بالغ للخليل، فكأنه حتى يرضى عنه أستاذنا الوافي كان يجب أن يجيء بعروض لشعر غير موجود. وهو بذلك يطلب من الخليل ما لا يطلب من اي من علماء الفيزياء أو الكيمياء ، فالمناهج العلمية جميعا تعالج ما هو موجود.
وأنت أخي واستاذي الحبيب تظلم الخليل كما ظلمه الوافي بقولك :
أعلنتُ أكثر من مرة أن للخليل منهجاً محكماً في عروضه، صحيحاً في ذاته، ولكنه منهج يخص الخليلَ وحده، وليس من الضروري الإيمان بكل ما جاء فيه.
كل مناهج العلماء ونظرياتهم يُحكم عليها بصحتها واتساقها في ذاتها، ويأخذون الآخرون بها بهذا المقياس، ولم يقل أحد عن نظرية أو منهج أي عالم في أي علم من العلوم إنه :" منهجٌ محكمٌ صحيحٌ في ذاته، ولكنه منهج يخص ذلك العالِم وحده، وليس من الضروري الإيمان بكل ما جاء فيه " فلماذا يقال عن منهج الخليل دون سواه من العلماء؟ وما الذي كان يفترض في الخليل غير إحكام منهجه أن يفعله لكي تأخذ به ؟
**
3.- قولك :" ويكفي الخليل رحمه الله، والأمة التي خُلق فيها، أنه بنى ذلك الكيان المبهر، والذي أصبح مَعْلَماً من معالم التراث العربي الخالد، مع كفايته لتأصيل البُنَى الإيقاعية للشعر العربي حتى عصره."
حتى عصره ، حتى عصره ، حتى عصره !!!
مع الزمن واختلاط العرب بسواهم فإن سليقة الأمة قد فسدت ووضعت القواميس والنحو والعروض لصيانة السليقة من ذلك الفساد.
نعم أستاذي ومما قرأته :" جعلوا منتصف المئة الثانية للهجرة حداً للذين يصح الاستشهاد بشعرهم من الحضريين؛ فإبراهيم بن هرمة المتوفى سنة (150هـ) آخر من يصح الاستشهاد بشعرهم، وبشار بن برد أول الشعراء المحدثين الذين لا يحتج بشعرهم على متن اللغة وقواعدها. وعلى هذا يؤتى بشعر المتأخرين من فحول الشعراء للاستئناس والتمثيل لا للاحتجاج.
أما في البادية فقد امتد الاستشهاد بكلام العرب المنقطعين فيها حتى منتصف المئة الرابعة للهجرة."
فما رأي أستاذي ؟ وهل يقتصر هذا على النحو أم يشمل معه العروض ؟
على أن كل ما طمحت إليه أن ما استجد خارج منهج الخليل ( بدوائرة وقواعده ومجتزءاته القبلية والبعدية ) يسمى موزونا أو ينسب لأصله حفاظا على مرجعية الخليل. ومن ذلك الدوبيت فهو فارسي.
يقول صاحب الغامزة على قضايا الرامزة ( ص – 17):" وأما الشعر فقال الخليل: هو ما وافق أوزان العرب، ومقتضاه أنه لا يسمى شعراً ما خرج عن أوزانهم"
ويقول د. محمد الطويل في كتابه ( في عروض الشعر العربي – ص 8) :" ...والخليل بعمله هذا لم يترك شاردة ولا واردة لمن بعده، ولم نجد من يقول إن هناك شعرا لا يندرج تحت اوزان الخليل، أو أن هناك أوزانا جديدة لم يكتشفها الخليل، اللهم إلا ما استحدث زمن العباسيين من اوزان مهملة لم يكتب لها البقاء وأحس الناس بنبو في موسيقاها، وظل هذاالعلم هكذا كاملا غير منقوص يتدارسه الخلف عن السلف وإن كنا وجدنا من يقول [ كمال ـأبو ديب – البنية الإيقاعية ص – 447] : ( لقد كشف البحث المتقصي أن عمل الخليل ذو طبيعة تعميمة، ويتخذ الاستقراء النسبي مركز لتطوره، وينتفي نتيجة كون عمله حصرا مطلقا لجسد الشعر العرري كله .... فالخليل لم يستقرئ الشعر العربي كله من جهة، ولم يحصر كل ما فيه بقانون من جهة أخرى .... إذ ظهر أن ثمة قصائد عربية لم يستطع الخليل وصفها، وتحديد نظامها الإيقاعي ، وهذه حقيقة معروفة للباحث الجاد. )
وهذه التسرعات لا تلبث أمام الباحث الجاد، إن هي إلا أوهام وخيالات لا حقيقة لها إلا في ذهن اصحابها، وما اشد ضيق هذه الأذهان "
**
4- ولم أومن أنا بكل ما جاء عن الخليل في منهجه، لإيماني بأن في كل أعمال البشر شيءٌ من القصور، وأنّ فيها ثغرات تقبل النقد وإعادة النظر فيها،
إن جدول الضرب من أعمال البشر وليس فيه شيء من القصور
إن اكتشاف خصائص المربعات والدوائر والمثلثات من أعمال البشر وليس فيها شيء من القصور
ستقول شتان بين ذلك والعروض. وردي أن في إعجاز دقة عروض الخليل التي تعبر عن إعجاز روعة السليقة العربية انسجاما ودقة تكن عبقرية الخليل.
**
5- قولك :" وأنا فيما أكتبه، وأومن به، أسترق الضوء من مشكاة الخليل، وأقتفي أثره، وأنهج طريقه اللاحب. ولم يكن من همّي قطّ أن أتجاوز الخليل، ولم أدَّعِ ذلك، وإنْ تمنّيته!
ما جاء به الخليل شيءٌ يصعب تجاوزه أو استبداله."
ثم قولك بعد بضعة سطور :" ولم أومن أنا بكل ما جاء عن الخليل في منهجه، لإيماني بأن في كل أعمال البشر شيءٌ من القصور، وأنّ فيها ثغرات تقبل النقد وإعادة النظر فيها، وعليه رفضتُ بعض نتائجه."
أترى ما تحتهما خط منسجمين معا ؟ **
6- قولك :" وما نختلف فيه مع الخليل لا يتعدّى بعضَ الجزئيات، التي فرضَتْها صنعة الدوائر الفاتنة كما نرى "
من درس الرقمي يعرف أن منهج الخليل بلا دوائر كفلسطين بلا حيفا ويافا واللد والرملة والجليل والنقب . باختصار منهج الخليل بلا دوائر يمثل عروضا من نسج خيال متوهمه.
**
7- قولك :" ومع ذلك فهي جزئيات خطيرة للغاية، أخلّت ببعض جوانب النظرية، التي نجح الخليل في إحكامها،"
سأتناول جزئية واحدة هي الوزن ( مستفعلن فاعلن فاعلن )
هذا وزن عند الخليل توأم لمخلع البسيط ، وهو من نتاج دوائره وقواعده كما اشار أستاذنا سليمان ، فـ مستفعلن 2 2 3 في آخر مجزوء البسيط تأتي مستفعل 2 2 2 ثم يصيبها الخبن تارة ( متفعل 1 2 2 ) في المخلع و الطي تارة ( مستعل 2 1 2 ) في اللاحق لاحق الخليل في الحقيقة.
ثم تقول إنك ترفض هذا مع أنه منسجم مع منهج الخليل وتقول في موضع ما معناه (منهج الخليل لمن يأخذ به ) اي أنك هنا ترفض منهج الخليل هكذا وتأخذ وزنا مستقرا في منهج الخليل وتسبغ عليه مواصفات من عندك وتقول إنه بحر جديد اكتشفته . فبالله عليك ضع نفسك موضع المراقب المحايد واحكم على فولك .
ولعل حازما قبلك وقع فيما وقعت فيه إن كان قد تصور أنه اكتشف بحرا جديدا يمثله البيت ( فسر بود أو سر بكره ) = مستفعلن مفعولات مسْ = 4 3 6 3 . ووقعت في ذات الخطأ نازك الملائكة حين تصورت أن مستفعلاتن مستفعلاتن بحر جديد . ووقع في رفض هذا الوزن ابتداء د. أحمد مستجير. وكل ذلك مشروح مفصل في موضوع الرقمي قبس من نور الخليل.
المشكلة أنكم أيها السادة العروضيون قديما وحديثا لم تهتموا بفكر الخليل ولا شمولية منهجه واعتمدتم الحفظ والتجزيء وحكم الأذن دونما تعليله وهذا ممتاز وكاف في إقامة وزن الشعر ومعرفة الصحيح من المكسور. ولكنه لا يصلح يحال في مجال فهم المنهج و (علم العروض ) بل هو عائق هائل أمامه.
ستقول طول العصور لم يدرك هذا أحد ؟ حتى أتنيت أنت ؟
أقول وبكل ثقة وتواضع أني أتفق مع قول الأستاذ ميشيل أديب : " وأكثر ما يعيبكتب العروض القديمةوالحديثة، أنها، على الرغم من مظاهر العبقرية، التي لم يكشف الخليل عن أسرارها،لم تحاول تحليل العملية الذهنية لتي مكَّنت الخليل من بلوغ هذه القمَّةالرياضيةالتي لا تتأتَّى إلاَّ للأفذاذ."
وأضيف أن العروض الرقمي هو أول محاولة لاستكشاف هذه الشمولية المنهجية الفكرية الرياضية لدى الخليل.
**
8- الأستاذ كمال أبو ديب رفع منهج الخليل إلى السماء ثم نسفه
وأترك لك وللقارئ تقييم ما تفضلت به من مثل ذلك من مدح لمنهجه ثم ذم لدوائرة والإشارة إلى مخالفات فيه رأيتها جزئية خطيرة.
**
9- قولك :" وفي ظنّي أن الأستاذ خشان قد تَجاوز الخليل بمراحل لم يفكّر الخليل فيها، ولا أراها خطرت على باله، ومع ذلك يُصِرّ أستاذنا الحبيب بتواضعه المعروف على نسبتها للخليل.. وهذا عشقٌ عجيب وصل إلى درجة الذوبان ونكران الذات"
أشكرك أستاذي شكرا جزيلا
ليس أبسط من منهج الخليل، فأسس المناهج كلها بسيطة، وقد نظرت إلى حوارنا في طبعة كتابي الثانية فوجدته يقارب الأربعين صفحة ولا أبالغ إن قلت لك إن أغلبه يتعلق بخصائص ورود الأسباب الصوتية سبب سبب سبب 2 2 2 في الحشو والضرب وهو ما يتعلمه دارس الرقمي في سطرين أو ثلاثة، وإنما جاء التعقيد في الحوار لغياب قاعدة مشتركة بين المنهج واللامنهج. أرأيت بساطة الشهادتين وجدليات علم الكلام.
أما عن تجاوزي للخليل ففي واحدة وهي اكتشاف ميزات منهجه ودقته. أعطيك مثالا سيقدره أهل الرقمي دليلا على عبقرية منهج الخليل.
لو نظرت إلى دائرة ( ب – المختلف ) لوجدت أن المحور 1 واجب الزحاف في البسيط ومستحبه في الاعتماد في الطويل المحذوف عندما يبتدئ الطويل من بدايته الأولى على محور 8
لو نظرت إلى الطويل المحذوف إذ يبتدئ من المحور 3 وهذا موضع بدايته الممكنة الثانيه لوجدت وزنه = 3 2 3 2 2 3 2 3 2 [2] مع حذف ما بين القوسين وهو السبب الواقع على محور 5
لو قمت بحذف هذا المحور من وزن البسيط المبتدئ بالمحور 11 لوجدته
= 4 3 2 3 [2] 2 3 2 3 = مستفعلن فاعلن فاعلن فاعلن.
هل خطر ذلك ببال الخليل ، لا أظن فلم يكن [ بحر شوفي ] معروفا ولكن هذه روعة ودقة وإعجاز منهج الخليل التي يكشفها الرقمي.
وأنا في أمر هذا الوزن أقول إنه من مستساغ الموزون لا الشعر. ولا أقصد هنا
زياد ما ذاقا .........قيس ولا هما
فرأيي فيه من رأيك
ولكن أشير إلى البيت الآخر الذي ذكره د. مستجير
أحلم أن أشرب الشهد من ثغرها .... ولا مجال لجعله شطرين.
**
10 – تحسر ونصيحة
لم أتوصل إلى منهج الرقمي بهذه الصورة إلا بعد سنين طويلة من السير مع التفاعيل تارة لاستقاء الحقائق الجزئية ومخالفتها تارة في رفض ما تفرضه على الذهن من نمطية نجزيئية في التفكير.
ربما باستثناء د. محمد جمال صقر والأستاذ سليمان أبو ستة ود. محمد تقي جون علي والدكتورة [ قريبا] زكية فطاني، فإنه لم يستوعب معنى ومبدأ المنهج أحد من العروضيين العرب ناهيك عن أن يفقهوه. وغلبت على أكثرهم اللامبالاة وأحيانا السخرية، والحديث هنا عمن حاورتهم وراسلتهم وهم كثر .
لو لم يكن هناك بضع عشرات من أهل الرقمي يفهمون ويقدرون ما أقول ما جرؤت على التعبير بهذه الصراحة حتى لا أتهم بالخلط، ووجود العشرات الذين يعرفون حقيقة ما أقول يقلل من هذه وطأة هذه التهمة.
أنصح العروضيين العرب بفهم منهج الرقمي فلن يُفهم فكر الخليل ومنهجه حق فهمهما إلا من خلال الرقمي تحديدا.
لي من حلم أخي وسعة صدره وحبه وسمو خلقه ما أطمح معه إلى أن يغفر لي ما قد أكون تجاوزت ما لا ينبغي تجاوزه. ربما بفعل ضيق التلميذ بنفسه أن لم يستطع أن يتقل إلى أستاذه ثمرة ما تلقاه على يديه ومن كتبه.
وحفظك ربي ورعاك لتلميذك وأخيك .
المفضلات