http://www.alalam.ma/def.asp?codelan...te_ar=2012-2-8
البحور والأوزان في القصيدة الحرة(2)
رأينا في الموضوع:(المعالج في الحلقة السابقة)
بعد هذه الآراء التي استعرضناها، نقول:
-المتدارك: هو بحر منفك من المتقارب، لأن "فاعِلُنْ" هي "لُنْ فَعُو". ويلحقه زحاف واحد هو الخبن في مقابل زحاف القبض الوحيد أن يلحق المتقارب. وكلا الزحافين من الزحافات الحسنة. وبهذا، فالبحران يتسمان بالخصائص نفسها، كل واحد منهما يتألف من سبب خفيف ووتد مجموع، أحدهما يبدأ بالسبب الخفيف، والآخر بالوتد المجموع. وبهذا، نستطيع أن نحول، عند القراءة، نصا من المتقارب إلى المتدارك، سواء أكان النص قصيدة أو قصيدة حرة، نحو قول حسان التالي:
فَلاَ/ تَدْعُهُمْ لِقِرَاعِ الْكُمَاةِ
إِلَى/ تَغْلِبٍ إِنَّهُمْ شَرُّ جِيلٍ
وَنَادٍ إِلَى سَوْءَةٍ يَرْكَبُوا(1)
فَلَيْسَ لَكُمْ غَيْرُهُمْ مَذْهَبُ(2)
وقول صلاح عبدالصبور:
يَعْتَرِينِي الْمِزَاجُ الرَّمَادِيْ تَصِيرُ
السَّمَاءُ رَمَادِيَةً، حِينَ تَذْبُلُ
شَمْسُ الأَصِيلِ/ وَتَهْوِي عَلَى خِنْجَرِ
الشَّجَرِ، النُّقَطُ الشَّفَقِيَةُ تَنْزِفُ
مِنْهَا تَمُوتُ بِلاَ ضَجَّةٍ، وَيُوَارِي
أَضَالِعَهَا الْعَارِيَاتِ التُّرَابُ الرَّمِيمْ(3)
ويقول محمد السرغيني:
أَصَابِعُهُ لُغَةٌ وَحْدَهَا/ وَأَصَابِعُهُ بِاحتِمَالاَتِ بُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوِ قُرْبِهَا
خَارِجَ الشَّوْقِ، شَاهِدَةٌ يَتَثَاءَبُ فِيهَا الرُّخَامُ، وَلاَ يَنْطِقُ النَّعْيُ وَالْقَرْمَطِيُّ
الْمُرِيبُ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ شَاهِدَةٌ تَذْرِفُ الْكَلِمَاتِ الصَّغِيرَةَ مِنْ ذَيْلِهَا... (4)
النموذج الأول من المتقارب، لكن إذا بدأنا قراءته من قوله: "تَدْعُهُمْ" إلى آخر البيت حصلنا على المتدارك. والنموذج الثاني من المتقارب إذا حذفنا من أوله حرف الجر، صار متداركا. أما النموذج الثالث، فمن القصائد الحرة على بحر المتدارك، فإننا نستطيع أن نخرج منه إلى المتقارب حين نقف عند كلمة "الأصيل" ثم نستأنف الإنشاد من قوله "وتهوي" إلى آخر المقطع. ويُلاحظ كثرة الفواصل داخل هذا الوزن الجديد، مما يدل على علاقة المتقارب بالمتدارك. ويدخل النموذج الأخير في إطار القصيدة الحرة، وهو على المتقارب، لكن حين نقف على كلمة "وحدها"، ونستأنف الإنشاد، نحصل على المتدارك.
ولهذا، لا يجوز أن ترد فعْلن في حشو المتدارك. وهذا ما أكده الإنجاز الشعري في القصيدة الحرة وفي غيرها من الأشكال الشعرية المنجزة في عصرنا الحديث. لكن شذ عن هذه القاعدة قصائد كثيرة لبعض الشعراء المغاربة، ولعلهم تأثروا بنازك الملائكة التي تعاملت مع المتدارك تعاملا خاصا، إن في شعرها المقطوعي أو في شعرها التفعيلي، وكذا علي أحمد باكثير في مسرحه الشعري.
فالمتدارك عند نازك يخضع لوزن فاعلن التي قد يلحقها الخبن، لكنها تسمح بعلة القطع في بعض أضرب هذا الوزن، نحو قولها:
فِي جَدَاوِلِنَا فِي شِفَاهِ رَوَابِينَا
رِيبَةٌ وَظَلاَمْ
وَسُؤَالٌ تَحَرَّقَ مِلْءَ أَغَانِينَا
أَيْنَ عَبْدُالسَّلاَم
وَالْعُرُوبَةُ تَسْأَلُ أَيْنَ أَضَعْنَاهُ
صَوْتُهَا مَحْزُونْ
هَلْ نَقُولُ لَهَا إِنَّنَا قَدْ رَمَيْنَاهُ
فِي ظَلامِ السُّجُونْ(5)
وقولها:
بِجَنَاحَيْنِ مِنْ حُرْقَةٍ وَحَنَان
صَوْتُ أُمِّي أَتَى عَاقِباً مِنْ وَرَاءِ الزَّمَان
مِنْ وَرَاءِ مَدَى اللاّنِهَايَةِ مِنْ شُرُفَاتِ مَكَان
خَلْفَ أُفْقِ رُؤَايَ وَخَلْفَ العِيان
مِنْ وَرَاءِ حُطامِ الْمَزَارِعِ مِنْ عَطَشِ الإِنْسَان(6)
فالنموذج الأول من الشعر المقطوعي على النظام القافوي التالي: أ ب أ ب. فأضرب[أ] على فعْلن. وهي أضرب، رغم دخول هذا الجزء في سياق "فاعلن"، تتصف بالانسجام. أما [ب] في الرباعية الثانية، فإن لها ضربين: الأول على فعْلان، والثاني على فاعلان، وليس بهما أي انسجام. إذ الأول يعطي وزنا قريبا من الرمل أو المتئد كما في الموشحات الأندلسية، أما الثاني، فيبقى من منهوك المتدارك المذال. وكأن القطع عند نازك الملائكة يقابل البتر في المتقارب. لكن البتر يُلتزم في حين إن القطع في نص نازك غير ملتزم، سواء في النموذج الأول، أو في النموذج الثاني. وهذا شيء غريب لصدوره عن هذه الشاعرة التي تصف أذنها بأنها الميزان السليم لقبول أي إيقاع غريب أو رفضه.
أما علي أحمد باكثير، فقد نظم مسرحيته "أخناتون ونيفرتيتي"، كما يقول، على المتدارك سنة 1938. وقدمها للقراء عام 1940. وهي على نظام شعر التفعيلة. لكن القطع يدخل حشو هذا البحر، حتى لكأن النص متدارك وخبب في الوقت ذاته. وهذا يوضحه النموذج التالي:
يَا حِزْبَ الرَّبِّ أَمُونُ وَيَا إِخْوَانِيْ الْكِرَامْ
أَيْنَ أَنْتُمْ؟ أَرَى النَّارَ تَأْكُلُ فِيكُمْ وَأَنْتُمْ نِيَامْ
وَيْلِي ! أَيَمُوتُ أَمُونُ وَأَنْتُمْ تَعِيشُون؟
أَيَكَادُ الرَّبُّ وَأَنْتُمْ عَلَى نَصْرِهِ قَادِرُونْ؟
أَوَ مَا تُبْصِرُونَ الْمَصِيرَ الذي يَتَهَدَّدُ أَيّامَكُمْ؟
أَوَ مَا تُبْصِرُونَ الْعَدُوَّ الذِي سَيُزَلْزِلُ أَقْدَامَكُمْ؟
وَكَأَنِّي بِحِزْبِ رَعٍ يَشمَتُونَ بِكُمْ
وَيُدِيلُونَ مِنْكُمْ وَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مَا لَدَيْكُمْ
إِنَّ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ هَذَا القَصْرِ الْجَمِيلْ
حَيَّةً رَقْطَاءَ نَمَتْهَا بَرَارِى الشَّآم (...)(7)
وهذا المقطع يقطع على الشكل التالي:
فعْلن فعْلن فعِلن فعِلن فعْلن فاعلان
فاعلن فاعلن فاعلن فعِلن فاعلن فاعلان
فعْلن فعِلن فعِلن فعِلن فاعلاتان
فعِلن فعْلن فعِلن فاعلن فاعلن فاعلان
فعِلن فاعلن فاعلن فاعلن فعِلن فعِلن فاعلن
فعِلن فاعلن فاعلن فاعلن فعِلن فعِلن فاعلن
فِعلن فاعلن فعِلن فاعلن فعِلن
فعِلن فاعلن فاعلن فعْلن فعِلن فاعلاتن
فاعلن فاعلن فاعلن فعْلن فاعلان
فاعلن فعْلن فعِلن فاعلن فاعلان.
إن هذا المقطع، ومعه كل المسرحية، لا يمكن إرجاع بعض أبياته إلى المتقارب كما فعلنا مع المتدارك في ما سبق. إن هذا الاستعمال هو الوحيد الذي وفقفنا عليه في إنجازات المشارقة، لكن بعض الشعراء المغاربة قد ساروا على هذا النهج الغريب، نذكر منهم: البوريمي(8)، والشيخي(9)، وغرباوي أحمد إدريس(10)، والخمار الكنوني(11). وإن كان هذا الأخير قد ظل يسير في ركاب ما أنجزته نازك في هذا الباب. لكن الأكثر عند بعضهم هو إدخال فاعلن في سياق الخبب. وخاصة ما نلاحظه في إنجازات بنيس(12)، ومفدي(13)، والودغيري(14)، وهناوي(15)...
وننهي حديثنا عن المتدارك بالملاحظة التالية: وهي أنه إذا كان هذا البحر موجودا في الدائرة الخامسة، فإننا نستطيع أن نعتبره بحر الرمل مع حذف السبب الخفيف آخر كل جزء من أجزائه:
فاعلا تن فاعلا تن فاعلا تن (...)
فاعلن فاعلن فاعلن
الخبن جائز الخبن جائز الخبن جائز
ولهذا، فإن المتدارك، سواء في القصيدة، أو في أي شكل من أشكال الشعر العربي، بحر خاضع لقوانين عروض الشعر العربي. لكن ماذا عن الخبب؟
-الخبب :-A-مر هذا الوزن بالمراحل التالية:
1.فعْلن فعْلن (...) وهذا الوزن عند الصاحب المختار أساس كل أوزان الشعر العربي(16).
2.فعِلن فعِلن (...).
فالأول عبارة عن توالي الأسباب الخفيفة. والثاني عبارة عن توالي الفواصل الصغرى. وقد مر بنا أن الخليل يُنسب إليه نصان على هذين الوزنين.
أما المرحلة الثالثة لهذا الوزن، فهي مرحلة تم فيها الجمع بين الوزنين في بحر واحد أطلق عليه: الخبب.
إن هذا البحر يختلف عن بحور الشعر العربي. فهو البحر الوحيد الذي خلا من الأوتاد، وقد سبقنا إلى هذه الملاحظة الدكتور كمال خير بك(17)، والأستاذ مصطفى حركات(18). وغياب الوتد أمر غريب في هذا البحر. ولعل حازما قد لمس هذا الغياب، فاخترع له جزءا جديدا سماه "مُتَفَاعِلَتُنْ" واعتبره مكونا من سبب ثقيل (مُتَ) ووتد مفروق (فاعِ) ووتد مجموع (لَتُنْ). ومع ذلك، صار هذا الجزء أغرب أجزاء الشعر العربي، لأنه مكون من وتدين متتاليين ! على أن الإضمار الذي يلحقه يفقده وتديه.
وينتِج عن اعتبار الخبب بحرا بلا وتد أن نستنتج أنه البحر العربي الوحيد الخالي من الإيقاع. كيف؟ سبق أن أشرنا إلى أن الإيقاع يقوم على عنصرين اثنين هما: الثقيل والخفيف اللذين يدخلان في نسق معين. وفي كل بحر، وفي كل جزء من أجزاء البحور العربية، يلاحظ وجود هذا النسق، ما عدا الخبب. فحتى إذا سلمنا بأن الثقل والخفة تتجسدان في السبب الثقيل والسبب الخفيف المكونين للفاصلة باعتبارها وحدة هذا البحر فإن هذا لا يثبت؛ إذ يغلب الإضمار على أجزاء الخبب، حيث إنه غالبا ما تكون التفعيلة مكونة من مقطعين طويلين. وهذه النتيجة تذكرنا بما لاحظناه عن النظم المقطعي في الشعر الفرنسي خاصة، حيث لاحظنا، خلافا للنظم الكمي وللنظم النبري، أنه نظم بلا إيقاع. وليحقق الشاعر الإيقاع في هذا النظم، فإن عليه أن يستنجد بمكونات جمالية خارج تفاعيل هذا النظم. ولم يقل ?حسب علمنا- أحد صراحة بافتقار الخبب إلى الإيقاع، لكن قيلت عباراتٌ ذات طابع معياري هي نتيجة لغياب هذا العنصر فيه. فالخبب، عند المعري، وزن ركيك(19) وعند عبدالله الطيب »الخبب بحر دنيء للغاية، وكله جلبة وضجيج (...) ولا يخفى أن هذا الوزن رتيب جدا«(20). ولعل هذا ما جعل عبدالصبور يرى أن تفعيلة الخبب أقرب إلى لهجة الحوار من الرجز(21) وأنها التفعيلة التي آثرها المداح الشعبي في قوله (الْحَمْدُ لِرَبٍّ مُقْتَدِرٍ) (22) وقريب من هذا قول عبدالله الطيب التالي: »وقد استفاد منه الصوفية في بعض منظوماتهم التي تنشد لتخلق نوعا من الهستيريا، مثل الكلمة المنسوبة للغزالي في دلائل الخيرات«(23).
ولعل غياب الإيقاع في الخبب هو ما جعل الدكترو محمد النويهي يخلق له إيقاعا خارج التفاعيل عن طريق الإنشاد، فاعتبره لذلك وزنا نبريا. يقول: »إن بحر الخبب (...) أشد البحور الستة عشر ارتباطا بنظام النبر وتأثرا به، ولعل هذا هو السبب الذي جعل العرب القدماء يتحاشونه حين أسسوا النظام السائد لإيقاعهم الشعري على الأساس الكمي، حتى فات الخليل أن يحصيه بين البحور الخمسة عشر التي قيدها«(24). وقريب من هذا قول الدكتور كمال خير بك إن هذا الوزن يظل »قادرا (...) على أن يُفلت من إسار النظم الكمي«(25).
والحق أن هذا البحر، إلى جانب الكامل والوافر، بحر شبيه بالنظم الكمي؛ لأن الزمن لا يتغير سواء أجاءت تفعيلته مزاحفة أو سالمة:
فعِلن = - UU = 1-1-2 = 4
فعْلن = - - = 2-2 = 4
ونحن نرى رأي الأستاذ مصطفى حركات أن هذا البحر هومن صنف الكامل والوافر، فهو كامل فقد أوتاده(26)؛ ولهذا، نعتبر [فعِلن] هي أصل الوزن لا [فعْلن] خلافا لما يراه الدكتور أحمد مستجير(27).
-B-رغم أن الشعر العربي لم يُنظم على الخبب، لكن كانت له إمكانية الحضور داخل بحور معينة وهي: البسيط، والمديد، والهزج، والرجز، والرمل، والسريع الرابع والخامس والسادس، والمنسرح الثالث والرابع، والمتقارب، والمتدارك. فالبسيط، إذا طويت أجزاؤه السباعية، وخبنت أجزاؤه الخماسية، أعطى الخبب.
-ه-ه- -ه|-ه- -ه|-ه-ه- -ه|---ه|
-ه---ه|---ه|-ه---ه|---ه|
فاعلُ فاعلُ فعْلن فعِلن فعِلن
لكن هذا لم يحدث على مستوى الإنجاز، لأن الشاعر يدرك أن هذه الصورة تجعل البسيط بحرا بلا أوتاد، أي تجعله بحرا بلا إيقاع؛ ولهذا، يظل الجزء الثالث سالما من الخبن ومن الطي كما مر بنا. وسلامته هذه تمنع البسيط من إمكانية فقدانه إيقاعه.
إن نموذج البسيط يدل على أن الخبب، على مستوى الإنجاز، لا يلحق البحور التي أشرنا إليها. فالواقع الشعري يؤكد أن الزحاف لا يكثر في البيت كثرة تجعله يتحول إلى بحر آخر. فالمتقارب مثلا، الذي يمكن قبض كل أجزائه؛ ليتحول إلى خبب مخروم، لا يقبل، على مستوى الإنجاز، أن يرد هذا الزحاف في البيت أكثر من مرة أو مرتين. وقد مر بنا وصف قصائد لامرئ القيس دليلا على هذا الرأي.
من كل ما تقدم، يبدو واضحا أن الخبب بحر ليس من فصيلة المتدارك. ومع ذلك، نجد باحثا كالمجاطي، في دراسته، لا يميز بينهما ويعتبرهما بحرا واحدا. يقول، وهو يرد على نازك، في موضوع [فاعِلُ] الذي لحق خَبَبَهَا: »لا صحة لما زعمته السيدة نازك من أن استخدام فاعل في حشو الخبب يزيد إيقاع البحر سعة وليونة. يكفي للتدليل على ذلك مقارنةُ البيت المستشهد به من شعرها، وهو:
(كَانَ الْمَغْرِبُ لوَن َذَبِيحِ)
وَالأُفْقُ كَآبَةُ مَجْرُوحِ
بِهذا المقطع لأحمد عبدالمعطي حجازي حيث يستخدم التفعيلة الطبيعية للبحر:
وَأَنَا خِنْجَرٌ طَالِعٌ أَمْ هِلاَلٌ تَحَدَّرَ بَيْنَ التَّرَائِبِ
حَتَّى اخْتَفَى فِي الذَّوَائِبِ
ثُمَّ اغْتَدَى جَسَداً وَارْتدَى جَسَدَا
ليتبين كيف يترقرق النغم في أبيات حجازي حتى لتكاد كلُّ كلمة أن تتجسد إيقاعيا في تفعيلة (...) وكيف يتعثر الإيقاع في مثل قولها: مَغْرِبُ لَوْنَ ذَبيح«(28). وهذا معناه أن الباحث يعتقد أن نص نازك ونص حجازي من بحر واحد. والحق أنه لا مجال للموازنة بين النصين؛ لأن الأول على بحر الخبب، والثاني على بحر المتدارك. هذا معناه أن الأول غير موقع، لكنه يعبر بصدق عن حالة نفسية تعانيها الشاعرة، والثاني موقع، ولعل التجربةَ المعَبَّرَ عنها به هي التي أملت على الشاعر هذا الإيقاع.
وهذا الأستاذ علي يونس يتحدث عن الخبب، ويرى أن [فاعلُ] تدخله كما تدخله كذلك فعولن. يقول: »أما فاعلن وفعولن، فورود كل منهما أقل كثيرا من فاعلُ. ولعل عملية استقراء واسعة تدلنا على أن شعراء بعينهم هم الذين يُدخلون إحدى التفعيلتين أو كلتيهما في الخبب. وأدونيس واحد من هؤلاء فمن قوله:
يَجْهَلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ هَذَا الْكَلامْ
وَيَجْهَلُ صَوْتَ الْبَرَارِي
إِنَّهُ مُثْقَلٌ بِاللُّغَاتِ الْبَعِيدَهْ
ومن قوله:
أَفْتَحُ بَاباً عَلَى الأَرْضِ أُشْعِلُ نَارَ الْحُضُورْ
وَالْغُيُومُ الَّتِي تَتَعَاكَسُ أَوْ تَتَوَالَى
فِي الْمُحِيطِ وَأَمْوَاجِهِ الْعَاشِقَهْ
فِي الْجِبَالِ وَفِي غَابَاتِهَا فِي الصُّخُورْ
ففي الأبيات السابقة، نجد فاعلن أو فعولن، أو نجدهما معا ضمن وزن الخبب«(29). والحق أن أبيات أدونيس على المتدارك، وسنعود إليها في الفصل الموالي من هذا الباب.
2-وحدة الشطر:
مارس شعراء القصيدة الحرة الشعر الذي يقوم على وحدة التفعيلة بكثرة، وقليل منهم مارسوا وحدة الشطر، منهم: يوسف الخال، وأدونيس، والسياب، وحجازي، والسرغيني، والطبال، وسعدي يوسف، وقاسم حداد، وبنسالم الدمناتي،وأحمد دحبور، وأحمد بنميمون (..) وهذا يعني أن هؤلاء الشعراء نظموا على بحور مُحَرَّمَة على شعر التفعيلة، وهي السريع، والطويل، والبسيط، والمنسرح، والخفيف، والمجتث، والمديد. لأن هذه الأبحر أكثر ارتباطا بالتراث.
*السريع: حددت نازك الملائكة الطريقة التي ينبغي للشاعر أن ينظم على هذا البحر، وذكرت أنها: (مستفعلن Xx) + فاعلن .وقد طبقت هذا الشكل في ما أنجزته من شعر على هذا البحر، لكن السياب وأدونيس، بصفة خاصة، تعاملا مع هذا البحر تعاملا خاصا.
لنأخذ قصيدة "إلى جميلة بوحيرد" للسياب نموذجا(30). إنها قصيدة طويلة، بها أبيات قصيرة، وأبيات طويلة، موزعة على الشكل التالي [الأرقام تدل على عدد التفاعيل في البيت]: 3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-2-3-3-3-3-9-6-3-3-6-6-3-3-6-3-3-6-3-3-3-6-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-3-2.
تقوم هذه القصيدة الطويلة على وحدة الشطر، وهذه الوحدة، إما قصيرة، وهي: (مستفعلن فاعلن)، وإما طويلة، وهي: (مستفعلن مستفعلن فاعلن). والطويلة تتكرر في البيت إما مرة واحدة، وإما أكثر. وللتمثيل، نقدم البيت الطويل التالي من هذه القصيدة، وهو:
حَيْثُ الْتَقَى الإنْسَانُ وَالله ُواَلأمْواتُ وَالأحْيَاءُ فِي شَهْقَةٍ
فِي رَعْشَةٍ لِلضَّرْبَةِ الْقَاضِيَهْ
فهذا البيت يساوي [(مستفعلن?2) + فاعلن]?3. حيث يمكن كتابته على الشكل التالي:
حَيْثُ الْتَقَى الإنْسانُ والله ُوَالْــ
ـأَمواتُ والأحياءُ فِي شهقــةٍ
فِي رعشةٍ للضربةِ القاضـيَــه
وهذا معناه أن البيت يساوي ثلاثة أشطر السريع. لكن للسياب، ولأدونيس نصوصا أخرى تشتمل بعض أبياتها على شطر+الوحدة القصيرة التي لا تتكرر، نحو:
-إِنِّي لَأَبْكِي مِثْلَمَا أَنْتَ تَبْكِي فِي الدُّجَى وَحْدِي(31)
-أَلْفَيْتَنِي أَحْسِبُ مَا ظَلَّ فِي جَيْبِي مِنَ النَّقْدِ(32)
-سَأَطْرُقُ الْبَابَ عَلَى الْمَوْتِ فِي دِهْلِيزِ مُسْتَشْفَى(33)
-فِي بُرْهَةٍ طَالَ انْتِظَارِي بِهَا فِي مَعْبَرٍ مِنْ دِمَاء(34)
فكل بيت من هذه الأبيات هو عبارة عن: [(مستفعلن?2)+فاعلن]+(مستفعلن+فاعلن) لكن الوحدة القصيرة، سنجدها في القصائد الحرة القائمة على البسيط، وهي في الوقت ذاته، خاصةً حين يلحق جزأها الأخيرَ القطعُ، إحدى الوحداتِ الأساسية في الموشحات الأندلسية، وأحيانا
قد تصير وحدة تتكرر أكثر من مرة في النص، نحو قول السياب:
نَاحِلَةٌ كَالصَّدَى
أَنْغَامُهُ البِلَّوْرْ
كَأنَ فِيهَا مَدَى
يَجْرَحْنَ قَلْبِي فَيَسْتَنْزِفْنَ مِنْهُ النُّورْ
وَتَغْرُبُ الشَّمْسُ وَهذا الْمَسَاءْ
أَمْطَرَ فِي جَيْكُورْ(35)
ففي هذا النص، نلاحظ أن الشاعر قد اتخذ وحدتين لقياس قصيدته. الوحدة الأولى هي: (مستفعلن فاعلن) Xx، والثانية هي: (مستفعلن مستفعلن فاعلن) Xx. فالوحدة القصيرة نجدها في الأبيات: 1-2-3-4-6. والوحدة الكبرى، نجدها في البيت الخامس. ومثل هذا ،نجده عند صلاح عبدالصبور في قوله:
هَلْ كَانَ مَا بَيْنَنَا
حُبًّا وَعِشْنَاهُ
أَمْ كَانَ حُلْماً عِنْدَمَا
أَدْرَكَنَا الصُّبْحُ نَسِينَاهُ
أَمْ أَنَّنَا خِفْنَا عَلَى قَلْبِنَا
لَوْ عَاشَ لَوْ فُتِّحَتْ لِلشَّمْسِ عَيْنَاهُ
كنَّا رَعَيْنَاهُ
لَمَّا تَرَكْنَاهُ
فِي مَهْمَهٍ قَاسٍ رَمَيْنَاهُ
فِي قَلْبِهِ أَنْفَاسُهُ تَبْكِي
أَنَّا هَجَرْنَاهُ
يَا أَيُّهَا الْحُبُّ الذي مَاتَا
لَوْ يَرْجِعُ الْيَوْمَ الذِي فَاتَا
لَوْ عَادَ يَوْمٌ مِنْكَ عِشْنَاُه(36)
إذن، فللسريع وحدتان للقياس:
أ= (مستفعلن ? 2) + فاعلن
ب= مستفعلن + فاعلن
وللبيت في هذا البحر، أربع صور، وهي أ Xx أو( أ Xx) + ب أو (أ + ب) أو (بXx).
والملاحظ أن السياب حافظ على خصوصية السريع. فقد جعل الجزء الذي يسبق فاعلن سالما من الخبن. إذ لم يشذ عن هذا سوى النماذج التالية:
- أنْ يُرْسِلَ الْفُراتُ طُوفَانَهُ(37)
- كَأَنَّهُ الشَّقِيقُ إِذْ يُزْهِرُ(38)
- وَأَنْتَ فِي سَفِينَةِ الْقُرْصان(39)
أما أدونيس، فلم يحفل بهذه القاعدة، إن في قصائده الحرة، أو في غيرها.
-المنسرح: يقول الدكترو شعبان صلاح: »نستطيع (...) أن نقرر (بعد قراءة متأنية لكم هائل من الشعر الحر- أن هناك خمسة أبحر تراثية لم ينظم عليها الشعراء أية قصيدة من الشعر الحر، وهي: المنسرح، والمديد، والمجتث، والمضارع، والمقتضب«(40). ويهمنا من كلامه في هذه الفقرة إقراره بعدم دخول المنسرح القصيدة الحرة. وهذا يكذبه ما أنجزه الشاعر أدونيس. ولعله الشاعر الوحيد الذي نظم على هذا البحر. من ذلك قوله:
يَبْتَكِرُونَ الْحَيَاةَ بِالْعَدَدِ
بِوَاحِدٍ جَائِعٍ بِدُونِ يَدِ
وَآخَرٍ نِصْفُهُ مِنَ الزَّبَدِ
لا يُبْدِعُ الرَّمْلُ أَيَّ أُغْنِيَةٍ
وَلا تُحِسُّ الأَشْيَاءُ بِالأَبَدِ(41)
فهذا النص موزع قافويا على الشكل التالي: أ أ أ أ. أي إنه على أربعة أبيات. الأبيات 1-2-3-. يقوم كل واحد منها على شطر واحد. في حين، يقوم البيت الرابع على شطرين اثنين. إذن، فوحدة الوزن هي: (مستفعلن مفعولات مستعلن) ? 2. وقد حافظ الشاعر على خصائص هذا البحر، حيث التزم بطي الجزء الثالث. كما في القصيدة.
هوامش
(1) ديوانه. ضبط عبدالرحمن البرقوقي. دار الأندلس، بيروت. ط: 1386/1966. ص: 118.
(2) ن.م. ص: 119.
(3) ديوانه: 1/507.
(4) ويكون إحراق أسمائه الآتية. ص: 35.
(5) شجرة القمر. نازك. دار العلم للملايين ومكتبة النهضة. بغداد. ط1. يناير 1968. ص: 75.
(6) للصلاة والثورة. نازك. دار العلم للملايين. بيروت. ط1: 1978. ص: 58.
(7) أختاتون ونفرتيتي. دار مصر للطابعة. ص: 18.
(8) مليلية في القلب. انظر قصائده المكتوبة على الخبب/ المتدارك.
(9) حينما يتحول الحزن جمرا. انظر خاصة قصيدته "غرناطة". ص: 5.
(10) قلب في العراء. انظر القصائد التالية: على هامش اذكار. ص: 33. رحلة. ص: 35. فلب في العراء. ص: 36. انتظار. ص: 67. مات وجدا. ص: 76.
(11) رماد هسبريس..
(12) انظر مثلا مجموعته "هبة الفراغ" خاصة القصائد التالية: متاه-توأم-سؤال- أشباه- فقدان ? كتابة- سفر ? حيرة...
(13) انظر مجموعتيه: "في انتظار موسم الرياح" و"الوقوف في مرتفعات الصحو". وكل قصائده من بحر الخبب، وأغلبها تقبل دخول فاعلن.
(14) الموت في قرية رمادية. انظر على سبيل المثال: "الغصون والفتائن". ص: 9. و"هيلوبوليس المنتظرة" ص: 20. الخ.
(15) انظر على سبيل المثال مجموعته: أحزان هذا العصر. مع التركيز على القصائد التالية: رؤيا ثانية. ص: 4 و"دفاعا عن حب قدسي". ص: 57 و"سندريلا". ص: 87. و"هذا زمن العمرين". ص: 15.
(16) دائرة الوحدة .ص: 314 وما بعدها.
(17) حركة الحداثة. ص: 334 و335 و339.
(18) كتاب العروض. حركات. ص: 96.
(19) رسالة الصاهل. ص: 528.
(20) المرشد: 1/80.
(21) ديوان عبدالصبور. 610.
(22) ن.م. ص: 690.
(23) المرشد: 1/80 وما بعدها.
(24) قضية الشعر الجديد. ص: 316.
(25) حركة الحداثة. ص: 293.
(26) قواعد الشعر. حركات. ص: 140.
(27) في بحور الشعر. أحمد مستجير. ص: 103.
(28) البنية الإيقاعية الجديدة. المعداوي. مجلة الوحدة. ص: 79.
(29) النقد الأدبي. علي يونس. ص: 158.
(30) أنشودة المطر. ص: 62.
(31) منزل الأقنان. دار العودجة. بيروت. ط: 1971. ص: 63.
(32) ن.م.ص: 64.
(33) نفسه.
(34) نفسه.
(35) شناشيل ابنة الجلبي. دار العودة. بيروت. ط: 1971. ص: 43.
(36) ديوان اصلاح: 1/131 وما بعدها.
(37) أنشودة المطر. ص: 103.
(38) ن.م. ص: 111.
(39) شناشيل ابنة الجلبي. ص: 78.
(40) موسيقى الشعر بين الاتباع والإبداع. ط. 2: 1409/1989. ص: 301.
(41).أوراق في الريح ، ص :14 ، وانظر كذلك ص: 82 من قصائد أولى
المفضلات