ذكر أبو الحسن العروضي أن من الأسباب التي جعلت الخليل يضرب عن ذكر الخبب وأدت به إلى تركه واطّراحه " أنه يجيء في حشو أبياته ( فعلن ) ساكن العين ، ومثل هذا لا يقع إلا في الضرب خاصة ، أو في العروض إذا كانت مصرّعة " .
غير أنا وجدنا الخليل يأتي في باب البسيط ببيت سادس تكون فيه العروض مجزوءة مقطوعة والضرب مثلها مجزوء مقطوع . ولا خلاف بين العروضيين على القطع في الضرب فهذا وارد في كثير من البحور ، وإنما الخلاف في وقوع القطع في العروض لغير غاية التصريع .
وربما لهذا السبب أيضا لم يعتدّ الخليل بالقطع في عروض الرجز في نحو هذا البيت الذي عدّه العروضيون من الشواذ ، وهو قوله :
لأطرقنّ حصنهم صباحاً=== وأبركنّ مَبرَكَ النعامة
فلماذا إذن تنازل الخليل عن شرطه بمنع القطع في العروض حين واجه نماذج من الشعر ، لعل أشهرها معلقة عبيد ، فلم يمكنه تجاهلها ، كيف لا ، وهي إحدى المعلقات العشر !
ولنا أن نخمّن مقدار النفور الذي كان يكتنف نفس الخليل وهو يجدها مضطرة إلى قبول نموذج عبيد الذي رفضه معظم النقاد ورأوا فيه انتهاكا صريحا لقواعد النظم ، ويتجلى لنا هذا النفور في اختياره لمصطلح (التخليع) عند وصفه لهذا الضرب ، قال قدامة بن جعفر :
" التخليع : وهو أن يكون قبيح الوزن قد أفرط قائله في تزحيفه ، وجعل ذلك بِنية للشعر كله ، حتى ميّله إلى الانكسار ، وأخرجه عن باب الشعر الذي يعرف السامع له صحة وزنه في أول وهلة ، إلى ما ينكره حتى يُنعم ذوقه ، أو يعرضه على العروض فيصحّ فيه ، فإن ما جرى من الشعر هذا المجرى ناقص الطلاوة ، قليل الحلاوة ، وذلك مثل قول ...ومثل قصيدة عبيد بن الأبرص ، وفيها أبيات قد خرجت عن العروض البتّة ، وقبّح ذلك جودة الشعر ، حتى أصاره إلى حد الرديء ، فمن ذلك قوله :
والمرء ما عاش في تكذيبٍ === طولُ الحياة له تعذيبُ
فهذا معنى جيد ولفظ حسن ، إلا أن وزنه قد شانه وقبّح حسنه ، وأفسد جيده " .
ومن عجب هنا أن أجد أخي الدكتور عمر خلوف يريد أن يبقي على اسم المخلع حصريا لتلك الصورة التي وضع لها تجزئة يرى " أنها مشتقة من المنسرح لا غير، وإن استقلت بحراً قائماً بنفسه ... شأن (المجتث)، الذي نعتبره مشتقاً من البسيط أيضاً، ثم استقلّ بنفسه " وقد رأينا الخليل يختص مجزوء البسيط ( عقابا له على تمرده على قواعد العروض ) بهذا المصطلح ذي المعنى البغيض .
ويكفي جعل مخلع البسيط اسما لهذا النمط من القصائد الذي يرد على قريّ قصيدة عبيد من نحو قول امرئ القيس :
عيناكَ دمعُهُما سجالُ=== كأن شأنيهما أوشالُ
أو جدول في ظلال نخل===للماء من تحته مجالُ
وهي قصيدة تبلغ سبعة عشر بيتا ، وأعجب لها كيف لم تحرز مثل تلك الشهرة التي لقصيدة عبيد مع أنها لأمير شعراء الجاهلية .
ولدي _ غير اعتراضي على الاسم _ اعتراض أشد على تجزئة خلوف لمخلعه ، فقد جاءنا فيها بثلاثة تفاعيل في الشطر أولاها وثانيتها من المنسرح وهما من جملة التفاعيل التي تنتمي إلى النظام الخليلي بينما الأخيرة لا يمكننا إدراجها في أي نظام قائم على التفعيلة إذ أنها لا تعدو أن تكون مجرد أسباب غير محددة ( أي أنه يمكننا أن نعدها من الخبب مثلا ) .
ومع أن الأخ خلوف يعرف وجهة نظري تجاه هذا التطور الذي حدث للمخلع بحيث صار _ كما يقول حازم _ وزنا قائما بذاته ، إلا أنني أريد هنا ، على سبيل الاستدراك ، أن أجاري ما فعله قدامى العروضيين حين أثبتوا أعاريض وضروبا لم يفطن إليها الخليل من نحو ثاني المنسرح
( على رأي المعري ) وهو الضرب المقطوع ، كقول الشاعر القديم :
ذاك وقد أذعر الوحوش بصلـــ=====ــتِ الخدّ رحبٍ لبانه مُجفَرْ
فنثبت من المنسرح الأبيات التالية : ( الشواهد مستقاه مما جلبه العروضي الراوية عمر خلوف )
- عروض حذاء ممنوعة من الخبن ( مستف ) ، ضربها مثلها ، شاهده قول علقمة ذي جدن :
وأيُّ عيشٍ بعدَ المَثامِـ === ـنَةِ الكرامِ لنا يطيبُ
ومنه قول دعبل :
فهلْ لِمولاتيْ عطْفُ قلبٍ === وللذي في الحَشا انقراضُ
- مشطور ، عروضه ضربه ، مقطوع مذال ، شاهده قول الكميت :
عَقيلةٌ بينَ خُرّدٍ أتْرابْ
- مشطور ، عروضه ضربه ، مقطوع ، شاهده قول ابن بقي :

هلْ كانَ غيري يعتزُّ بالذِّلَّهْ
- مشطور ، عروضه ضربه ، أحذ مسبّغ ، شاهده قول ابن حجة :
نادَيتُهُ والدّموعُ طوفانْ
- مشطور ، عروضه ضربه ، أحذّ ، شاهده قول التطيلي :
أحبِبْ بهِ زائراً أَلَمّا
أما قول ابن لبون : علّقتُهُ أوْطَفاً كَحيلْ
وقول ابن بقي : يا مَنْ بهِ يُضرَبُ المَثَلْ
فهما عروضان يمكنك أن تعدهما مشطورين إذا وجدت للنقص في تفعيلتهما الثالثة اسم يدل على الزحاف أو العلة فيها ، ويمكنك أن تعدهما منهوكين إذا وجدت للزيادة في التفعيلة الثانية منهما الاسم الذي يختص به .
وحياكم الله في هذه العشر الأواخر من رمضان .