احتضار اللغة العربية: هل هو خبر جديد؟.. وهل نحن متفرجون؟... ـــ د.حسام الخطيب

http://www.awu-dam.org/alesbouh%2020...isb967-002.htm


خلال الشهر الماضي (حزيران-يونيو) دار على صفحات جريدة "الحياة" ما يشبه السجال بين الأمين العام للجامعة العربية، العربي الشهم عمرو موسى، والشاعر المبدع محمد بنيس، وكل منهما علم بارز ومُجلٍّ في موقعه ومنطقه. وكان محمد بنيس قد نشر مقالاً في "الحياة" أعلن فيه احتضار اللغة العربية، وأصرَّ على كلمة "احتضار" من خلال سيل من الأٍسئلة حول العربية والانتماء العربي وحتى العالم العربي. وكان أن ردَّ عليه الأمين العام للجامعة العربية مدافعاً ومنافحاً عن اللغة العربية. وأجابه محمد بنيس برد مهذب شكلاً، إلاَّ أنَّه موغل في تأكيد احتضار اللغة العربية، وما يتصل بها من الانتماء العربي، وحتى تسمية المنطقة التي تضم دول الجامعة العربية الاثنتين وعشرين!؟؟...‏

دولٌ تحسبها شرقية*وإذا أمعنت فالحاكم غربي ورحم الله الشاعر "أبو سلمى".‏

كانت تسمية المنطقة بمصطلح "العالم العربي" موضع إنكار من الشاعر العربي، ومثلها فكرة العروبة. وهنا خرج بنيس عن لعبة التساؤل وطرح الموضوع بلهجة تقريرية جازمة، ولعله من المفيد أن نقدم المقطع التالي من كلامه الذي يشكل لبّ موقفه، على الرغم من تأكيداته في أول المقال وفي خاتمته أنه "من واجب المثقف أن يختار السؤال ويتعلم كيف يطرح السؤال". وأخشى ما يخشاه المرء أن يكون المقطع التالي المشار إليه، قد أقفل الباب على أية أسئلة. وأتمنى أن يكون هذا الاستنتاج نوعاً من الوهم. وهذا هو المقطع:‏

"أما العروبة فهي فكرة بالدرجة الأولى، بل هي فكرة من أفكار العصر الحديث. بذلك جاءت بسرعة، تأثراً بفكرة القوميات الأوروبية، ومضت بسرعة، لأنها لم تكن تستوعب معنى الشعوب التي أصبحت بفعل الفكرة تتسمى بالشعوب العربية، ولا تدرك تاريخها الخاص ولا تركيبها الاجتماعي أو اللغوي أو الثقافي، مأزق لفكرة تصرٌّ على أن تبقى جامدة، لا تريد أن تتحول إلى فكرة متحركة. ثم جاءت حرب الخليج الأولى وجاءت الثانية. ولنا ما نريد أن نرى ونلاحظ في هذا العالم الذي مازلنا مصرّين على تسميته بالعالم العربي فيما هو شظايا متطايرة أو هو يتعرض لحملة أصولية منتصرة على الأرض تدعو للانتماء إلى العالم الإسلامي لا العربي أو تعبّر عن رفضها لتسميته(؟) حركات كردية وأمازيغية(؟؟؟).‏

ويضيف السيد محمد بنيس مباشرةً:‏

"إن الولايات المتحدة أول من شطب على هذه التسمية عندما طرحت تسمية جديدة هي الشرق الأوسط الكبير، التي سنصبح مستعملين لها ونحن راضون، فلا المثقفون ولا السياسيون ولا الاقتصاديون نجحوا في إعطاء معنى متحرك لتسمية العالم العربي".‏

انتهى كلام بنيس.‏

وهكذا يتضح أن المسألة عند محمد بنيس ليست مسألة اللغة العربية، بل مسألة ما تمثله من انتماء عربي. حتى تلك التسمية الغامضة، المطاطة "العالم العربي"، تثير لديه إشكالات. مع العلم أن هذه التسمية غربية، أصلاً، وكانت الجماعات العربية تستنكرها وتفضل عليها مصطلح "الوطن العربي"، الذي لم يفطن إليه شاعرنا. ومن الواضح أن اعتراضاته على مصطلح "العالم العربي" هي أَوْلى بمصطلح "الوطن العربي".‏

وبالطبع هذا مجال مفتوح لحرية الرأي والتساؤل. ولكن الأسئلة بحد ذاتها ليست دائماً بريئة من التحزب، ولا تقود عادة إلى موقع المقاومة –كما أكد بنيس- بل هي أقرب وسيلة إلى التشكيك وجرّ الحالة المفترضة إلى حافة الاحتضار. وعن ذلك يُسأل أهل الإيمان، فالكفر يبدأ من الأسئلة. ولا يعني ذلك أي اعتراض على الأسئلة بحد ذاتها، ولكن لِنَقُلْ مرة أخرى إن الأسئلة في حالات عدم البراءة هي أكثر خطورة من الأسئلة الجاهزة، وفي كل فتر ة من الأزمنة العصيبة في تاريخنا وتاريخ العالم يلجأ المثقفون والمفكرون إلى الأسئلة تعبيراً عن القلق أو الرفض أو الحيرة أو الاستلاب alienation.‏

والمرجوّ ألا يفهم من ذلك أي تعريض أو إيحاء بما تبطنه أسئلة ذلك الشاعر الذي تألق باللغة العربية، ولقي من دوي الشهرة على امتداد الوطن العربي ما لا يحلم به أي شاعر إقليمي ضمن وطنه القُطري. والأدب والفن بالطبيعة يبحثان دائماً عن الفضاء الأوسع ويحلمان بالكونية المطلقة. وهنا يمكن أن يشير المرء إلى أن أهل الأدب والفن هم عادة حماة الانتماء الأوسع. والحقيقة أن الانتماء العربي ينبغي ألا يهتز بسبب الوضع المزري الذي تُُعاني منه البلدان العربية (هل ينبغي أن نسميها الشرق أوسطية؟)، فهذا انتماء جغرافي ذو بعد واحد.‏

وكان المستعمرون في السابق اخترعوا تسميات جغرافية مضلّلة من أجل تذويب الانتماء مثل: الشرق الأدنى، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، فهل هذا انتماء: فشرق ماذا وبالنسبة لمن؟..‏

نقطة أخرى في مجال الانتماء لابد من الإعلان عنها بصراحة. وفي هذه المرة سنستعمل صيغة سؤال، ولكنه سؤال استنكاري وهانحن نعترف بانحرافه عن البراءة.‏

هل مصيبة الأقطار العربية هي من فعل الانتماء العربي والتعامل باللغة العربية؟؟‏

وهل كل بلد عربي على حدة يجد نفسه رافلاً بأثواب النعيم والحكام الصالحين ولا يكدره جوع ولا عِوَز؟.. وليس له من مصيبة سوى مصيبة الانتماء العربي واللغة العربية.‏

ألم تخرج أقطار عربية عن عباءة الانتماء الأوسع، فكانت معاناتها أقسى وأوجع؟..‏

ألم تتخير أقطار أخرى لغة (متحضرة) غير لغة العرب، فلم تصنع مجداً ولا قفزاً وإنما خلقت الإشكالات الداخلية والفتنة المدمرة؟..‏

ما أهون الأسئلة يا شاعر المشرق والمغرب وما أصعب الأجوبة.‏

وهل مسألة اللغة العربية جديدة على أسماعنا وفطنّا لها اليوم أم أنها متكررة منذ مطلع القرن الماضي حين اعتقد متسائلون كثيرون أنها سوف تفنى وجرت محاولات صاعقة لإحلال لغات أخرى محلها ولم تُجد فتيلاً؟..‏

وهل محنة اللغة العربية وضعفها مجرد محنة معزولة عن ضعف آليات الحكم و آليات الاقتصاد وآليات الإعمار وآليات الحرية والديمقراطية؟؟ وآليات التربية والتحضّر؟..‏

لماذا يستمر كل قطر عربي في إلقاء اللوم على الآخرين من العرب؟.. وينسى نفسه؟..‏

وهل إذا حُلت مشكلة الأقليات الظاهرة الآن على المستوى القومي: فسوف تنتهي مشكلة الأقليات في كل بلد عربي على حدة أم ستبرز أقليات أخرى على أسس مختلفة؟..‏

يكفي أن نتذكر العراق الدامي وبلداناً أخرى تسيل دماؤها من جروحها ولا أحد يسمع بها.‏

ختاماً..‏

تحية ومحبة لك وللأمين العام، ومرحى لأسلوبك الرفيع في "مثابة الرد على الأمين العام" وعذراً لأسلوبي الجريح الذي غلبني في أكثر الأحيان فقصّر في بيان مكانتك المرموقة في الأدب العربي-والفكر العربي.‏