http://hamrinnews.net/a/134702.html
بقلم: د-صادق السامرائي
الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم رياضيات قبل أن يُسخّر هذا العلم لقراءة الشعر العربي , وله باع طويل في وعيّ مفردات النغم وإيقاعاته , وبحسه الموسيقي ومنظاره الرياضي إخترع علم العروض الذي أحكم به ضوابط الشعر العربي , والتي مضت على سكته الأجيال حتى اليوم , وإن بُذِلت محاولات في العقود السبعة الماضية لزعزعة أركان عمارته الرياضية النغمية المتسامقة البنيان.
ومن المعروف أن الرياضيات لغة العلوم كافة , ولا يمكن لعلم أن يكون صاحب قدرة بقائية وتأثيرية ومادية إن لم يستند على الرياضيات , لأنها تضع له الضوابط والمعايير المتوافقة مع الحسابات الكونية المتحركة بمقدار دقيق وفق بوصلة حكيمة مُحكمة الإتجاهات.
وعندما تسعى أية قوة للضياع والغياب فأنها تنحى نحو التسيب والإنفلات , لأن في ذلك تتوفر طاقات الإتلاف الذاتي والموضوعي , وهذا القانون ينطبق على جميع الظواهر والسلوكيات , فلكي تقتل أية حالة حقق فيها سلوك الإنفلات , فأنها ستذوي وتموت.
ولهذا فأن أي موجود في الكون يكتسب صفة التواصل والبقاء عندما يكون معبّرا عن صيرورة منتظمة ذات قوانين ذاتية التوالد والثبات , وفيها ديناميكة التسرمد التي تعني الحفاظ على طاقاتها الذاتية وتجديدها والإستثمار فيها وفقا لإيقاعات مكانها وزمانها الدوّار.
وإنطلاقا من الوعي الرياضي والإدراك الكوني الحكيم , تمكن الفراهيدي من قراءة الشعر العربي بأبجديات رياضية ذات تفاعلات منضبطة ودقيقة , فأوجد البحور الشعرية وأرسى قواعد علم العروض.
والعجيب في أمر السلوك الشعري المعاصر أنه يحاول أن يهدم ما هو راسخ ودائب , بدلا من دراسته وتجديده وتحقيق الإضافات المعاصرة ذات القيمة المعرفية والإبداعية الأصيلة , والكفيلة بإنجاب الروائع من رحم الفيض الرياضي الذي أطلقه الفراهيدي.
ويبدو من تتبع آليات تفكير الفراهيدي أنه يرى الشعر علما مثل غيره من العلوم , ويتميز عنها بأنه يمتلك شروطا نغمية وإيقاعات موسيقية , أو أنه الموسيقى المعبّر عنها بالكلمات المعبأة بالأفكار والمشاعر والتصورات وغيرها من بدائع الخيالات.
وعلم الشعر هو الذي أقنعه بضرورة تطبيق علوم الرياضيات في دراسته وفهمه , ولهذا تبين له أن البيت الشعري ما هو إلا معادلة ذات شقين متوازنين , وما يتفاعل في شطريه تتحكم به موازين نغمية , أرست دعائم تكراره وإستيعابه لما يراد قوله وتوصيله ونحته في قوام رياضي , لا يختلف عن أية معادلة رياضية أو جبرية.
فالساعون إلى تحطيم معادلات الشعر الفراهيدية , " كناطح صخرة يوما ليوهنها...فلم يضرها فأوهى قرنه الوعل" , أو كالهائم في الرمضاء ويحسب السرابَ ماءً , فالباقيات محكمات بقوانين رياضية , ولا يمكن لحي أن يبقى إذا إختلت قوانين ما فيه , وهي متنوعة وكثيرة , وجميعها ذات طبيعة رياضية منضبطة.
ووفقا لمعادلات الفراهيدي فأن القصيدة صيرورة كيانية ذات قانون وآليات متوافقة متناغمة ومنسجمة , وهي إختراع مثل أي مخترع مادي , يجب أن تتوفر فيه متطلبات النشأة المتوازنة والصُنعة الماهرة , الكفيلة بإظهاره كموجود خالد متفاعل مع معطيات الدوران.
وأي خلل في بناء المُخترع وإعداده يتسبب بإصابته بعاهات ومعوقات تمنعه من التأهل للحياة , فلا يمكن لسائب أن يدوم ويؤثر ويتجدد , وإنما لابد له أن يكون محافظا على شكله وقوامه في مواضع متكررة , وذات أحكام مقررة لطبيعة التفاعلات الكيانية الكفيلة بالحفاظ على ملامحه ومواصفاته المميزة الفارقة , وبهذا يتحقق التنوع في ربوع الحياة في أي مكان.
وما دام الكون محكوم بقوانين رياضية متناهية الدقة , فأن كل موجود فيه لا بد له أن يكون مولودا من رحم النظام الكوني الأكبر , والذين يتوهمون بأن البقاء للسراب إنما يعارضون بديهيات الأبد , ويتقاطعون مع مناهج البقاء والرقاء , التي تفرض علينا التجدد والتوالد والتفاعل في معادلاتها وقوانينها الرياضية التي لا مفرّ منها!!
ولهذا فأن رؤية الفراهيدي الشعرية ما هي إلا معادلات رياضية ذات إمتدادات سرمدية , وطاقات تجددية تساهم بالتعبير عنها الأجيال في عصورها المتواكبة , وإذا انفرط عِقدُ كينونتها تتلاشى وتندثر , كأي حالة تتعارض ومناهج المعادلات والتفاعلات الدورانية , التي بموجبها يتحقق البقاء في جميع البقاع الكونية.
فهل لدينا القدرات العقلية الكفيلة بتوليد معادلات رياضية عروضية معاصرة؟!!
د-صادق السامرائي.
--------------------------------
يحسن بعد هذه القراءة التعريج على موضوع ( العروض العربي ليس علما)
https://sites.google.com/site/alarood/laysa-elman
المفضلات